السكوت عن الجريمة، جريمة أخرى، هذا ما يقوله الضمير الإنساني، وكل أعراف وأخلاق الحضارة على هذه الأرض، فإذا كانت الجريمة بهول جريمة اختطاف أكثر من ثلاثين رجلاً، بريئاً ومن المخلصين لوطنهم وشعبهم والمتفانين من أجله في أحلك الظروف، فكم هو ثقيل جرم السكوت عليها؟
بمثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات،اختطف أحمد الحجية رئيس اللجنة الأولمبية العراقية وحوالي 35 من قادة الحركة الرياضية في العراق،دفعة واحدة، من قبل مجموعة كبيرة من الرجال،جاءوا بسيارات تحمل شعارات وأرقام وزارة الداخلية العراقية، مرتدين بزاتها و على أكتافهم شاراتها ورتبها.
اقتحموا مبنى المركز الثقافي لوزارة النفط في وسط بغداد، حيث كان الحجية ورفاقه مجتمعين مع ما يربو على المائتين من الرياضيين والمعنيين بالرياضة،يتناقشون على مشاريع للنهوض بالرياضة في العهد الجديد، أخذ الرجال المهاجمون يطلقون النار داخل القاعة وينادون على أسماء جاءوا بطلبها: في مقدمتهم:أحمد عبد الغفور السامرائي،الملقب بالحجية، ونخبة من أعضاء اللجنة الأولمبية وكوادرها. قاموا بتقييدهم وعصب عيونهم ووضعوهم في سيارات خاصة ومضوا بهم على مهلهم إلى أوكارهم في حي شرقي بغداد، لم تستغرق العملية أكثر من نصف ساعة، كان الوقت قرابة الحادية عشرة صباحاً، كانت الشمس ساطعة في سماء بغداد، ومجال الرؤية واضحاً للجميع،وكانت في بغداد آنذاك خمس دوائر أمنية رئيسية كبرى،وكانت هناك القوات الأمريكية، وكانت هناك دوائر وميليشيات الأحزاب الممثلة في البرلمان، وكانت هناك أقمار اصطناعية وبالونات كبيرة ترقب بغداد ويقال أنها تستطيع أن ترى نملة إذا دبت فوق ياقة قميص مسؤول في بغداد، فهل يعقل أن هؤلاء جميعاً لم يروا ولم يسمعوا محركات هذا الموكب الكبير من السيارات الخاطفة،ولم يعرفوا أين اتجهت بهؤلاء الرجال؟ وإذا كان هؤلاء المسؤولون قد غشيتهم جميعاً نومة مفاجئة في ذلك اليوم، فلماذا لم يحقق بالحادث في اليوم أو الشهر أو العام التالي، ويستعان بمن أطلق سراحه أو أفلت من المخطوفين للتحري عما جرى في الأقل كدرس تدريبي في التحقيق الجنائي لا أكثر؟
يمكن القول أن جميع الحاكمين والمتحكمين التزموا الصمت، تفوه البعض بعبارات تقليدية تتضمن معنى الأسف أو العزاء لكن التخاذل والخنوع والتدليس،والتمرير، كان سمة المواقف! كان الحاكمون المتشبثون بكراسيهم مهما كانت نظافتها،يعولون على حقيقة أن الناس تنسى بسرعة،تماماً كما كان يرى صدام ويفعل، جاهلين أن التاريخ عكس البشر، كلما شاخ وهرم وتقدم به العمر يتذكر أكثر وبوضوح أشد، ثم يقول كلمته الفصل،حتى ولو بعد فوات الأوان!
لم يكن الحجية ورفاقه يحملون ضغينةً أو عداءً لأحد، كانوا على خلق عظيم حقاً،كان الحجية لاعب كرة سلة معروفاً في فريق الكرخ، وكان معارضاً للنظام السابق، وقد غادر إلى الخارج وحكم بالإعدام غيابياً، وقد عاد وفي قلبه طموح كبير للنهوض بالرياضة من المستنقع الذي أغرقها به عدي صدام عندما سلط عليها نزواته وجهله وأحقاده على الرياضيين! كان الحجية ورفاقه يريدون بناء الرياضة في العراق وفق المقاييس الحضارية الراقية،كانت كل أمانيهم أن يروا العراق بخير سعيداً معافى كجسد رياضي!
وقعت جريمة خطفهم في جو تصاعدت فيه حمى تكفير الرياضة والرياضيين، والسخرية من quot;رجال يركضون وراء كرة quot;،والدعوة لستر أجساد الرياضيين،خشية الوقوع في الغواية والخطيئة،والحديث عن رياضة عملية مباركة من الدين، ورياضة للتسلية مستوردة من الكفار،وغيرها من الأفكار السوداء المريضة!
من الواضح أن عملية الخطف الجماعي الهائلة هذه هي جريمة سياسية تقف وراءها قوة بحجمها!
لقد أراد مختطفو أحمد الحجية ومن يقف وراءهم خارج العراق وداخله خطف الروح الرياضية التي كان الحجية ورفاقه يتمنون أن تسود حتى في الحياة السياسية!وخطف الكرة الرياضية التي يراها الشباب تمثل البراءة والصدق والعفوية مقابل دعاواهم وشعاراتهم الزائفة!
حين يختطف أو يقتل رياضي أو فنان أو كاتب أو طبيب أو مثقف أو سياسي،أو أي إنسان برئ فإنما يراد بهذا، اختطاف حضارة البلد وأحلامه،روحه، ومستقبله،وحياته الجديدة التي يريد أن يبنيها صحيحة في عهد جديد،وبعد انقطاع طويل فرض عليه بالحروب والقمع والاستبداد! المختطفون يريدون أن يحطموا كل المصابيح المنيرة المبددة للظلام الذي ينشطون تحته في حياتهم الشاذة المأجورة ناشرين الفساد والتخلف والموت!
وحين ينتفض العراقيون اليوم ضدهم، إنما يدافعون عن حياتهم وكرامتهم وأحلامهم المنكسرة على مدى حقب طويلة!
إن أقوى الاحتمالات يشير إلى أن المخطوفين لم يعودوا بين الأحياء،فالخاطفون الأوغاد لا يريدون أكثر من الخلاص منهم،ومكافأتهم هذه المرة لا يأخذونها من أهالي المخطوفين كالعادة، بل من الجهة التي أرسلتهم وهي تملك الكثير من أموال الفساد،أو التمويل الخارجي!
من حق أهالي الضحايا ومن حق العراقيين جميعاً أن يعرفوا على أية جهة يحتسب مصير الضحايا؟ وإلى من يتجهون لمعرفة مصيرهم؟ أو في الأقل يجدون مسؤولين يمتلكون الشجاعة للقول: كانت أمانتنا وقد فشلنا في أدائها! هل يتجهون لمكتب رئيس الوزراء،فهو يتحدث اليوم عن تناقص الفساد والإرهاب والتحقيق في هذه القضية محك لذلك؟ هل يتجهون لمجلس النواب باعتباره حامي العراقيين،المعبر والمدافع عن حقوقهم؟ هل يتجهون لمكتب وزير الداخلية حيث من قام بالجريمة كان بثياب رجالها وسياراتها؟ هل يتجهون لوزير الرياضة والشباب، بصفته زميل عمل؟ هل يتجهون للسفير الأمريكي حيث القوات الأمريكية كانت مسؤولة عن أمن بغداد، ومعروف عنها أنها عندما يخطف أحد جنودها تقلب مكان الحادث رأساً على عقب؟
لابد أن الرياضيين ولاعبي كرة القدم قد أدركوا في قرارة نفوسهم أن تسجيل هدف في ملعب خصم كروي يغدو لا معنى له، ما دام ثمة مجرمون يستطيعون تسجيل أهداف قاتلة في صميم الرياضة العراقية كلها! لذلك يصعب أن ينتظر منهم نصر كروي كبير!
حتى اليوم لا أحد يتحدث،لا أحد ينطق، كأن هذه الجريمة قد وقعت في بلد آخر، في زمن آخر، لا أحد يقول إن كان هناك تحقيق في الحادث،وما هي نتائجه،وإن كان الجناة قد عرفوا أو القي القبض عليهم أو على بعضهم، لم يظهر حتى اليوم من يمتلك الشجاعة ولو فقط ليقول: لقد كانت مسؤوليتنا حفظ أمنهم وسلامتهم وللأسف، لسبب ما، لقد فشلنا، نعتذر! لا
أحد يجيب، لا أحد هناك! لا شيء هناك!.... لا يموت وطن إلا إذا مات فيه الضمير!
إبراهيم أحمد
التعليقات