بشار إبراهيم من دبي:هذه المرة، laquo;الفيلم لا يُقرأ من عنوانهraquo;!.. على خلاف المثل العربي الشهير..والعنوان الذي يلعب دوره شديد الأهمية، على الأقل من خلال وضع المشاهد، بشكل مسبق، في وضع متحفّز للاطلاع على تلك الـ laquo;مسخرةraquo; التي يعده بها الفيلم، لن يعدو أن يكون إحدى أدوات المخرج، ورغبته ربما في إحاطة فيلمه بشيء من الحيرة، الأولية.. ذكاء تتضح صورته حال الانتهاء من مشاهدة الفيلم.
في فيلم laquo;مسخرةraquo; ليس ثمة من مسخرة حقيقية، بما تحمله هذه الكلمة من معانٍ ودلالات في مخيلة المشاهد.. هنا ليس ثمة من لهو ولا عبث ولا هزل، على الرغم من الكوميديا العالية والراقية.. بل إن المشاهد سيخرج من هذا الفيلم محتقناً بالبهجة، الممزوجة بكثير من الحب والجمال، والافتتان بهذا العالم، على الرغم مما فيه من بؤس وعزلة، ووالحب والاحتارم لأولئك البشر، على ما هم فيه من فقر وقلة حيلة، ومحاولة جاهدة للحياة.

من فيلم quot;مسخرةquot;
في قرية جزائرية ما، وعلى مبعدة واضحة من المدن والمدنية، ينسج المخرج المؤلف الممثل laquo;لياس سالمraquo; فيلمه الروائي الطويل الأول. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن laquo;لياس سالمraquo; ينوي تقديم فيلمه بكل ما في كيانه، وكأنما هو فيلم عمره، إذ يتولى عملية التأليف (بالاشتراك مع نتالي سوجيون)، وعملية الإخراج، كما يقوم بالبطولة المطلقة في الفيلم، يسانده في ذلك كل من الفنانين الجزائريين: ريم تاكوشيت, ساره رقيق, مراد خان، محمد بوشايب.. وآخرون كثر..
يلعب المؤلف المخرج لياس سالم دور laquo;منيرraquo;، ذاك الشاب الجزائري، الذي يعيش مع زوجته، وطفله laquo;أمينraquo;، إضافة إلى رعايته لأخته الشابة laquo;أمينةraquo;. والأحداث تندلع على الشاشة في قرية نائية، تتهيأ على طريقتها الطريفة للاحتفال بزفاف اثنين من فتيانها.. ثمة من استعار رتلاً من سيارات laquo;الكولونيلraquo; الفاخرة، زينها بباقات الورد، وعبارات التهنئة، وجاء بها إلى القرية، يثير فرحة لا تنجلي، في النهاية، إلا عن زوبعة من الضجيج، وعاصفة من الغبار..
الفقراء يجدون سبيلاً للفرح، على الرغم من ضنك الحياة.. يخترعون طرقهم للحصول على الفرح، حتى ولو كانوا لا يملكون من أسبابه شيئاً.. إنها الحياة التي تغدو سمتهم الأساسية فيها هي العناد، والدأب، والاصرار على العيش والحلم.. هكذا ومنذ البدء يظهر الشاب laquo;منيرraquo;، برفقة صديقه laquo;خليفةraquo;، وكل منهما منشغل بهمومه وأحلامه.. laquo;منيرraquo;، ولا شيء يهمه سوى تلبية رغبات أسرته الصغيرة، من زوجة وأخت وطفل (يؤدي دوره ببراعة لافتة).. والصديق laquo;خليفةraquo;، الحالم بافتتاح محل أشرطة فيديو، وهو العاشق الخفي، الراغب باستكمال أحلامه بالزواج من laquo;أمينةraquo;، شقيقة منير، دون أن يدري هذا أبداً..
تنعقد الحكاية، عندما نتبين أن الفتاة laquo;أمينةraquo; تعاني من مرض غريب، يجعلها تغطّ في حالة من النوم فجأة!.. يعتقد منير أن هذا المرض سوف يقف حائلاً في طريق زواج أخته، ويصبح الأمر من أقسى همومه. في تلك القرية، كما في كل القرى، لا بد للفتاة من الزواج، وبالسرعة القصوى.. ففي القرى تأتي laquo;العنوسةraquo; أبكر مما نتوقع!..
وفي الوقت الذي نتابع منير، واهتمامه بتزويج أخته، لا ينسى المخرج المؤلف أن يقوم بتأثيث القرية، بمزيد من الشخصيات المتنوعة على اختلافها.. والتي يريد منير أن يحتل بينها مكانة ذات احترام وتقدير.. على الرغم من فقره، وبؤسه..
تتصاعد مشكلة منير إلى ذروتها، حيث يقوم ذات ليلة، وتحت تأثر المُسكر، بالإعلان صارخاً في ساحة القرية، أن أخته قد تمت خطوبتها إلى رجل غني من المدينة، وأنها ستتزوج قريباً.. حجر الكذبة الكبيرة الذي رماه منير في مستنقع القرية الراكد سوف يرجّ أركانها، ويتطاير في أرجائها مغيراً مواقف الناس، قبل أن يغير مصائرهم..
هنا تنبع الطرافة والكوميديا.. ونعيش لحظات لا تنسى مع أناس تلك القرية، وهم الذين يجدون أنفسهم جميعاً يتورطون في تلك الكذبة التي أطلقها منير، ذات لحظة سُكر..
يمشي الفيلم على خيط رفيع، ومشدود تماماً.. ويتحكم المخرج المؤلف بضبط أطراف الحكاية، وسلوكيات أهل القرية، دون أن يفلت، لحظة واحدة، احترامه وحبه لأولئك البشر، فلا ينحدر بهم إلى درك التفاهة والانحطاط، حتى إزاء ذاك الجار الغني الملتبس!.. كما لا ينزلق المؤلف المخرج، إلى أيّ نوع من السطحية أو الابتذال.. مرض الكوميديا العربية عموماً..
إنه بذكاء شديد يبقي على كل معاني الاحترام والتقدير لتلك الشخصيات، يصنعها بحب، لا يهزأ منها ولا بها، ولا يستخف بتحولاتها، أمام إغراء الكذبة الكبرى التي رماهم بها الشاب منير، دون لؤم..
يمضي الفيلم إلى النهاية السعيدة، فيتحقق حلم خليفة بالزواج من أمينة، التي يبدو أنه كان الشفاء لها.. وننجو جميعاً.. فيلماً ومشاهدين.. على وعد بأن المستقبل أفضل.. لنا.. وللسينما العربية.. وللجزائر أولاً.