في الوقت الذي ينفتح فيه كل العالم على كلّه، ويتواصل كل البشر مع كله، وتدخل أخبار قيام وقعود العالم بكل جهاته، لحظةً بلحظة، إلى كل بيت، نرى في بعضٍ لا بأس به من العالم(البعض المغلق من العالم بالطبع، أو الذي يريد أن يكون هو العالم كله)، نرى كتاباً يتكاثرون من حولنا كquot;البكتيريا الثقافيةquot;، يلقون علينا نحن العالم القارئ المتلقي، quot;دروساً ومحاضراتquot; في التربية الوطنية، ويعلموننا أسهل الطرق وأقصرها، للوصول إلى قلب الوطن وحبه، على طريقة كراسات وكتيبات التعليم(كتعليم اللغات وفن الطبخ)، التي غزت المكتبات العربية في العقود الأخيرة من القرن الماضي:
quot;تعلّم الوطنية خلال خمسة أيامquot;!
وفي الوقت الذي أصبحت ظاهرة quot;تعليم الوطينةquot; عربياً(خصوصاً بعد ظهور نخبة لابأس بها من الحداثويين والليبراليين العرب، الذين يريدون لأوطانهم وشعوبهم ومللهم ونحلهم الخروج من عباءاتهم القديمة، وتاريخهم الصدئ الذي عفى عليه الزمن)، ظاهرةً قديمةً طالها النقد والتفكيك والتشريح، فأنها تبقى كردياً، خصوصاً في كردستان الآن، حيث تعيش في العراق كquot;شبه دولةquot;، ظاهرةً قديمةً جديدة.
من يقرأ في quot;صحافة كردستانquot;، وبعض ركابها المتسللين إلى الصحافات الأخرى، سيلحظ حجم كارثية هذه الظاهرة، التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من quot;الصحافة المجيدةquot; أيام quot;الديكتاتور المجيدquot;، وquot;البعث المجيدquot;، وquot;قادسيتهما المجيدةquot;!
والأنكى، هو أنّ هؤلاء quot;الركاب الصحفيينquot;، أو quot;الركاب الكتابquot;، لا يتركون مناسبةً إلا ويكتبون فيها ما تتفتق بها قريحتهم، من quot;مديحٍ للكراهيةquot;(عنوان رواية شيقة وممنوعة من التداول في معظم الدول العربية، للروائي والسيناريست المبدع، السوري خالد خليفة. تعيد الرواية طرح الأسئلة الممنوعة عن الصراع بين ثقافتين/ ثقافة السلطة؛ ثقافة الكراهية، وثقافة الإخوان المسلمين/ ثقافة الكراهية المضادة، خلال حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم) وكل أخواتها الكثيرات اللامحبوبات، واللاشرعيات، في كردستان التي ما عادت quot;جبلاً صديقاً لأكرادهاquot;، بقدر ما أنها آلت إلى quot;مزرعةٍ خاصةquot; يصول ويجول فيها المتنفذون الكبار في الحزب والدين والعشيرة.
فهذا يكتب عن quot;ديمقراطية كردستانquot; وquot;تجربتها الفريدةquot;؛ الضائعة بين ثلاث quot;ديمقراطيات غائبةquot; أصلاً، ولا تمشي على الأرض؛ ديمقراطية المثلث الحاكم(الحزب+الدين+العشيرة)!
وذاك يمدح في quot;عبقريةquot; الرئيس، وقيادته لquot;سفينة كردستانquot;، بإعتباره quot;نوحاً جديداًquot;!
وثانٍ يصفف كل ما يمكن أن تجتمع في قاموسه من quot;كلمات عظيمة تليق بمقام العظامquot;، لكتابة quot;كتابٍ في المديحquot; من العيار الثقيل، تدخله إلى قلب الرئيس ونعمته!
وثالث يكتب في quot;فلسفة الرئيس المستقيمةquot;(كشارع نيفسكي؛ أحد أكثر شوارع العالم شهرةً واستقامةً؛ الشارع الذي كان عنواناً لإحدى قصص واحدٍ من أكبر أباء الأدب الروسي نيقولاي غوغول، والذي استشهد به قائد الثورة البلشفية، quot;الشيوعي المستقيمquot;، الرافع لشعار quot;الأرض والخبز والسلامquot;، فلاديمير إيليتش أوليانوف المعروف ب quot;لينينquot; ذات يوم بقوله: quot;أن الحياة ليست مستقيمةً كشارع نيفسكي)، وquot;صراط الرئيس المستقيمquot;، وquot;ديبلوماسيته المستقيمةquot;، وquot;نظرياته الجديدة المستقيمةquot; لتوليد الشرق الأوسط الكبير الجديد quot;المستقيمquot; تحت قيادة quot;كردستانه المستقيمةquot;!
ورابع ينفخ في quot;منجزات الحكومة الكردية الوطنيةquot;، وquot;منجزات الحاضر الكردي الوطنيquot;، ويفتح quot;الفال الكرديquot; متنبئاً، بquot;مستقبل كردي وطني واعد أكبرquot;!
وخامس، يمنح quot;الإستاذيةquot; من أول تقريره quot;الصحفيquot; إلى آخره، لquot;مسؤول في الحزبquot;، أو quot;مسؤول في العشيرةquot;، أو quot;مسؤولٍ في الأمنquot;، لمجرد كونه من جماعة الرئيس وآله وصحبه أو quot;ذريته المقدسةquot;، علماً أن ذاك المسؤول، الكبير بالطبع، لم يعرف من العلوم، سوى quot;علوم الجبلquot;!
وسادسٌ، يختص بدراسة شئون أحوال quot;الكبارquot;، وquot;البحث الأبيضquot; في تبييض صورتهم، وتجميل خصالهم، وتقديس مدنساتهم، منذ أيام quot;كردستان الجبلquot; إلى quot;كردستان العسلquot;!
وسابعٌ، ينظّر في بيته(الكبير طبعاً، والممنوح له مقدّماً، مع كامل طاقم الحراسة والخدم والحشم) لquot;علم جديدquot;، ينسبه إلى quot;الرئيسquot;(كلٌّ يضيف إلى إسم رئيسه اللاحقة quot;ئيزمquot;، ليصبح العلم هو كل الرئيس، والرئيس هو كل العلم)، ويدّعي بأنه quot;علم كردي كامل مكمّل، كلي القدرة، وصحيحquot;(على طريقة الماركسية التي قال فيها لنينين: quot;إن مذهب ماركس كليّ القدرة لأنه صحيح)!
والقائمة تطول..
هكذا أصبحت ظاهرة quot;ركوب الوطنياتquot;، للعبور إلى قلب الرئيس، ظاهرةً متفشيةً، تنخر كأي مرض ثقافي فتاك، في جسد الثقافة الكردية الراهنة، في الراهن المريض من كردستان المحررة منها والمفترضة.
والمتتبع لحالة الركود والقعود والجمود، التي تشهدها أجهزة الإعلام الكردية، المرئية والمسموعة والمقروءة، سيلحظ ظهور الكثير الكثير من quot;الرئيس والزعيم والقائد والحزبquot; فيها على حساب الشعب والثورة والوطن والدولة.
هكذا يمشي هؤلاء الكتاب الركاب، كتاب الوطنيات وركابها، كردياً، في كردستان المتحققة والمفترضة، وخارجهما، في موكب quot;الرئيس والقائدquot;، على quot;جنازة الشعب والثورة والوطنquot;.
هكذا يقتل كتاب التربية الوطنية الوطنَ، ويمشون في جنازته، كي تعيش صورة الرئيس:
عاش الرئيس..يسقط الوطن..
يسقط!
يسقط!
يسقط!
هوشنك بروكا
التعليقات