quot;شكرا لأوكامبو.. فقد جعلني أرى بعد 20 عاما كيف يحبني الناسquot;.
الرئيس عمر البشير

( لا رهان ولا مساومة في سيادة السودان) هذا هو نص إحدى اللافتات التي رفعها متظاهرون سودانيون مؤخرا، ردا على قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي بجلب الرئيس السوداني عمر البشير إلى ساحة العدالة، لمحاكمته استنادا إلى تقارير تزعم أنه ارتكب جرائم ضد الإنسانية، راح ضحيتها ألوف من مواطنيه السودانيين في دارفور.


ويمكن أن نعذر المواطنين السودانيين الأبرياء غير المسيسين، حين يرفضون مجرد التفكير بمحاكمة رئيس دولتهم، في محكمة أجنبية غير سودانية. ففي تراث العشائر العربية يكون مجرد التفكير بمحاسبة رئيس العشيرة إهانة لشرف العشيرة كلها تستحق أن يهب أبناؤها البررة لغسل عارها، وهم يهتفون (بالروح بالدم نفديك يا بشير).


لكن الذي لا يمكن قبوله، بعد كل المآسي المحزنة التي شهدتها أمتنا على أيدي قادة تجبروا على شعوبهم، وأوردوها المهالك بعد المهالك، بعنادهم وغرورهم وانسياقهم وراء شعارات المزايدين في الوطنية، أن نجد الصفوة الثقافية والسياسية العربية اليوم تجنح إلى نفس سلوكها الانفعالي السابق، وتعود إلى خداع ذاتها، وخداع السودان ورئيسه وشعبه معا، بشعاراتها الثورية المغرية، مثلما خدعت من قبل صدام حسين وأغرته بالعناد والعنجهية، وأوهمته بالقدرة على الانتصار المؤزر عندما تلتحم الجيوش وتتصاعد ألسنة النيران، فكان أن أوصلته، صباح العيد، إلى حبل مشنقة أعدائه الأمريكان والإيرانيين.


ومثلما كان صدام حسين رمزا لسيادة العراق واستقلاله، في الهتافات العربية الثورية، فإن البشير هو الآخر أصبح الرمز المقدس لسيادة السودان واستقلاله. ولا اعتراض على ذلك. ولكن الذي لا يمكن قبوله بمقاييس العقل هو أن نقتل بلدا بكامله من أجل حماية فرد واحد من أبنائه، قد يحسن وقد يسيء، ومن الحق والعدل أن ينال جزاءه في الحالين، لكي نجنب الوطن آلام عقوبات اقتصادية وسياسية، وربما عسكرية، قادمة لا محالة، وسيدفع ثمنها الباهض مواطنون أبرياء لا طاقة لهم على احتمالها، ولا على هضم ما سوف تجره من انتهاكات متنوعة متعددة لابد أن تمس سيادة الوطن واستقلاله.


ومثلما جر عناد صدام حسين على نفسه وعلى ولديه وزوجه وبناته وإخوته وعلى شعبه يريد الثوريون العرب اليوم أن يسقطوا عمر البشير وأهله وشعبه في الحفرة ذاتها، بشحنه بمزيد من العناد ودفعه إلى مزيد من الإصرار على رفض الانصياع للإرادة الدولية المتربصة به وبنظامه. فلم ننس بعد ما تعرض له العراق من خراب اقتصادي وأمني، ومن انتهاكات متعددة متوالية مهينة لاستقلاله وسيادته وكرامة أبنائه، حين رفض صدام حسين الانسحاب من الكويت في الوقت المناسب، وواصل تحديه للمجتمع الدولي بقدراته المحدودة الهزيلة التي سقطت في أول مواجهة عسكرية حاسمة.


وكما يزمجر اليوم وزير خارجية البشير، فما زالت تطن في أسماعنا تلك الخطابات النارية لوزراء خارجية صدام، طارق عزيز والصحاف والحديثي، في المحافل الدولية، وخوصا أمام لجان حقوق الإنسان الدولية، وهي تبريء قائدهم الضرورة من كل سوء، وتلقي اللوم كل اللوم، على الغوغاء الذين تجرأوا وانتفضوا على الرئيس، وهو رمز الوطن وعنوان سيادته المقدسة. ثم نكتشف، بعد زوال غمته، أن المقابر الجماعية التي أنكروا أنه دفن فيها العشرات بل الملايين من مواطنيه كانت حقيقة واقعة، وأنه كان يعدم بالشبهة، وأن كثيرين من المعدومين كانوا أبرياء. فوزراء الخارجية لدينا، أساسا، مكلفون بتلطيف إساءات رؤسائهم لشعوبهم، وتبرير أخطائهم، وقلب الأبيض أسود، والأسود أبيض، من قوانين حكوماتهم، وسياساتها وتصرفاتها، مهما كانت ظالمة وسخيفة وهمجية.
أما نحن الإعلاميين والسياسيين العرب، فنشكو دائما من ازدواجية أقوياء العصر، أمريكا وأوربا، في تفسير القوانين الدولية، وتطبيق أحكامها، ونتهمهم دائما بالنفاق عند الحديث عن حقوق الإنسان، وبأنهم يستخدمون هذا السلاح ضد حكوماتنا العربية ولا يستخدمونه ضد الإسرائليين، بل لا يستخدمونه ضد بعض حكامنا العرب، وهم قتلة محترفون ومفضوحون، في حين يشهرونه ضد البعض الآخر منهم، عندما تقضي حاجاتهم بذلك. ثم نسوق الأمثلة المتوالية على أنهم يصنعون الديكتاتوريات ويمولونها ويسلحونها، لخدمة أهداف معينة موقوتة، ثم ينقلبون على تلك الصنائع، ويرمون بها في مزابل التاريخ، لخدمة نفس تلك الأهداف الموقوتة أيضا، عندما تختلف الظروف والحسابات. ونذكرهم دائما بمصير شاه إيران وصدام حسين وشاوشيشسكو وميلوزوفيتش وتشارلز تايلور رئيس ليبيريا السابق، وغيرهم.


ولكننا ننزلق، هذه المرة، في ازدواجية المقاييس التي نشكو منها، فنصفق لمحكمة جزائية دولية تحاكم مواطنين لبنانيين وسوريين متهمين باغتيال زعيم أحبه مواطنوه وانتخبوه بالأغبية، لحساب دولة كبرى مجاورة تريد الحفاظ على استعمارها لجارتها الصغيرة، بينما نشتم ونولول ضد محكمة أخرى، من نفس النوع، ستحاكم مواطنا سودانيا متهما بذبح العشرات بل المئات من الرجال والنساء والأطفال السودانيين، دفاعا عن كرسي تافه لا يساوي قشرة بصلة في حساب التاريخ العسير؟
من موقع الاحترام الكامل لفخامة الرئيس عمر البشير، نقولها بصراحة، إننا نشك في عدالة أي حاكم عربي، إلا إذا ثبت لنا بالدليل القاطع أنه من فصيلة الملائكة، وأن عدالته قائمة لا فتوى فيها ولا اجتهاد.
لذلك، ولحماية وطنه السودان، وربما أمته العربية كلها، ومن أجل جلاء سمعة فخامته، نطالبه بأن يتواضع، وأن يقبل التحدي بشجاعة الفرسان، ويتخلى عن العناد، ويواجه المحكمة، ويثبت بطلان اتهامها وكذب مبرراتها التي تسوقها ضد فخامته، ليبرهن لشعبه وللعرب وللعالم أجمعين، صدق برائته وحقيقة عدالته. عندها سيكون اتهامنا لأمريكا وأوربا بالازدواجية في التعامل مع قضايانا وضد حكامنا عادلا وعاقلا، وليس تهويشا ولا عنتريات باطلة؟

إبراهيم الزبيدي