إئتلاف القوى العلمانية والديمقراطية العراقية في قوائم مشتركة هو الكفيل الوحيد بأنجاح المشروع الوطني.
قبل أربع سنوات وبالتحديد قبل الأنتخابات العراقية الأولى عام 2005، كتبتُ موضوعاً تحت عنوان ( الديمقراطية من دون العلمانية صك بلا رصيد)، وبينتُ ان الأحزاب الدينية والطائفية، لا يمكنها ان تكون ديمقراطية وأِن خدعتْ الناس بالدعوة الباطلة اليها، ففي صميم أفكارها لا تـقـرُ العلمانية، بل تتعارض وتتناقض مع المبادىء الديمقراطية، ولا تؤمن بالحرية والمساواة بين الناس، بل تؤمن بالتسلط والتحزب الطائفي، وفي ممارساتها وسلوكها، أثبتتْ فشلها وقصورها في مختلف المجالات، وأحداث السنين الأربع الماضية في قيادتها للبرلمان والحكومة العراقية خير برهان على بؤس أفكارها وفقر رصيدها الخالي من العمل والعطاء والخدمات التي ينتظرها الناس. واليوم أعيد كتابة المقال مرة أخرى مع بعض االتغيرات تحت عنوان( الديمقراطية والعلمانية) بعد مرور السنين الأربع الغابرة على العراق وبمناسبة أجراء الأنتخابات العراقية في بداية عام 2010، نناشد كل المستقلين الأحرار والأحزاب والتكتلات الوطنية العلمانية، ان يتحالفوا بقوائم موحدة لدى دخولهم للأنتخابات الحرة، ليحققوا أفضل النتائج. فالقوى العلمانية هي الكفيلة بتطوير الديمقراطية، وارساء الأمن وتعميق الوحدة الوطنية، وتقديم افضل الخدمات للمواطنين.
لم يتغير مفهوم الديمقراطية منذ ان نادى به فلاسفة اليونان قبل أكثر من الفي عام، فهو حكم الشعب لنفسه وبنفسه، الا ان النظم السياسية وآليات الديمقراطية، كالأنتخابات وحق التصويت والترشيح والحريات الفردية تطورت بما يخدم الديمقراطية منذ عصر النهضة وقيام الثورة الفرنسية. فمنذ القرن الخامس عشر كان نشوء البرلمانات وتطور الأنتخابات النيابية في أوربا، وخاصة في بريطانيا، نتيجة لحاجات المجتمع الجديد، الذي أفرزته الثورة الصناعية، وهيأ لقيامه عصر النهضة والتنوير، فالإنسان الفرد، المخترع والمكتشف، أصبح سيد المجتمع الصناعي في الإدارة والقيادة والتخطيط للمستقبل، مما تطلب إيجاد نظام سياسي يرتقي إلى مستواه، ويلبي حاجاته الأساسية ويؤمن له حرية الاختيار والعمل، ويكون هو سيد الحكم مثلما أصبح سيد المصنع، فكانت النظم الحكومية الجديدة في أوربا.
وجاءت الثورة الفرنسية لتكمل بناء المجتمع الجديد على أسس مبادىء الحرية والمساواة. أكد جان جاك روسو، أحد مفكري الثورة الفرنسية على أهمية العقد الأجتماعي، وتـَنـَازل ْ افراد المجتمع عن بعض حرياتهم الفردية، ضمانا للمصلحة العامة، وبين ضرورة وجود الحريات والمساواة لأستقرار المجتمعات، فيما أرسى مونتسكيو مبدأ فصل السلطات الثلاث ( التنفيذية والتشريعية والقضائية) في كيان الدولة الديمقراطية، الذي اكده الفيلسوف الأنكليزي جون لوك، معتبرا مهمة الدولة وجوب التركبز في حماية الثروات الوطنية والحريات العامة، وكون الشعب هو المخول في تـَغيـير الحكومات في حالة عدم حفظها الحقوق والحريات.
إن مظالم الكنيسة، ومحاكم التفتيش سيئة الصيت والحروب التي قامت بأسم الدين في القرون الوسطى أوحت لرواد الفكر السياسي كجان جاك روسو ومونتسيكيو وجون لوك وغيرهم ان ينادوا بمبدأ فصل الدين عن الدولة ( العلمانية) ويعتبرونه أساس بناء الدولة الوطنية الحديثة، وأقتنع الناس في أوربا بذلك من أجل صيانة الدين والدولة معا. فحرمة الدين، كعقيدة فردية خاصة، تجعله بعيدا عن الاستخدام السياسي وسلامة الدولة تستند على حرية الإنسان في خياراته بمسؤولية ووعي تام قابل للتغيير والتجديد بما تتطلبه الظروف المتغيرة.
العلمانية أصبحت شرطا أساسيا لتطبيق الديمقراطية، التي هي حق من حقوق الإنسان في ممارسته للحرية الممكنة بحدود الدستور الذي يشرعه ويتعاقد عليه أفراد المجتمع، وهذه الممارسة تكون مستحيلة إذا لم يتحرر الفكر تحريرا تاما من الأحكام المسبقة والقرارات الفوقية، فمسؤولية القرار في النظام العلماني، هي بيد الشعب وحده دون قيد نصي أو شرعي مسبق، والناس هم الذين يمتلكون حق السيادة، وهم المرجعية في شؤونهم التعاقدية الاجتماعية، يتنازل البعض منهم للأخر، في سبيل تمشية أمور الدولة حرصا على المصلحة العليا، أما الدين فهو عقيدة فردية، تـُستـَو رث ْ أو تـُكتـَسَب ْ، ويختلف الأفراد في اعتناقهم لها، ولا يوجد قياس لصحة هذه العقيدة أو خطأها، وفي هذا التوجه من الصعوبة تنازل الواحد منهم للأخر، أو رضوخ الأقلية لرأي الأكثرية، لأن نصوص كل منها مقدسة، ومرجعياتها معروفة ولا جدال حولها، ومن هذا المنطلق فأن فصل الدين عن الدولة، يأتي حماية لمعتقدات الأفراد الخاصة، ويخلق مناخا مناسبا لممارسة الديمقراطية، وتحرير طاقات الأفراد من رهانها، وبناء على ذلك لا تتحقق الديمقراطية لمجرد موافقة الأكثرية على حق الدين أو الطائفة في التحكم بشؤون المجتمع، لأن الأقلية لا يمكن أن تتنازل عن معتقدها، وهي تعمل مع الأكثرية يدا بيد، وبهذه الحالة يظل كل طرف في خندق، ويبقى الشد متوترا، والخلاف قائما، وعندما ترى الأكثرية في هذه الحالة، أن الاستبداد ضروري لها في إدامة حكم الدولة، يختل الأمن آنذاك، ويغيب الاستقرار، وتعمُ الفوضى، حين تـَفرض ُ الأحكام الدينية المطلقة والمسبقة آراءها ومفاهيمها، وتـَضطهد ْ الآخرين ممن يـُخالفونها في الرأي، فتدخل ُ في خانة اضطهاد الشعب، ولما كانت غاية الحكم، صيانة الحرية الفردية، وحماية الناس، فان ربط السلطة الدينية بالسياسة، يعمل على تعطيل طاقة الأفراد، ويعضد من احتكار طبقة من المفسرين والمؤلين للقوانين والتشريعات، بما يتوافق ورأي المستبد، حول تنزيل الأحكام، وعند ذاك يتوافق الأستبداد الديني مع الأستبداد الدكتاتوري الفردي، فلا تبقى قيمة للدستور، ولا أهمية لرأي الشعب.
وحين نجحت تجربة الديمقراطية والعلمانية في الغرب، وأرست قوائمها، وثبتت دعائمها، أصبحت تراثا بشريا مشاعا لكافة الناس، وكانت بعض الدول الآسيوية كالهند واليابان في الجانب الشرقي من العالم، سباقة في اقتباس هذه المفاهيم ونقلها وتطبيقها في مجتمعاتها، أسوة بما حصل يوم تم نقل اختراع الماكنة والباخرة والقاطرة والطائرة وهي في أولى مراحل بنائها إلى هذه المجتمعات نفسها، وقد برهنت هذه الدول على نجاحها الكبير في هذا المضمار، لا بل أصبح بعضها يضاهي الدول الأوربية وأميركا في ممارستها للديمقراطية ويقف وإياها على قدم المساواة.
أما العالم الإسلامي، فبقى متأخرا عن ركب الأمم المتطورة، في نقل هذه المفاهيم إلى بلاده. فتارة ندعي إن ديننا الحنيف، هو دين دنيا ودين آخرة، وفيه الكمال، وما جاء فيه صالح لكل زمان، ولا حاجة له بمثل هذه المفاهيم المستوردة من بلاد الغرب، لأنها لا تناسب معتقداته، فلديه ديمقراطيته الإسلامية الرشيدة التي يهتدي بها، ويسير على نورها، وتارة أخرى نقول إن العلمانية التي نحن بصددها، هي مفهوم غربي، تطور هناك، وإذا كان قد نجح هناك نجاحا باهرا، فهو- كما نقنع أنفسنا- لا يناسب مجتمعنا الإسلامي المتعدد طائفيا والمتنوع دينيا، وهو ليس الدواء الناجع لنا، ولا الحل الأمثل، لأن هذه الاختلافات المذهبية والدينية، لم يحسمها ويفصل بينها إلا السيف (السيف أصدق أنباء من الكتب...) وتاريخنا المديد خير شاهد على ذلك. وهكذا بقينا نحن أبناء هذه المجتمعات ندور في هذه الحلقات المفرغة لقرون طويلة من الزمان، دون أن نجني شيئا نافعا، أو نحصد مكسبا مفيدا، عدا الصراعات والتنا حرات باسم الدين.
إن العلمانية في الدولة الديمقراطية تمثل القاسم المشترك بين الأفراد والتجمعات المختلفة دينيا وطائفيا، التي في احكامها يتنازل الواحد للأخر، لغرض تسيير فعاليات الدولة وخدمة الجميع. والعلمانية تحترم العقائد المختلفة، ولا تأخذ موقفا مضادا من أي عقيدة دينية أو شخصية، بل تلتزم الدولة بحماية العقائد الفردية المتنوعة، وفي نفس الوقت تعارض فرض عقيدة معينة، لأنها تؤدي إلى اضطهاد الآخرين، ولا تقر مطلقا بما تدعيه الأكثرية، من حمايتها ورعايتها للأقلية، لأن الجميع متساوون ولا تفرقهم سوى كفاءاتهم ونزاهتهم ومدى إخلاصهم للوطن، وخير امثلة لنا ممارسات مختلف العقائد والأديان في الدول الأوربية بشكل افضل من ممارساتها في الدول التي تدعي الحكم بأسم الدين.
اذا كان أدعاء الأحزاب الدينية بالديمقراطية بأعتبارها تتمكن من تعبئة أكثر الناس للأدلاء بأصواتها لصالح قوائم معينة في هذه المرحلة الصعبة، فهذا لا يبرهن أبدا على ممارسة الديمقراطية، فأكثر الناخبين بدوافع العقيدة الدينية، وتحت رهبة الخوف والتهديد، غير مسؤولين ومعذورين عن أختياراتهم، ورجل الدين الذي روج لقائمة أنتخابية معينة، بأمكانه تغيـير مجرى الأمور بفتوة دينة أو خطبة توجيهية، فلا برلمان يتمكن من تشريع القوانين بحسب أرادة الشعب ولا ناخبون يتمكنون من محاسبة نواب القائمة الطائفية على ممارساتهم، وهكذا برهنت سلسلة الحوادث في السنين الأربع الماضية في العراق على فشل التجربة التي تبنتها الأحزاب الطائفية. واليوم ونحن نقترب من الأنتخابات النيابية القادمة، يكون من الأهمية الكبرى على كل القوى الوطنية والعلمانية المـُرَشِحة للأنتخابات ان تتحالف فيما بينها في قوائم مشتركة، وهذا هو سلاحها الوحيد ضد تآمر الأحزاب المتنفذة في تزييف الديمقراطية، وعلى العراقيـين الوطنيـين الشرفاء ان يدلوا بأصواتهم للأحزاب والقوى الوطنية العلمانية ( صراحة)، لتتحقق أفضل النتائج، ولكي لا يذهب أصواتها للأحزاب المتنفذة، ولكي تثبت دعائم الديمقراطية وترسخ الشعور الوطني بدلا من تثبيت سلوكيات الأنقسام، وتأجيج الشعور الطائفي وتعميق الخلافات، ولوطننا العراقي كل الخير.
سان دييكوا - كاليفورنيا
[email protected]
التعليقات