لم يستطع العرب حتى اللحظة أن يعربوا أية دولة احتلوها أو أن يغيروا من هويتها الأصيلة أو لغتها الأم فالدولة الفارسية مازالت فارسية ولغتها مازالت هي اللغة الفارسية بالرغم من اعتناق شعبها للدين الإسلامي. ونفس الوضع بالنسبة لدول مثل ماليزيا، وإندونسيا، وغيرها الكثير.. بل أن كل دول شمال أفريقيا والشام مازالت محتفظة بهويتها ولغاتها ودياناتها التي كانت سائدة قبل الإسلام. غير أن مصر استطاعت ليس فقط أن تحتفظ بهويتها المصرية ولغتها المصرية وديانتها بل تعدت ذلك ومصرت العرب الذين احتلوها وصهرتهم في مجالها البيئي المادي والمعنوي الفريد حتى أصبحوا مصريون الطبع والهوى.
لذلك فقد استخدم علماء التاريخ والأجناس النظريات التي تبحث في علاقة الإنسان بالبيئة.. والعكس..أي مدى تأثير البيئة على الإنسان. ووصلوا إلى مفهوم quot;التمصيرquot; (Egyptianized) وهو كما جاء بمعظم المعاجم العالمية القدرة الفائقة للبيئة المصرية بكل مكوناتها وعناصرها المادية والمعنوية والروحية والتي وجدت منذ القدم في التأثير على الإنسان الذي يدخل إلى مجالها فيصطبغ بكل مواصفات وخصائص المجال البيئي المصري فيصبح مصرياً في الشكل والجوهر. حتى أن الجينات الوراثية للوافد للمجال المصري تبدأ تدريجياً في التغير مع الزمن لتكتسب الصفات والطبائع المصرية فيصبح مصرياً.
هذا، وقد لخص الفيلسوف الفرنسي فيكتور كزن (Victor cousn،1792-1867) استنتاجاته في علاقة الإنسان بالبيئة بالمقولة الخالدةquot; quot;أعطني خريطة لدولة ما.. معلومات وافية عن موقعها ومناخها ومائها ومظاهرها الطبيعية الأخرى ومواردها.. وبإمكاني في ضوء ذلك أن أحدد أي نوع من الإنسان يمكن أن يعيش في هذه الأرض، وأي دولة يمكن أن تنشأ على هذه الأرض، وأي دور يمكن أن تمثله هذه الدولة في التاريخquot;.
والمتابع لحركة التاريخ يلاحظ أنه وعلى مر العصور والأزمنة التي مرت بها الأمة المصرية لم يستطع المحتل الأجنبي أن يغير من الصفات الجينية والوراثية للعنصر المصري بالرغم من المحاولات القوية التي حاول بها المستعمر تغير الهوية المصرية عن طريق فرض ثقافته ولغته. فالعكس تماماً هو الذي حدث فكل الأجانب الذين وفدوا إلى مصر طامعين أو مستعمرين قد تغيروا بمجرد دخول المجال البيئي المصري دون أن يلاحظوا ذلك وتحولوا إلى عناصر مصرية تحت تأثير قوة المجال البيئي المصري المادي والمعنوي، الأمر الذي دفع بعلماء فلسفة التاريخ وعلماء الأجناس إلى وضع quot;نظرية التمصيرquot;.
ولذلك لم يستطع المستعمر الفارسي، الإغريقي، الروماني، العربي، الإنجليزي أو الفرنسي وغيرهم بغض النظر عن الأهداف المعلنة للغزو من أنجلكنة مصر أو فرنجنة المصريين، أو تعريبهم، أو غير ذلك لأن قوة التمصير أكبر في الكيف الحضاري والكم الثقافي من كل القوى الأخرى. فالمصري مازال مصرياً ولم يصبح لا انجليزياً ولا فرنسياً ولا عربياً ولا يرغب في ذلك ليس عنصرية منه وليس تقليلاً من شأن الآخرين ولكنها الطبيعة المصرية الفريدة الممتدة منذ فجر التاريخ.
أيضاً فاللغة المصرية لم تختفي حتى اليوم وإنما تطورت مثلها مثل كل لغات الدنيا. فتولد مفردات وتختفي مفردات وتندمج مفردات لتعطي مفردات جديدة غير أن أصلها ثابت متعمق في أعماق الإنسان المصري. ولذلك فلغة المصريين التي يتحدثون بها اليوم ليست اللغة العربية بل هي اللغة المصرية في شكلها المتطور حيث دخلت إليها مفردات فارسية ويونانية، ورومانية، وتركية، وعربية، وانجليزية، وفرنسية، وغيرها.. بالإضافة إلى الرصيد الرئيسي والأكبر من اللغة الهيروغلوفية واللغة القبطية. فنحن نتحدث اليوم تماما كما كان أجدادنا المصريون القدماء يتحدثون.
وكمثال على ذلك هاكم بعض الكلمات المتداولة وكلها من أصول مصرية : إخص (شيطان). بـص أو شوف (انظر). شـب (انهض). أر أو نق (حسد). بس(قطة). عاوز امبو (عاوز يشرب). نش أو هش (حرك). عمال يزن (يكرر الكلام). عيال هلافيت، ما تبوزش كده، الموضوع ده مكلكع، انت مالك محتاس كده، أيه الهيسه والزمبليطه ديه، انت بتبرطم تقول ايه، أوعى حد يخمك، سيبك منهم دول حبتة مفاعيس، الحوش دولي بهدلوا الواد وخرشموه، أنا عاوزك تتوتك كده وتبقى جدع، ليه الستات ديه مزأطاطه ويتزغرط، وغيرها الآلاف... فهل من العدل والحق أن نقول أن المصريين يتحدثون اللغة العربية؟ أليس هذا كذباً ونفاقاً؟
في الواقع أن مفاهيم الوطن العربي، القومية العربية، الدول العربية،..وغيرها من المصطلحات التي تحمسنا لها ودافعنا عنها كثيراً في فترة الستينات نجدها اليوم تتلاشى كعشب الحقل الذي ييبس قبل أن يقطع. والغريب في الأمر أن شباب اليوم، شباب الانترنت ليسوا وحدهم الذين وصلوا إلى هذه القناعات بل أولئك الذين رسخوها وحاولوا بشتى الطرق والوسائل حفظها فاعلة في الذاكرة المجتمعية.
فاستطلاعات الرأي التي تأكدها الكثير من المواقع الإلكترونية والمراكز البحثية تشير إلى الرغبة العارمة لشباب اليوم لحذف هذه المصطلحات من الذاكرة بالإضافة إلى عدم قدرة هذه المصطلحات على الثبات والتفاعل مع الإنسان المصري،إنسان القرن الحادي والعشرين، حيث الكذب مفضوح والغش مكشوف والشعارات الزائفة تصطدم مع الحقائق والتاريخ الصحيح.
لذلك فلا معنى لتسمية مصر جمهورية مصر العربية وذلك لأنها ليست عربية في الأصل ولا في الصورة ولأن المصريين لا يتحدثون العربية، علاوة على أنه من المعروف والمعلوم أن كلمة العربية ليس أسم وإنما صفة فكيف لنا أن نضيف الصفة إلى الاسم. كيف نسمح لأنفسنا أن نغير أسم الوطن الغالي مصر الذي ننتمي جميعاً إليه ونغير الاسم الذي ذكر في كل الكتب السماوية quot;مصرquot;. فمصر اسمها مصر ولغتها هي اللغة المصرية.
[email protected]
التعليقات