بصمت و تحت جنح العواصف الثلجية الباردة و غربة الروح و الجسد القاتلة و معاناة العمر و التشرد الطويلة رحل بصمت قاتل الأخ الكاتب و المفكر العراقي المرحوم ( أمير الدراجي ) الذي تكالب عليه المرض اللعين و نهش من روحه الشفافة وهجم عليه هجمة لا ترحم و يالسخرية الأقدار بعد أن إرتاح قليلا من تشنجات الزمن و بعد أن توفرت له لأول مرة في حياته المتعبة المرهقة قواعد بسيطة للأمان و الإستقرار، رحل أمير الدراجي و سيدفن في حديقة نرويجية تظللها ضيفا الإشجار الباسقة الخضراء و تغطيها شتاءا ثلوج النقاء و الصمت البيضاء لتنتهي بذلك رحلة عمر صاخبة و حافلة بالتحولات و المواقف التراجيدية التي عاناها و لا زال يعانيها أجيال طويلة من الأدباء و المثقفين و الكتاب العراقيين من الذين ملأوا الدنيا عطاءا و تبشيرا بقيم الحرية و الإنسانية و الخير و السلام و لكنهم للأسف لم يستطيعوا أبدا أن يحققوا و لو جزءا يسيرا من تلك الأحلام و الطموحات في بلدهم المتخصص بإنتاج و تسويق و تعليب و حتى تصدير الدكتاتوريات بكل أشكالها من القومية المتعصبة للوطنية الساذجة ووصولا للدينية الزاعقة المتوحشة، رحل أمير الدراجي في الديار النرويجية و في قرية صغيرة محاذية للحدود السويدية وهو يمني النفس المنهكة و الجسد العليل بأن يشاهد وطنه العراق و بأن يعود لملاعب صباه في مدينة ( الناصرية ) الجنوبية تلك المدينة الوديعة التي أنجبت عمالقة الفكر و الفن و السياسة في العراق المعاصر و التي كانت خزينا دائما للعطاء و التألق في مختلف الميادين رغم وضعيتها الرثة و فقر أهلها شأنها شأن بقية مدن العراق و قراه المسحوقة، كان آخر إتصال لي بالمرحوم قبل شهور بعد أن سمعت صوته عبر الهاتف منهكا و شبه معدوم نتيجة لحالة الشلل التي أصابته فإدركت إنها النهاية الحتمية لصديق قديم إلتقيت به قبل أكثر من ربع قرن، و جمعني معه العمل الإعلامي المعارض لسلطة الدكتاتورية البعثية البائدة، و عملنا معا في صحيفة مشتركة رغم أن توجهاتنا الفكرية و السياسية كانت متباينة بالكامل و لكن الإحترام الشخصي فيما بيننا كانت مساحنه واسعة رغم حالات النفور و التوتر الطارئة، و الغريب و في خضم أجواء التآمر و الدس المخابراتي إننا قد وقعنا ضحية لمكيدة سياسية من أحد الأطراف و الجهات كتبت عنها سابقا و سأكتب لاحقا كانت نتيجتها إعتقالي في المخابرات السورية بتهمة ملفقة كانت ستقذفني خلف الشمس لولا إرادة الله سبحانه و تعالى و مواقف الطيبين، وكان نصيب أمير الدراجي منها أن هرب بجلده للبنان ليضيع هناك وسط جموع اللاجئين الفلسطينيين و يعيش معاناتهم و يتلمس مصائبهم و لتترك تلك الفترة الرهيبة آثارها المباشرة على أعصابة و صحته و أحواله العامة وهو الذي تجرع التعذيب الرهيب على يد أكثر من جهاز أمني سواءا في الشام أو غيرها و رحل عن دنيانا و جسده لا زال يحمل رصاصة صهيونية لم تستخرج من قدمه لدوره في مقاومة الإجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982!!، إنها الأقدار العجيبة التي تقرر مصارع الرجال و لحظات ترجل الفرسان، و منذ صيف 1984 لم نلتق أبدا إلا بعد ما يقارب الثمانية عشر عاما حينما تلقيت في أوسلو إتصال من صديق مشترك هو الكاتب العراقي و المترجم المعروف و شريك رحلة العناء و التشرد الشامية الأخ وليد الكبيسي يخبرني فيه بأن أمير الدراجي و الذي كان يكتب المقالات سابقا بإسم ( أمير أبو جودة ) يجلس بجانبه و يود محادثتي!! وقتها إستعدت تاريخ كامل من الدسائس و المؤامرات التي كنا ضحيتها و التي شتتنا في مشارق الأرض و مغاربها، فأخيرا كانت الأمم المتحدة قد إنتبهت لمأساته و أعادت توطينه في النرويج و تلمس لأول مرة في حياته الصاخبة طعم الحياة الحرة الكريمة و الرعاية الصحية و النفسية و فهم تمام حقيقة معنى أن يكون الإنسان إنسانا، و لكن لم يمهله القدر فإستراحة المحارب قد أدت في النهاية لهجوم الأمراض و العلل التي تراكمت على جسده المنهك العليل حتى شلته وهو في أوج عطائه الفكري، و تلك هي الأقدار.. فإلى الراحة الأبدية و إلى رحمة الله يا صديق الغربة وزميل التشرد و المعاناة.. و رحم الله الأديب و الكاتب أمير الدراجي و لا بقاء في النهاية إلا لوجه الخالق الكريم.

داود البصري

[email protected]