لا معنى لقيم المعارضة أو المشاريع الديمقراطية أو الدعوات لمواجهة الإستبداد والديكتاتورية إذا ما لم تنعكس أي منها على أرض الواقع في حقبة ما بعد الإستبداد. العراق بلد عانى الكثير من إستبداد الدولة والزمرة الحاكمة فيها سيما في ظل الحقبة الصدامية، وقد أعطت هذه الحقبة، تلقائياً، مشروعية ما لكل خطاب مقاوم ومعارض للدكتاتورية حتى وإن لم يكن هذا الخطاب خطاباً داعياً، مباشرةً الى الديمقراطية أو قيمها المتعددة المعروفة، ومرد ذلك هو أن أية مقاومة للديكتاتورية، تعتبر، بمعنى من المعاني، ترسيخاً لولادة نقيضها، أي الديمقراطية، حتى ولو تباينت المرامي وأختلفت الايديولوجيات في طرق وأنماط المقاومة للديكتاتورية.


ثمة تجربة في هذا الصدد يمكن أن نأخذها هنا كمثال، ألا وهي تجربة المواجهة السوفيتية للمطامح التوسعية لألمانيا النازية. الكل يعلم أن الإتحاد السوفيتي لاسيما في عهد جوزيف ستالين (1878-1953) لم يكن نظاماً ديمقراطياً ولاكانت النخب الحاكمة فيه منذ الثورة البلشفية 1917 الى بداية التسعينيات من القرن الماضي مؤمنةً بالمبادئ الرئيسة للنظام الديمقراطي التي ذُكِرَت في أشهر كتاب معاصر عن الديمقراطية إلا وهو كتاب للمفكر والسوسيولوجي الفرنسي الكبير (آلان تورين) والذي يحمل عنوان (ماهي الديمقراطية، حكم الأغلبية أم ضمانات الأقلية؟) بل كان النظام المتبع هو الشيوعية التي تحولت، بمرور المراحل السياسية، على أرض الواقع، الى نظام قمعي وإستبدادي، لاسيما على يد ستالين الذي قام بقمع وتصفية خصومه السياسيين بل وشمل القمع والتصفية كل من كانت تحوم حوله الشكوك، ومع ذلك ثمة إنجاز للتجربة السوفيتية تمثل في الحد من النازية والفاشية في قلب العالم الحي إلا وهو أوربا والذي آل هذا الحدث الى تقوية مبادئ الديمقراطية وفي النهاية هزيمة النازية والفاشية، ولايُخفى على أحد أن خسائر الإتحاد السوفييتي البشرية في الحرب العالمية الثانية قُدِرَت بـ 21 إلى 28 مليون نسمة، مما يعني لنا هنا حصول مفارقة في هذه التجربة عادت خيراً على البشرية وهي: أن الذين لم يكونوا مؤمنين بالنظام الديمقراطي ساهموا في إعادة بنائه وأستنهاض القوى الداعمة له والبانية لقيمه. وإذا كانت هذه هي أحدى التجارب الحية والكبيرة في تاريخ البشرية فهناك عشرات من التجارب الأخرى التي تؤكد لنا أن كل من قاوم الديكتاتورية يُعتبر مساهم في بناء الديمقراطية ولكن لايعني بالضرورة أنه مؤمن بمبادئ الديمقراطية حتى وإن أدت مقاومته الى إبداع مفاهيم فكرية وأخلاقية متناقضة مع الديكتاتورية والإستبداد أو مفاهيم ومعايير متفاعلة مع ما تنادي به القيم الديمقراطية.


وبهذا المفهوم، إذا تعمقنا في الحالة العراقية وسر الإحداث والصراعات السياسية والطائقية والعرقية التي دارت في عراق ما بعد الإستبداد الصدامي، لأتضح لنا حقيقة دامغة وهي أن العراق بالرغم من أنه دخل، من حيث الزمن، مع سقوط النظام السابق 9/4/2003 في عهد ما بعد الإستبداد، إلا أنه لم يتمكن حتى الآن من تجاوز البنى الفكرية والايديولوجية التي تأسس عليها الفكر الإستبدادي ولا أستطاع أن تُحَوَّل قطيعته مع الماضي المقيت، عهد صدام المظلم، من قطيعة زمنية الى قطيعة فكرية تقوم على إجتثاث الأسس التي قامت عليها الايديولوجية الإستبعادية والإقصائية للبعث والبعثوية كايديولوجية شمولية وإستبدادية.


صحيح - ويجب أن نعترف بذلك - أن العراق كتجارب بقية المجتمعات البشرية الأخرى دخل في مرحلة إنتقالية هي في الأدبيات السياسية معروفة بمرحلة الإنتقال من الحكم السلطوي الى الحكم الديمقراطي. وصحيح أيضاً أن هذه المرحلة معرضة للوقوع في تجاذبات سياسية وصراعات ايديولوجية وإجتماعية بين القوى السياسية والإجتماعية المختلفة خاصة إذا كانت مصاحبة لعملية الإنتقال الى الحكم الديمقراطي، ولكن مع ذلك ليس ثمة أية نظرية علمية تؤكد لنا أن الديمقراطية Democratic، كمنظومة قيم أو مفاهيم ومبادئ قائمة علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة وحماية حقوق الأقليّات والأفراد، أو على فصل السلطات والتمثيل والإنتخاب وسيادة القانون والمعارضة الوفية واللامركزية، تتأسس فقط على معارضة الديكتاتورية أو سياساتها وأفكارها، وإنما هي، قبل أي شيء، منظومة من القيم والمفاهيم والمبادئ التي لايمكن إرساؤها أو إنتهاجها أو حتى الإشتغال عليها دون إتباع مشاريع خاصة بالتنشئة الفكرية والسياسية والأخلاقية أو التنمية البشرية والثقافية والتثقيفية، وهذا ما نفقر اليها بالضبط في عراق اليوم والتي أدت عواقبها الى أن تكون قطيعتنا للحقبة الديكتاتورية هي غالباً قطيعة زمنية أكثر مما هي قطيعة فكرية.

عدالت عبدالله