صديقان نشآ معأ فى حى واحد وتعلما فى نفس المدارس بمراحلها المختلفة حتى الجامعة فقد التحقا بنفس كلية التجارة بنفس الجامعة وتخرجا منها فى نفس العام وأديا الخدمة العسكرية ثم بدآ فى البحث عن العمل ففشلا فى عدة محاولات حيث يحتاج العمل إلى وسائط وظهور ndash;جمع ظهرأى سند يقوّيه mdash;ومال وفير ونفاق وتملق وتردى أخلاقى كأننا سمك يتعارك على قطعة طعام فى البحر وأقول سمك حتى لا أجرح الكرامة الإنسانية، أما الصديقان فلم يكن أمامهما بد سوى السفر لدول الخليج ولكنهما أخفقا أيضأ بسبب الإرتفاع الباهظ لسعر العقد فى مافيا مكاتب إلحاق العمالة بالخارج ألمنتشرة كالسرطان فى كل مكان من مصر والتى يجب إستئصالها من جذورها وإستبدالها بمصلحة حكومية مخلصة بلا رشوة ndash;طبعأ حلم خيالىndash; توفر هذه العقود للراغبين فى السفر بدون أن يضطر الواحد منهم لبيع كل ما يملك من أجل السفر حتى إنهم ليذكروننى بذلك الرجل الذى باع بيته لكى يتزوج فأضحك من شدة الغم وأبكى من فرط الضحك ألمهم نعود إلى الصديقين الحميمين الذين قررا بعد تفكير عميق السفر للأردن ولقد كانت مفتوحة فى السابق لكل مصرى يرغب فى كسب لقمة عيشه بدون التعقيدات المستحدثة فى هذه الأيام الغبراء وكأن كل شىء يقف فى وجه لقمة عيش المصرى حتى الأردن ألتى شيّدها المصريون بأيديهم أصبحت تغلق أبوابها فى وجوههم وتشترط عليهم الحصول على عقد أى ترمى بهم فى أحضان اللصوص والسماسرة من أجل توفير العقد المزعوم فلك الله يا شعب مصر الطيب العريق المكافح الصابر على كل بلاء، فسافرالصديقان عن طريق البر بأقل الأسعار وعملا معأ فى مصنع بلاط ثم فى محل لبيع الأسماك لعدة سنوات ثم قررا العودة بعد ان فقدا نصف صحتيهما وصارا كالعجوزين الهرمين ولكنهما استردا جزءأ كبيرأ من هذه الصحة المفقودة بعد العودة لأرض مصر الغالية والتغذى على طعامها الرائع والشرب من نيلها الخالد
كان احدهما مولعأ بقراءة الكتب محبأ للفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين والعلم والمتعلمين فكان لا يكف عن شراء الكتب والبحوث وقراءة المقالات والمذكرات والبحث عن الآراء فى كل اتجاه وفى كل حدب، اما الآخر فكان عاديأ لا يهتم بما يهتم به صاحبه ويعتبر ذلك مضيعة للوقت وإهدارأ لعمر الإنسان القصير الذى يجب إضاعته فى التجارة والمكسب وتكوين الثروات وبناء العمارات، وجهات نظر يجب إحترامها مع شجبنا الاكيد لها وتأييدنا العميق لمحبى الفكر والقراءة والثقافة قرر محب الثقافة ان يفتح مكتبة لبيع الكتب والمؤلفات القديمة والحديثة فقام بإنفاق كل ما يملك على تجهيز المكتبة على أحدث طراز حتى تجذب الزبائن وجعلها كالحديقة حيث وزّع بها الزهور والورود فى كل جهة ونشر بها البخور والعطور ففاحت رائحتها العبقة فى كل الإتجاهات اما الآخر فقد خرج بفكرة رهيبة تقشعر منها الأبدان أتعرفون ما هى؟ لقد فتح محل فسخانى mdash; نوع من السمك المملح يصنعه المصريونmdash; قائلأ انها الطريقة البسيطة والسريعة لتكوين ثروة من حلال فى مصر ndash;عليك ببيع الطعامmdash; وهو يعلم جيدأ حب
المصريين للفسيخ ليس فى شم النسيم ndash;عيد الربيع فى مصرmdash; فحسب بل على مدار العام وخصوصأ النساء فالواحدة منهن بمجرد أن تذكر أمامها كلمة فسيخ بالبصل والليمون قد تسقط مغشيأ عليها من شدة النشوة والتلذذ بهذه الكلمات وقد تنقل إلى غرفة العناية المركزة لو لم يجرى المسكين زوجها لإحضار الفسيخ ولوازمه من ليمون وبصل وخلافهgt;


ارأيتم ذلك الشاب الذكى المفترى كيف فكّر؟ وكيف قدّر؟ وكيف تبحّر فى علوم الأكل المصرى وكيف توصّل إلى ان الفسيخ هو سيد الأطعمة لدى نصف الرجال وكل النساء واتحدى أن تقوم سيدة بالتعليق تحت مقالى بأنها لا تحب الفسيخ بالبصل والليمون حتى لو كانت طبيبة وأنا طبيب واعرف ماذا اقول ولا أريد الإطالة عن الطبيبات المحبات للفسيخ رغم معرفتهن الأكيدة بما قد يجلبه من أمراض وابتلاءات ألمهم نعود إلى الصديقين المتناقضين ويجدر هنا ألا نطلق عليهما صديقين ولكن نقول زميلان لبعد المسافة الفكرية بينهما ووجود هوة سحيقة تفصلهما فلا يليق ان يتصادقا وهذا رأييى ولا افرضه على أحد، مرت الأيام والشهور وكانت المكتبة فى بداية الأمر يفد عليها الناس يقلبون الكتب ويقرؤن عناوينها وأسعارها المدونة عليها ثم يضعونها ويخرجون ومن النادر أن يشترى أحدهم كتابأ ومع هذا فقد كان أخونا المثقف سعيدأ وكان يعتقد أن الخير قادم وأن سوق الثقافة سيزدهر وفى نفس الوقت كان الناس يتوافدون أفواجأ على محل الفسيخ المواجه له فى نفس الشارع والذى يملكه زميله ولا يخرج الرجل أو المرأة إلا ومعه لفة الفسيخ المعتبرة ولا يعانى فى البحث عن أهل الليمون والبصل فقد تزاحموا فى المكان لبيع منتجاتهم التى لا تحلو إلا مع الفسيخ فكان صاحبنا محب الثقافة يتعجب مما يرى ولا ينبس بحرف حتى لا يظن زميله أنه حاقد عليه أو مستكثر رزقه عليه وهى تهمة خطيرة وكفيلة بقطع الصلة بينهما إلى يوم يبعثون ظل الأمر هكذا يا سادة حتى مر عام كامل فماذا كانت النتيجة؟
كانت مخزية ومخجلة فى ذات الوقت فها هو الفسخانى يشترى سيارة حديثة ويضع رصيدا بالبنك ويجرى الناس بين يديه وتحت قدميه من العاملين لديه والراغبين فى كسب رضاه والمتقربين له حتى يتزوج من واحدة من بناتهم وصار يلبس افخر الثياب ويوجد لديه صبيان يكنسون له المكان ويرشونه بالماء فى كل أوان ويحضرون له الشيشة والدخان، ويقفون رهن إشارته، لتنفيذ كل ما يطلب سيادته.


أما محب الثقافة فقد انزوى، ولأحلامه قد طوى، فأمله قد هوى، وبدأ يبيع الكتب بالجملة لمكتبات أخرى بخسارة فادحة فعطف عليه الولد الأصيل، الشهم النبيل بائع الفسيخ ولكى لا يجرح شعوره لم يعرض عليه أن يكون صبيأ من صبيانه فهو مهما كان صديق العمر ورفيق الكفاح والعرق والألم فقال له بصوت خفيض:
لماذا لا تحول محلك إلى محل مأكولات؟ فقال كيف ذلك؟
قال له فول وطعمية وبازنجان مخلل ومقلى وبهارات وسترى ماذا ستكسب؟ فقال والمكتبة والكتب هل أتركها؟ فقال والله انت حر أنا نصحتك وفلوسى كلها تحت أمرك، طبعأ رفض المثقف الفكرة لأنه فقرى - - من الفقرmdash;وأغلق محله وجمع البقية الباقية من فلوسه وحصل بشكل أو بآخر على فيزة سياحة لهولندا واستقر فيها منذ تسع سنوات وأخيرأ رجع وقابلته وعرفت منه أنه صار هولنديأ وله مطعم بفتيك مصرىmdash;فول وطعميةmdash;فى قلب أمستردام فعحبت منه وقلت لماذا لم تفتحه فى مصر فقال انا الآن لى ثلاث عمارات فى مصر يا صديقى فقلت وما أخبار الثقافة فقال مبروكة عليكم يا عم
!!!!
فحزنت حزنأ شديدأ على الثقافة والمثقفين وتعجبت من الناس والزمان الذى لا مكان فيه للفكر وأهله إلا على صفحات الجرائد الإلكترونية التى جمعتنا بعد شتات وأحيتنا بعد ممات وأيقظتنا بعد سبات، وقلت فى نفسى فعلأ نحن فى زمن الفسيخ!!!



د.حسن أحمد عمر
كاتب وشاعر مصرى
عاشق الحب والسلام