في كل مأزق يقع فيه الإنسان السعودي يظهر لنا حجم التقوقع الذي يهيمن على عقليته والقيود الفكرية التي تحيط به، وفي كل مرة يتكرر ذات الاستقراء التقليدي للإشكالات المواجهة.

في قضية غرق جدة برز جليا quot;الجدل السعوديquot; الذي ربما حل محل الجدل البيزنطي: هل الكارثة عقوبة إلهية أم نتاج فساد متراكم ومتأصل؟!
اللجنة المكلفة تتقصى الأسباب التي أدت إلى الكارثة، والمجتمع قد شغل: هل هي عقوبة أم لا؟

بل إن حتى الكثيرين من الأوساط النخبوية وقعوا ضمن شراك الجدل العقيم، والرابح الأول بلا شك هو رجالات الفساد؛ إذ إن هناك فرصة لتفريغ طاقة الرأي العام في جدل لن ينتهي، والذي من شأنه تحييده عن المسار الصحيح لرحلة الكشف عن مكامن المعضلة.

وكما قال أمين معلوف حول الرأي العام: quot;بأنه رجل ضخم نؤوم هناك من يحرص على توفير الظروف المناسبة لجعله يغط في سبات عميق لأن صحوته كفيلة بإحداث زلزال رهيبquot;.

ولم يكد الرأي العام يحسم قضية غرق جدة بعد حتى عادت مرة أخرى حرب quot;الاختلاطquot; إلى الساحة ولكن بشكل أكثر ضراوة إذ إن هذه المرة أتت من عقر دار مناهضي الاختلاط، فتصريح واحد من رئيس هيئة مكة كان كفيلا بإحداث موجة جدل عارمة وسيول جدة لم تجف بعد.

هنا أعلنت نعيي للمتوفى دماغيا حضرة quot;الرأي العامquot; فنحن فعلا سئمنا هذه المرحلة التي تسيطر عليها قضايا تقليدية لم ولن تنتهي.
فالمماليك عندما انتصروا في معركتي عين جالوت وشقحب لم ينتظروا حل المسائل المذهبية بين السنة والشيعة في الجبهة الداخلية حتى ينتقلوا للجبهة الخارجية.
فـquot;الطعة الإعلاميةquot; التي فجرها موضوع الاختلاط لم تكن موفقة زمنيا - في اعتقادي - ولا مكانيا حتى؛ إذ إنها جاءت في وقت يفترض به أن نقوم بتعبئة عامة ضد الفساد.

حتى لا يتهمني أحدا بطلب عدم التطرق لقضايانا التقليدية فأنا لست كذلك، لكن ليس على حساب القضايا الراهنة التي تمس حياتنا بشكل قريب.
فنحن هكذا نصاب بالتصلب أمام أولوياتنا الجامدة ونظل ندور في حلقة مفرغة مفوتين على أنفسنا فرصة التقدم والنماء وإلا فالخاسر الوحيد هو الوطن والمواطن. ولاعتقادي أن إشغال الرأي العام بقضايا لن تنتهي - كقضية الاختلاط - قد يصب في مصلحة الفساد والفاسدين.

لكن يبدو أن العقل السعودي يضع أمام نفسه أولويات يعتقد أنها مصيرية غير مدرك أن ذلك من شأنه جعله أكثر تقوقع حول قضايا معينة وأكثر تزمت إزاء المتغيرات السريعة.