(1- 5)

يعتمد تحقيق التفوق لأية دولة على المستوى الاستراتيجي على عدة عوامل أساسية متداخلة و مترابطة مع بعضها وان کان أهمها و أکثرها تأثيرا العوامل الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، وتولي مختلف دول العالم بشکل أو بآخر أهمية لموضوع تحقيقها تقدما على الصعيدين الاقليمي أو الدولي أو کلاهما معا، في الوقت الذي نجد فيه ان هناك دولا حققت مستويات عالية من التفوق و حتى انها باتت تتحکم في لعبة التوازنات الاقليمية و الدولية و تحدد المؤشرات و المقاييس التي في ضوئها تصعد أو تنزل دولة أو دول محددة.


وکما هو صعب و مرير مسألة تحقيق التفوق الاستراتيجي و الوصول الى القمة أو مستويات مثالية، فإنه وفي نفس الوقت لن تکون عملية البقاء في القمة أو المستوى المثالي سهلة و هينة بل وانها قد تکون احيانا أصعب بکثير من عملية الصعود و أکثر مرارة منها.


وعند مراجعة المراحل التأريخية المتباينة نجد هناك العديد من الدول التي صعدت و بلغت مستويات غير عادية من التفوق الاستراتيجي وصارت تتحکم في مسارات السياسية و الاقتصادية على المستوى الدولي نجد أن هذه الدول بنفسها قد تقهقرت الى الوراء و نزلت من مستوياتها الاستراتيجية الى مستويات متدنية فقدت على أثرها أغلب أوراق الضغط التي کانت في يديها.


ونظرة الى العالم القديم، وتحديدا الى الزمن الذي کانت فيه کل من الحضارات الرومانية و الفارسية و الاغريقية هي الابرز و الاقوى و الاکثر تحکما في المسارات السياسية و الاقتصادية، فإننا نکتشف و بسهولة أن السبب الذي دفع بالاغريق و الرومان و الفرس الى بلوغ هکذا مستويات راقية کانت تعود أساسا الى منحها أهمية کبيرة لمسائل العلوم و الثقافة و سن القوانين و التجارة و تنظيم الحياة الاجتماعية و بناء قوة عسکرية مقتدرة ناهيك عن أنها ولاسيما عند الرومان و الاغريق قد أولت للجانب السياسي أهمية مميزة من حيث الترکيز على الابعاد الديمقراطية و إشراك أکبر عدد ممکن من الناس في صناعة و صياغة القرار السياسي و التشريعي. ونجد سبب نزول هذه الدول من مستويات رقيها و صعودها الاستراتيجي يتعلق بتراجع هذه الدول في الجوانب الاساسية التي صعدت من خلالها، وبتعبير أوضح و أدق، أن الامبراطوريتين الرومانية و الفارسية وفي مراحل زمنية معينة، لم تتمکنا من المضي قدما بمستويات تقدميهما على الاصعدة العلمية و الثقافية و القانونية و التجارية..الخ ولم تتمکنا من دفع عجلة التقدم بفعالية الى الامام وذلك ماولد عوامل الضعف و التراجع في آجم تلك الامبراطوريتين و دفعتهما لنزول حاد من علياء صعودهما الى حضيض خبو نجميهما.


ولو تمعنا في التأريخ العربي الاسلامي و طالعنا عصر صدر الاسلام و الخلفاء الراشدين و العصور الاموية و العباسية و العثمانية، فإننا نجد ولاغرو صفحات مشرقة من التفوق العربي الاسلامي على الصعيد الدولي وکيف انه تمکن من بسط نفوذه و سطوته على مختلف الاصعدة و بنفس السياق، فإن أسباب تراجع و سقوط الدول الاموية و العباسية و العثمانية تتعلق اساسا بتفشي الفساد و المحسوبية و عدم الشعور بالمسؤولية وغلبة الجهل على الثقافة و تراجع العلم و البحوث الدراسية.


أما الحديث عن العصور الوسطى، فإن ذلك سيقود للحديث عن دول مثل فرنسا و إمبراطورية النمسا و المجر کيف إنهما کانتا لفترات محددة تسيطران و بإحکام على مقاليد السياسة و الاقتصاد و التجارة الدولية وکيف تراجعت هاتان الدولتان، أما الحديث عن العصر الذي صعدت فيه بريطانيا و صارت(الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس)فإن تقدمها الصناعي الزراعي العلمي القضائي السياسي داخليا کان متلازما لسطوتها و بسط نفوذها على مختلف بقاع العالم وکيف کانت تتحکم في ممرات التجارة الدولية و تلعب الدور الابرز ليس في تنصيب و عزل الملوك و الرؤساء وانما حتى في بناء الدول ذاتها، هذه الامبراطورية بدأت بالتراجع مع صعود دول أخرى و بروزها وأخذها زمام المبادرة منها بمختلف المجالات الحساسة و المهمة وتکفي الاشارة الى دول مثل الولايات المتحدة الامريکية و المانيا(في فترة الحرب الباردة)و اليابان وکيف ان کل واحدة منها بدأت تلعب دورا على صعيد أو عدة أصعدة حتى آل الامر الى هذا اليوم الذي نرى فيه بوادر تراجع و إنکسار و تقوقع في الغول الامريکي وکيف أن الازمة الاقتصادية الاخيرة قد أماطت اللثام عن الواقع الحقيقي للاوضاع الاقتصادية الاجتماعية للولايات المتحدة الامريکية و وضعتها على المحك وهي الان في صراع مصيري من أجل ضمان مجرد بقائها في القمة وليس بقائها القوة الاوحد في العالم.


في هذا الخضم، وفي کل هذا التضارب السياسي الفکري الاجتماعي الاقتصادي، تبلورت المراحل التأريخية التي حددت و بموجب سنن و مقومات واضحة اولويات تفوق دول معينة و تلاعبها بالتوازن الاستراتيجي بين الدول لحساب مصلحتها و منفعتها الخاصة، وإذا ماوضعنا عصور التفوق العربي الاسلامي التي استمرت لقرون جانبا، فإن العرب وببالغ الاسف لم يتمکنوا من أن يشغلوا دورا مهما و حيويا في لعبة التوازنات الاستراتيجية الاقليمية و الدولية وأثبتت مجريات الوقائع و الاحداث على الارض أن دور العرب بهذا السياق لم يکن أبدا في مستوى الطموح العربي و لافي مستوى صراعهم المصيري مع أعدائهم الاساسيين و على رأسهم الکيان الصهيوني الغاصب للقدس.


ولامناص من ان الحديث عن السعي الجدي لإحداث تغيير في المعادلة و تجيير التوازن الاستراتيجي الاقليمي و الدولي بشکل أو بآخر بإتجاه يصب في مصلحة العرب، ليست بتلك العملية السهلة کما قد يتصورها البعض وانما هي واحدة من أعقد و أشرس المعارك المصيريةquot;الصامتةquot;التي تتداخل و تتشابك فيها العديد من العوامل و الظروف و الملابسات. إلا أنه لاخيار للعرب سوى خوض هذه المعاركquot;الحضاريةquot; و إثبات أحقيتهم بالتفوق من خلال سعيهم الحثيث من أجل کسب موطئ قدم اساسي و راسخ لهم في لعبة التوازنات الدولية وسوف نوضح تفاصيل ذلك لاحقا بعون الله تعالى.

محمد علي الحسيني
الامين العام للمجلس الاسلامي العربي في لبنان.