محمود عبد الرحيم: وحدها نظرية المؤامرة ، أو بالاحرى لعبة مصالح الكبار على الساحة الدولية التي تفسر، بجلاء ، ما يجري في السودان منذ سنوات ، واخرها ، قرار المحكمة الجنائية الدولية توقيف الرئيس السوداني عمر البشير ، فما ان يلبث النظام السوداني يخرج من ازمة معقدة حتي يجد نفسه غارقا في اخرى اكثر تعقيدا ، وما ان ينجح في تسوية في الجنوب حتى يتم فتح جبهة جديدة في الغرب ، ثم في الشرق ، وما ان يصل لتفاهمات مع فصيل متمرد حتى يخرج عليه فصيل اخر ، علاوة على عمليات عسكرية متواصلة هنا وهناك ، مدعومة امريكيا واسرائيليا ومن بعض دول الجوار الافريقي ، بل ومحاولة انقلاب كادت ان تنجح.
ولاشك ان هذا كله ، عمل على استنزاف السودان وتشتيت طاقته ، وجعله متفرغا ، فحسب ، لإطفاء حريق هنا أو هناك، أو تقديم تنازل لهذا اوذاك ، بدل من البناء والانماء واستثمار ثراوته الطبيعية من نفط ومعادن نفيسة ، أو حتى موارد المياه والتربة الخصبة في الخروج من حزام الفقر وتعويض السودانيين عن السنوات العجاف الطويلة.
ان القضية ليست البشير ، لأن هذه الضربة ليست موجهة له ، شخصيا ، فحسب ، وانما الى الشعب السوداني بشكل خاص والامة العربية بشكل عام ، لأن المقصود من هذا التحرك وغيره من التحركات على طول الخارطة العربية تحقيق مصالح الامبرياليين الجدد التي تتناقض بشكل رئيس ، بل وتتصادم مع مصالح الامة العربية ، لأن تحركاتهم سواء كانت سياسية أو قانونية مشبوهة ولا تنهض على قيم اخلاقية ، وتعيد للاذهان السياسات الاستعمارية البغيضة ، والا لما دعموا انظمة ديكتاتورية ومازالوا ، والا ما سكتوا علي جرائمهم ، طالما ينفذون الاجندات دون ادن اعتراض ، ولو كان على حساب مصالح شعوبهم أو سيادة اوطانهم .
انه البشير ، وقبله صدام حسين يتم تصويرهم كرموز للشر والفساد والجريمة والديكتاتورية في العالم العربي ، ثم استهدافهم لجعلهم فزاعة وعبرة لغيرهم من الحكام الضعفاء ، لتوجيه ضربات للنظام العربي تضعفه اكثر مما هو ضعيف وتنال من سيادته ، انطلاقا من استغلال اخطاء الانظمة التي تبدي قدرا من الممانعة ، رغم ان من يدقق النظر سيجد انهم ليس اسوأ من غيرهم ، بل ربما الاقل سوءا ، فالحكام العرب من المحيط الي الخليج لهم نفس النهج الديكتاتوري ولا يستند حكمهم على رضاء شعبي أو شرعية ديمقراطية ، فلماذا يتم غض الطرف عن هؤلاء ، ويتم استهداف اولئك؟ انه السؤال الكبير الذي يجب أن نتوقف عنده طويلا ، حتى لا ننخدع في الشعارات المرفوعة في الغرب.
ولاشك أن الاجابة نجدها في لعبة المصالح التي تتغير قواعدها باستمرار ، وصراعات الكبار علي الهيمنة علي مقدرات الشعوب الضعيفة ، إلى جانب دخول الكيان الصهيوني في المعادلة الاستعمارية ، سواء بالتحرك المباشر في صراعات المنطقة العربية ودعم جهود التفتيت ، أو ان تترك المهمة لحلفائها الكبار ، لجهة توفير حماية استراتجية لها ، عبر اضعاف محيطها العربي ، وفي النهاية تتلاقى المصالح والاهداف الشريرة.
وللاسف ، سواء رضى الامبريالين الجدد عن حكامنا الديكتاتورين أو غضبوا عليهم ، فالخاسر الاكبر هو الشعوب العربية المقهورة التي تدفع الثمن الباهظ في كلتا الحالتين من ثراوتها ومصائرها واستقلالها وحريتها.
ان تحرك المحكمة الجنائية الدولية بهذه السرعة وهذه الديناميكية ، تحت غطاء دولي كبير امر يثير الكثير من الريبة ، فاذا كان ثمة مصداقية ونزعة اخلاقية من وراء تحريك ملف محاكمة البشير، لتم التجاوب الغربي مع طرح الجامعة العربية والاتحاد الافريقي الرامي الي تأجيل الملاحقة القضائية للبشير ودعم جهود التسوية لانجاز السلام والمصالحة في السودان ، فضلا عن جهود التنمية ، بدلا من عرقلة كل جهد يرمى لتجنيب السودان شرور الانقسام والحرب الاهلية.
ثم ماذا عن الجرائم الاسرائيلية الواضحة للعيان على شاشات التليفزيون ضد الشعب الفلسطيني ، واخرها مجازر غزة ، لماذا لم يتحرك المجتمع الدولي ولم نجد نفس الحماسة ، من قبل اوروبا وامريكا والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ، وقبلهم المؤسسات الحقوقية الغربية التي ضخمت ما يحدث في دارفور والذي لا يعدو عن كونه خليط من صراعات قبلية وانتهاكات لحقوق الانسان وميراث سنوات من سياسات التهميش الذي اعترف بها النظام السوداني نفسه ، وبعثة الجامعة العربية التى زارت المنطقة ببعثة لتقصى الحقائق ، وليس جرائم حرب وضد الانسانية بل وابادة جماعية ، كما فعلت اسرائيل في غزة.
اننا لسنا ضد محاكمة اي مجرم حرب او مرتكب جرائم ضد الانسانية ، سواء كان لمواطن عادي او رئيس دولة ، ولكن لابد من ان تتم هذه المحاكمات دون تسيس ، وبعيدا عن اجندات الاستغلال والهيمنة ، مع مراعاة عدم القفز على اعراف وقواعد قانونية مستقرة في القانون الدولي من قبيل حصانة الرؤساء لحين انتهاء ولايتهم ، خاصة ان مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ، مع ضمان تحقيق نزيه ، وليس استنادا على تقارير مؤسسات مشبوهة اوروبية وامريكية او اشخاص مؤجورين ، أو طامعين في دور سياسي مثل زعيم التمرد الدارفوري عبد الواحد محمد نور الذي يفاخر بدعم اسرائيل له ، فضلا عن احتضان دول غربية له .
ودون ذلك ، سيظل الشك قائما ازاء اى تحرك ، والنظر اليه على انه استحضار للحقبة الاستعمارية وازدواجية المعايير ، ما يضيع سمعة المحكمة الجنائية الدولية ، ويجعلها تنضم الى مؤسسات دولية اخرى كصندوق النقد والبنك الدوليين ومجلس الامن ، التى تحولت الى اداوت للهيمنة وممارسة الضغوط على الدول الضعيفة وحدها ، بغية استنزافها وتحويلها الى كيانات هزيلة تقبل بدور التابع ، لا الدولة المستقلة ذات السيادة.
التعليقات