كنت طالبا فى الدراسة المتوسطة ببغداد عنما جاءت أول موجة من الفلسطينيين اللاجئين الى العراق وكان ذلك فى عام 1948 أو 1949، فى العهد الملكي. وقامت الحكومة بتهيئة المخيمات لهم وزودتهم بحاجتهم من اكسية وطعام والنقود، وفسحت لهم مجالات العمل. وكان الشعب العراقي يتعاطف معهم، ولا أنسى البقال فى محلتنا الذى وضع سلة من الفواكه على رأسه وأخذها الى مخيمهم القريب.


كانت مظاهراتنا بعد اقامة اسرائيل لا تكاد تنقطع، فكنا نترك المدرسة صباح كل يوم تقريبا ونتجه صوب البرلمان العراقي ومجلس الوزراء، ونهتف لفلسطين حتى بحت أصواتنا، ولم نترك التظاهر الا بعد أن هددونا بالفصل من المدرسة.

وتعين خمسة مدرسين فلسطينيين فى مدرستنا، وتعجبنا حينما كانوا يسألوننا عن مذهب كل واحد منا هل هو سني أم شيعي. وكان صفنا كبقية الصفوف فيه السني والشيعي والمسيحي بل كان معنا طالب فلسطيني أيضا، وكنا أصدقاء متحابين ولا نفهم شيئا فى الطائفية اللعينة.

ثم أخذ اولئك المدرسون يذمون الدول العربية وجيوشها وخاصة العراق وجيش العراق، واتهموا الحكومة العراقية بالعمالة، وراحوا يشتمون الملك فيصل الثاني ونورى السعيد وعبدالاله والملك عبد الله (ملك شرق الأردن آنذاك)، وقالوا انهم قد باعوا فلسطين للصهاينة، وان الملك فاروق (ملك مصر) هو أشرف الجميع وأن جيشه أقوى الجيوش العربية وأشجعها.

كنا نفهم الأمور على عكس ماقالوه، فان من باع فلسطين للصهاينة هم من الفلسطينيين، وهم الذين رفضوا كل مقترحات الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بينهم وبين اليهود. أما الجيش العراقي فقد سجل بطولات لم يسجلها اي جيش عربي آخر فى معركة جنين وكفر قاسم ورأس التل وغيرها، بينما دخل الجيش المصري الى قطاع غزة بدون قتال فقد كانت تحت سيطرة الفلسطينيين. وكان الجيش المصري مسلحا بأسلحة فاسدة اشتراها لهم الملك فاروق قتلت من المصريين أكثر مما قتلت من اليهود. ثم كانت معركة (الفالوجة- بيت جبرين) حينما حاصر خمسة آلاف جندي اسرائيلي يقودهم( ييغال آلون) حاصروا أربعة ألوية مصرية، وكان من بين ضباطهم البكباشي جمال عبد الناصر وحسين الشافعي، ولم ينقذهم سوى تدخل الأمم المتحدة، فسمح لهم اليهود بالعودة الى غزة ومنها الى القاهرة (بعد فك الاشتباك!!) حيث استقبلوا استقبال الفاتحين وأطلق عليهم : أبطال الفالوجة العائدين!!!. (من كتاب حرب فلسطين: مذكرات جمال عبد الناصر ويوميات حسنين هيكل).

وعندما قامت الثورة المصرية فى عام 1952 انحازالفلسطينيون فورا الى عبد الناصر، وجاهروا أكثر بمعاداتهم للحكم الملكي فى العراق، مع انهم كانوا يعيشون متنعمين من خيرات العراق، ومنهم من جمعوا ثروات طائلة، أذكر منهم أصحاب (اكسبريس فلسطين) فى شارع الرشيد ببغداد، وقد هاجروا فيما بعد الى أميركا.

وعند اعلان الثورة العراقية صبيحة 14 تموز 1958 فرحوا بها وأيدوها لأنهم ظنوا أن الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة سيضم العراق الى مصر عبد الناصر. وعندما لم يفعل الزعيم ذلك انقلبوا عليه، مع أنه أسس لهم جيشا منهم ليكون نواة للجيش الفلسطيني الذى (سيحرر!!) فلسطين، وكان يكرر قوله بأن (الحمل الكبير لا يحمله الا أهله). وشيد لهم عمارات سكنية فى شارع حيفا فى الجانب الغربي من بغداد وفى أماكن أخرى، ومع ذلك فقد استمروا بمعاداته حتى قتل غدرا صبيحة 9 شباط 1963 عندما قام البعثيون بانقلابهم الأسود عليه.

وكان ذلك ايذانا ببدء حكم العراق من قبل القوميين والبعثيين، وبداية أكبر مأساة عرفها العراقيون فى تأريخهم، ولم تنتهى الا بعد دخول الجيش الأمريكي الى بغداد واسقاط تمثال صدام يوم 9 نيسان 2003 وهروب القائد الضرورة. وفى الوقت الذى كان فيه شعب العراق يرقص فرحا فى الشوارع لتخلصه من مجرم جثم على صدورهم ما يزيد على ثلاثة عقود، اعتبر الفلسطينيون ذلك اليوم من أسوأ الأيام التى مرت عليهم منذ أن طردوا من ديارهم، واصيب الكثيرون منهم بالهيستيريا ورفضوا أن يصدقوا ما حصل. ورفضوا أن يصدقوا مقتل عدي وقصي ولدي الطاغية، وعندما أخرجه الأميركان من الحفرة وقيدوه، أخذوا يشيعون بأن الأمريكان قبضوا على شبيه لصدام، وقالوا أن الفيديو الذى التقط له وهم يكبونه على وجهه على الأرض كان مزيفا. بعدها قاموا يدعون الله أن (يفك أسره!!)، وانطلق بعض كتابهم من أمثال عبد البارى عطوان يكيل الشتائم والتهم الباطلة للحكم الجديد ولم يكف عن ذلك حتى اليوم.

وعندما تم اعدام صدام قبل سنتين حزن الفلسطينيون عليه حزنا شديدا، ولا لوم عليهم فى ذلك، فان الطاغية كان يحتضن قادتهم من أمثال (أبو نضال) -الذى اغتاله صدام فيما بعد-، وكان يكيل الأموال بدون حساب لياسر عرفات الذى شجعه على حرب ايران وغزو الكويت. كما كان صدام يمنح عائلة كل (شهيد) فلسطيني مبلغ عشرة آلاف دينار عراقي ( يعادل أكثر من ثلاثين ألف دولارفى تلك الأيام)، بينما كان العراقي لا يكاد يجد قوت يومه وأطفاله المرضى يتضورون جوعا خاصة بعد فرض الحصار عندما غزا صدام الكويت فى عام 1990 واستقبل الفلسطينيون المقيمون فيها جنوده بالترحاب والقبلات ناسين أنهم فى ضيافة شعب الكويت.

وعندما دخل من سموا أنفسهم ب(المقاومين الشرفاء) من كل حدب وصوب الى العراق بحجة مقاتلة الأمريكان، دخل معهم الفلسطيني (أبو مصعب الزرقاوي) وقتل المئات من العراقيين، وعندما قتله الأمريكان، نصب الفلسطينيون له سرادقات التعازي فى الأردن وفلسطين.

هذا غيض من فيض من عداء الفلسطينيين لشعب العراق. ان هذا لا يعنى بأننى فرح وشامت لما يحصل لهم فى غزة، بل يحز فى نفسي الأسى والألم خاصة على البريئين منهم من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة الذين يتخذ منهم اسماعيل هنية وعصابته (حماس) درعا يقيهم من قذائف اليهود.

لا ريب فى أن من بين الفلسطينيين أناس أخيار طيبون يستحقون كل حب وتقدير، وهم لا يوافقون على ما قام به الآخرون ضد الشعب العراقي خلال الستين عاما الماضية.

الشعب الذى يختار حكومته بحرية وعن طريق الانتخاب، كما فعل الفلسطينيون وانتخبوا (حماس)، يجب عليه تحمل تبعات اختياره. ولكننا فى الشرق الأوسط ما زلنا ننقاد بسهولة للملتحين ودعاة الدين، الذين يوعدوننا بالنصر المبين، واذا ما جد الجد تراهم فى مقدمة الهاربين، الى حيث كدسوا الأموال التى سرقوها من أبناء شعوبهم الغافلين.

عاطف العزي