نضال نعيسة

لا يخفى اللقب التاريخي الذي حازته بلاد اليمن السعيد quot;سابقاًquot;، باعتبارها مقبرة الأناضول. فحين كانت جحافل قوات خلفاء بني عثمان تفتح البلدان والأمصار، كانت تتلكأ، وتنكفئ، وتغص في ابتلاع مجرد شبر واحد من quot;محمية الإمامquot;. فقد فشلت الحملة وراء الحملة، من قبل الدولة العثمانية في إخضاع تلك المنطقة الجبلية النائية والقابعة في عمق الجزيرة العربية، والسبب بسيط جداً، ألا وهو العامل الجغرافي، الذي يتجلى في الطبيعة الجبلية الوعرة والقاسية لتلك البلاد التي كانت تقف حائلاً بينه وبي وجنود السلطان العثماني القابع وراء الباب العالي في أستانة بني عثمان.

وقصة العامل الطبيعي، هذه، تكررت في غير مكان في التاريخ العسكري. فكانت الطبيعة الجليدية الباردة والقاسية، مثلاً، حائلاً، أيضاً، أمام قدرة الغزاة على تخطي عتبات المدن الروسية الكبرى، وظلت موسكو، على الدوام، عذراء أمام الفتوحات الأجنبية. ولم يحدث أن أفلح أحد، من الخارج، في اقتحام جبال الجليد والوصول إلى عرش الكرملين. ولقد وقفت عوامل الطبيعة القاسية، هنا، مرتين هما الأشهر، أمام إخضاع روسيا للفرنسيين في واحدة، أيام الإمبراطور الباريسي نابليون، ومرة أخرى أمام الفوهرر النازي أدولف عشيق إيفا براون، الذي لم يفلح في شيء على ما يبدو، سوى في أسر لب تلك الفاتنة الألمانية الرائعة. ومن يومها ظهر في أدبيات العلوم العسكرية الروسية مصطلح quot;الجنرال ثلجquot;، الحامي الأول لروسيا الذي لا يقدر أحد على هزيمته. فقد كان الجنود الألمان المعروفين، بالبأس والانضباط، يرجفون، ويخرون صرعى متجمدين، وكالذباب، على أبواب ستالينغراد التي شهدت معركتها الستالينية، وquot;مأثرتها الكبرىquot;، الفاصلة كما يرد في الأدبيات السوفييتية، ومن يومها، كان التحول الأبرز في الهزيمة التاريخية للألمان في تلك الحرب.

وإذا كان التاريخ، وحسب ماركس، يتكرر دائماً، لكنه في المرة الأولى يكون على شكل مأساة، وفي الثانية على شكل ملهاة، فهذا ربما ما ينطبق، تماماً، على وضع الأمريكيين اليوم في أفغانستان، فها هي قوى الطبيعة ووعورتها، ترسم خريطة الصراع بعيداً عن تنظيرات معظم الاستراتيجيين والعسكريين الكبار، وتشكل، بالتالي، أبرز تحد للقوات الأطلسية، بزعامتها الأمريكية، ولا قيمة هنا لتهديد الطالبان المعهود. وعلى ما يبدو فإن العشرين ألف مقاتل القادمين من العراق، الذين كانوا باكورة عهد أوباما quot;التغييريquot;، لدعم القوات في أفغانستان، لن يكونوا إلا مجرد أرقام، أخرى، في المحرقة الأفغانية التي تلتهم، وتلتهم، المزيد من القوات الأطلسية هناك، ناهيك عن القصف اليومي الذي يطال مدنيين أبرياء. ولا يكاد يمر يوم دون سماع أنباء دموية وقاتلة من ميادين القتال عن تكبد تلك القوات لخسائر فادحة في الأرواح، إضافة إلى الأرقام والخسائر الخفية والسرية، والنعوش الطائرة، التي لا يدري بها أحد، ولا مجال للكلام عنها، وتماماً كما كان يحصل في بدايات الحرب في العراق.

ومع تصاعد حدة المواجهات والحرب في أفغانستان، والأنباء القليلة المسرّبة من هناك، فإن انطباعاً عاماً، يؤكد بأن هناك تعثراً ما، وصعوبات جمة، حقيقية، وجدية، تواجهها القوات الأمريكية في تلك الحرب التي بدأت تتجه، فيما يبدو نحو العبث والنسيان. وإذا استعرنا من التاريخ أيضاً، قصصه، وعبره، ودروسه، يتضح لنا بأن هذا البلد كان مقبرة، لثلاث إمبراطوريات كبرى عبر التاريخ، هي إمبراطورية الاسكندر الأكبر ذي القرنين، والإمبراطورية البريطانية التي quot;غابت عنها آخر الشموس في الخليجquot; مع رحيل قواتها من البصرة،، وواحدة من أخرى من أعتى وأقوى الإمبراطوريات عسكرية في التاريخ الحديث، ألا وهي، إمبراطورية الرفاق السوفييت الحمر، التي ارتدت على أعقابها مدحورة من أفغانستان، وكانت تلك الهزيمة العسكرية المجلجلة واحدة، إضافة لعوامل أخرى، ساهمت إلى حد كبير، في سقوط الإمبراطورية الحمراء الأولى، وربما الأخيرة، وبمشيئة الله، في تاريخ بني الإنسان.

لم يكن استعمال أساليب القوة، والقبضة الحديدية، مجدياً عبر التاريخ، والعنف لا يولد إلا العنف، ولكل فعل، فيزيائياً، رد فعل بحجم الفعل. وقوانين الطبيعة، كما هو معروف، هي ذاتها التي تسيطر على قوانين السياسية كما على قوانين علم الاجتماع، والحياة بشكل عام. ومن هنا لا يفهم هذا الإصرار الغربي العنيد على اللجوء العبثي والطائش إلى القوة، لحسم هذا الصراع وغيره، ولا يمكن النظر إليه إلا في سياق أمر واحد، وهو المضي العبثي، قدماً، وعن سابق تصميم، نحو تكرار المقولة الماركسية، إياها، فقط لتنعم البشرية، مجدداً بالمزيد من المهازل السياسية والعسكرية، لكن غير السارة، أبداً.

نضال نعيسة