تعتري العديد من الاوساط الثقافية و السياسية حالة من الحنين على مکانة العرب في لعبة التوازن الاستراتيجي الاقليمي و الدولي إبان الحرب الباردة و ترى هذه الاوساط أن مکانة العرب في تلك الحقبة الحافلة بالتطورات و الاحداث السياسية المختلفة(والتي لم يکن من نصيب العرب سوى السلبية منها)، کانت إيجابية و افضل من مکانته في النظام الدولي الجديد.


نحو توازن استراتيجي إقليمي ودولي لصالح العرب

وإذا ما وضعنا مکانة العرب في حقبة الحرب الباردة تحت مجهر البحث والتمحيص وقلبناه من مختلف الاوجه و قارنناه بمکانته في ظل النظام الدولي الجديد، فإننا لانرى هنالك أية دلائل أو قرائن تجعلنا نؤمن بأن مکانة العرب في تلك الحقبة کانت أقوى من المکانة الحالية وانه کان يتمتع بمزايا و خصوصيات لايجدها متوفرة في ظل النظام الحالي، إذ ان العرب بحکم إنقسامهم الفکري السياسي على معسکرين متباينين من کل النواحي و الاوجه لم يکن بوسعهم فرض قاسم مشترك أعظم کرؤية عامة للفريقين على المجتمع الدولي بشکل عام و على القوى العظمى بشکل خاص وعندما نقول فرض رؤية فإننا نعني فرض مواقف و أجندة عربية تأخذ بنظر الاعتبار عند حالات بحث أو حسم مواضيع حساسة و بالغة الاهمية بين القوتين العظمتين وقتئذ(الولايات المتحدة الامريکية و الاتحاد السوفياتي)، بل وان الموقف العربي المنقسم على نفسه کان محصورا في دائرتين مغلقتين و کان وفي أفضل الاحوال يتم ترضيته بالوعود المستقبلية أو ارجاء بحث الامور الى فترة زمنية أخرى.


ولم تکن نکبة 1948 و نکسة 1967، و الانقلابات العسکرية و تغيير بعض الانظمة بصور سطحية و شکلية التي کانت مظهرا من مظاهر الواقع السياسي العربي خلال عقدي الخمسينيات و الستينيات من القرن المنصرم، إلا کمؤشرات خطيرة و إستثنائية تدل على ضعف و هشاشة الدور العربي في التوازن الاستراتيجي الاقليمي و الدولي وان النقطة المهمة هنا، هي أن کل الدول العربية الدائرة في الفلك السوفياتي مثلا لم تکن لها حظوة ودور فيتنام الشمالية عند ذلك القطب الشيوعي من حيث تحديد دور فاعل لها في لعبة الموازنات الدولية، کما أن معظم الدول العربية الدائرة في الفلك الغربي حينئذ، لم تکن تمتلك المکانة و الدور الفعال و المؤثر لأي من ترکيا او إيران الشاه، وان القرارات الدولية الحاسمة التي کانت تتخذ کانت تأخذ بعين الاعتبار دوما وجهات نظر أنقرة و طهران بنظر الاعتبار ولم تکن تخطو ولو خطوة إستراتيجية واحدة بمعزل عن موافقة و رضا تلك الدولتين.


وإذا ماناقشنا البعض جدلا بأن ترکيا أيضا قد شهدت إنقلابات عكسرية و مرت بظروف سياسية أمنية صعبة و معقدة فلماذا لم يؤثر عليها تلك الانقلابات بنفس تأثيرها على العرب، فإننا نقول بأن ترکيا وان کانت تشهد إنقلابات عسکرية و أخذ و رد سياسي بين الاطراف السياسية الترکية المختلفة، لکن کل الاطراف السياسية(بما فيها الانقلابيون أنفسهم) زائدا المنظومة العسکرية الترکية کانت تتمسك بالنظام العلماني الذي صاغه مصطفى کمال اتاترك کنسبة ثابتة لايمکن تغييرها او التلاعب بها ولو بصورة شکلية وهذه النقطة کانت عامل قوة و ثبات لترکيا سمح لها بأن لاتفقد من رصيدها الاعتباري على الصعيد الاستراتيجي الاقليمي و الدولي شيئا، أما فيما يتعلق بالجانب العربي، فإن أي تغيير للنظام کان يصاحبه تغيير لمعظم الاسس و الاعتبارات و المقومات التي بني عليها کدولة ذات شأن، إذ أن الانقلابات العسکرية التي حدثت في مختلف البلدان العربية کانت تلغي اولويات النظام السابق لها وتسعى لفرض مجموعة اولويات جديدة لها کانت معظمهاquot;کما تعودنا دوما من تلك النظمquot;هياکل شکلية و زخارف لفظية لم يکن لها أي وجود مادي على أرض الواقع وهذا الامر کان في حد ذاته يقدم خدمة مجانية لأعداء و خصوم و منافسي العرب في لعبة التوازن الدولية کما کان يقوي من مکانة و موقف تلك الاطراف فإنه کان في نفس الوقت يضعف و يخلخل المکانة العربية ويدفعها للوراء أو في أفضل الاحوال يجعلها تتراوح في مکانها.


صحيح ان الحماس و الاندفاع الذين ولدهما الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر کانا بدرجة بحيث لم يکن بوسع أي نظام سياسي عربي آخر من إجتيازه أو حتى الوصول الى مستواه، لکن الاصح أيضا هو أن هذا الحماس و الاندفاع لم يکونان بالاساس مبنيين على أرضية صلبة لاتهزها الرياح ومن هنا فإن حدوث هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، قد نزلت کالصاعقة على وجدان و احساس کل عربي حيث ان الاجواء الحماسية و الانفعالية قد قادت الجماهير الى فضائات خيالية لاترتکز على مقومات عقلية و منطقية خصوصا عندما أطل عبدالناصر بنفسه ليعلن نبأ الهزيمة و تحمله المسؤولية الکاملة لها و تنحيه عن الحکم أصاب العرب بحالة من الدوار فاقت وقع أية کارثة أخرى سمع بها لکنها في نفس الوقت أرجعته الى مربع البداية و اوضحت له بجلاء ان کل ذلك العالم المخملي الذي شيده عبدالناصر له قد إنهار خلال بضعة ساعات فقط!


جمال عبدالناصر الذي تمکن من تحقيق إنجازات إقتصادية و عمرانية کبيرة کتأميم قناة السويس و بناء السد العالي، لکنه لم يتمکن من أن يخلق حالة من الاستمرارية بذلك الاتجاه ولم تکن الظروف في خدمته بحيث تسمح له أن يحقق إنجازات مماثلة أو أکبر من ذلك وظل الاقتصاد يراوح في مکانه کما أن العلاقات السياسية المتشنجة لنظام حکم عبدالناصر مع غالبية الدول العربية المتمکنة إقتصاديا جعلته في النهاية لايتمکن من توظيفها لصالح مشروعه القومي ناهيك عن ان الروس أيضا لم يکونوا يقدمون من شئ له إلا وکان ذلك مشروطا و محددا بالاضافة الى أن الاخطاء المتعددة التي وقعت في هذا العهد ولاسيما تلك المتعلقة منها بصلاح نصر و تجاوزاته الکبيرة قد أضفت هي الاخرى بعدا سلبيا قاتما على مشروع عبدلناصر الناصر القومي وقلصت من فضائات توسعه و مد أذرعه بإتجاه العمق المصري اولا و العربي ثانيا. اما المعاهدة التي أبرمها جمال عبدالناصر مع السوفيات فقد کانت هي الاخرى في خدمة الاهداف الاستراتيجية السوفيتية و ماجناه عبدالناصر منها لم يکن سوى مکاسب تکتيکية محددة و ذات سقف مغلق وانها جعلت منه و من النظم العربية التي تسايره في حالة عداء مستشري مع الغرب وهذا أيضا ما جعله يفقد تلقائيا جانبا مهما و حيويا في لعبة التوازنات الاستراتيجية ويعتمد على طرف دولي واحد وهو ماکان يعني أن عبدالناصر قد رمى بکل کراته في السلة السوفياتية.

محمد علي الحسيني

*الامين العام للمجلس الاسلامي العربي.