محمود عبد الرحيم من القاهرة:يبدو الفيلم الفرنسي quot; الحياة الوردية quot; la vie en rose الذي حازت بطلته ماريون كوتيار على جائزة الاوسكار لهذا العام، واحدا من الافلام المرهقة جدا في مشاهدتها، لكنه مع ذلك يمتعك الي اقصي مدى، للدرجة التي لا تندم على قضاء ما يزيد عن الساعتين وربع الساعة، وسط احداث قاتمة علي المستوي النفسي والمادي.ولاعجب ان يحصل على جائزة الاوسكار لاحسن ممثلة، وان كنت اري انه كان يستحق، كذلك، جائزة افضل سيناريو وافضل اخراج، بل وافضل مونتاج.
ملصق الفيلم |
فالفيلم بناؤه مدهش ولولا الحرفية العالية في كتابته علي هذا النحو الملفت، واستيعاب المخرج اوليفييه داهان للتفاصيل الدقيقة التي كتبها بنفسه بمساعدة ايزابيل سوبيلمان، وسط رؤية فنية ناضجة لمعالجة سيرة ذاتية بشكل فريد، بمساعدة مونتير متميز، لكنا امام فيلم عادي لا يلفت النظر.. يسرد احداث او يرويها بشكل تقليدي خطي لكن ما حدث هو اللجؤ الي تقنية quot; تيار الوعي quot; في سرد السيرة الذاتية لحياة اسطورة الغناء الفرنسية quot; اديث بياف quot; ليتجنب اطالة الاحداث او اسقاط بعضها، ويضمن الاستحواذ على مشاعر الجمهور، بادخاله الي تجربة انسانية حافلة بالتناقضات من الفقر المدقع الي الغني الفاحش، من الاهمال المزري الي الشهرة الواسعة، من القسوة الشديدة الي الحب الجارف، عبر رحلة عمر طويلة تمتد من الطفولة الي الموت يتوقف خلالها عند المحطات الرئيسية واللحظات التي صنعت الاسطورة المأساة لحياة تلك المرأة.
فمن البداية الي النهاية اعتمد على الاسلوب الدائري في السرد بدلا من الاسلوب الخطي ليتنقل بنا من الحاضر الي الماضي وبالعكس في سلاسة، تبدو مرهقة احيانا لكنك تتقبلها وتصبر عليها، منبهرا بهذا الشكل وهذه التقنية التي تجعلنا نتوحد مع البطلة ونعايشها في لحظات حياتها المختلفة، مع المحاولة الدائمة للعب على المتناقضات، لابراز المعني وتقديم الخلفية النفسية والاجتماعية لهذه الشخصية الاسطورية، دونما ضجيج، فضلا عن توظيف المقاطع الغنائية في مكانها الصحيح، وعلى النحو الذي يضيف الي الحالة الدرامية ابعادا اكثر عمقا وتأثيرا.
فالفيلم يبدأ بمشهد لاديث وهي تغني على خشبة المسرح وسط انبهار الجمهور بغنائها، ثم فجأة يأخذنا المخرج الي عالم اخر وحياة اخرى عاشتها معبودة الجماهير التي تنعم بالرفاهية، الا وهي حياة الفقر والبؤس حيث اجواء الحرب العالمية الاولي، بينما يذهب ابوها الي الحرب يتركها مع امها التي تتركها بدروها للجدة التي تهمل في رعايتها، فيضطر الاب لدي عودته في اجازة ان يصطحبها الي امها التي تعمل في بيت دعارة حيث تقضي جزءا لا بأس به من سني طفولتها وسط بائعات الهوي
فتصب بعدوي في عينها تفقد البصر مؤقتا على اثرها ثم يأتي ابوها ويأخذها مرة اخري من هذا البيت المشبوه.
وقبل ان تستمر في هذا الخيط، يعيدنا المخرج الي اديث وعالمها المخملي من جديد وخشبة المسرح التي تعبدها، والشهرة التي تلاحقها اينما سارت، ليذكرنا اننا امام ذكريات تتداعي لامرأة لم تندمل جروح ماضيها التعس.
اذا كان المخرج الذي هو نفسه كاتب السيناريو يريد ان يروي مأساة هذه المغنية الشهيرة وطفولتها البائسة، فهو مدرك كذلك انه يروي سيرة ذاتية لفنانة ومن ثم لا يجوز ان يهمل التركيز على موهبتها وبداية ادراكها وقصة صعودها الفني الي ان صارت اسطورة، فخلال عودته الثانية الي الماضي، يضعنا امام بداية اكتشاف الموهبة واختبار سحر صوتها امام جمهور بشكل عفوي غير مخطط، من خلال مشهد مكثف نجد فيه الاب وقد عاد من الحرب يستأنف عمله كلاعب اكروبات في الشارع لكنه يبدو فاشلا في لفت نظر الجمهور والحصول على استحسانهم، فيطلب من ابنته بناء علي طلب احد المشاهدين، ان تقوم باي فعل او حركة بهلوانية لاستجداء عطف الجمهور ونقودهم، لكنها تقوم بفعل اخر هو الغناء فتبهر الحضور.
وهنا كانت بداية اكتشاف انها قادرة على الغناء وكسب الرزق من ورائه،
لكنها حين تصل الي سن المراهقة تبدد طاقتها بالغناء في المحال الرخيصة وسط العاهرات او على نواصي الشوارع، لا لشئ الا لتوفير قوت يومها، الي ان يراها بالصدفة احد مديري الكباريهات الراقية الذي يدخلها الي عالم الاحتراف ويضع قدمها على سلم المجد.
وبعد مدة نكتشف مقتله واتهامها بالمشاركة في التخلص منها لكنها تنجو من الامر وتكمل مسيرتها وتنتقل الي امريكا لتحقق مزيدا من الشهرة والاضواء والابهار.
وقد سعي المخرج جاهدا ومن خلال مشاهد منتقاة بعناية ان يظهر اديث اسطورة
فهذه السيدة منذ طفولتها الي نهايتها محط اعجاب الجميع، ورغم انها ليست بالجميلة الا ان الرجال من حولها يولعون بها، والنساء يتوددون اليها، لكنها تبدو قاسية القلب
يطاردها ماضيها ويتحكم في تصرفاتها وانفعالاتها، ولا تجد مهربا الا في ادمان الكحول والمخدرات، مع الهوس بالشهرة للدرجة التي كانت تصر على معاودة الغناء بعد ان تسقط علي المسرح من شدة الاعياء، وحتي بعد ان يتمكن منها المرض ويتقوس ظهرها تصر على اقامة الحفلات و الغناء في اكبر المسارح.
لكنها اولا واخيرا انسانية ومهما بدت انانية وقاسية فلها نقطة ضعف تمثلت في الشخص الوحيد الذي احبته بجنون، رغم انه متزوج وله اسرة وبدت مستعدة بالتضحية بكل شئ لاجل مارسيل لكن القدر لم يكن رحيما بها، اذ وهي تتهيأ لانتظار عودته من الخارج على احر من الجمر، تتحطم طائرته، فينفطر قلبها من جديد وتكمل طريقها مع الادمان والغناء بمنطق الانتحار.
وتبدو مشاهد النهاية هي الاقوي والكثر تأثيرا على الاطلاق، حين تسقط علي خشبة المسرح، ثم تصر على العودة فتسقط مرة اخري وتدخل في غيبوبة، فيتم نقلها للمستشفي، وعلى سرير الموت يتداعي الماضي مرة اخري بقسوته باحداث متناثرة
نري فيه مشهدا مضاءا بقوة خلافا للمشاهد المعتمة المتكررة او قليلة الاضاءة، تماهيا مع الحالة النفسية القاتمة المسيطرة على الاحداث، مشهد طفلة تقف في مقبرة القديسة تيريزا حيث اعتادت في الماضي ان تلجأ اليها في المحن، ثم نراها تدخل مرحلة الغياب عن الوعي من جديد، وهي تنطق باسم مارسيل والساعة التي اشترتها له كهدية ومات قبل ان تعطيه اياها، وحين تذكر اسمه يعطينا المخرج معلومة لم يخبرنا عنها من قبل من خلال مشهد مؤثر من الماضي لفتاة على سرير الموت في المستشفي، نكتشف انها ابنتها التي اهملت في رعايتها مثلما فعلت امها معها بسرقة براءاتها في بيوت الهوى.
من الفيلم |
ومثلما بدأ المخرج فيلمه بمشهد لاديث وهي على خشبة المسرح، انهي فيلمه وهي وسط جمهورها تغني، وكأنه يريد ان يلخص حياتها او الشئ الاهم في حياتها الا وهو فعل الغناء، ثم نراه اختار اغنية مؤثرة تحوي بالنهاية وتعبر عن احساسيها الاخيرة
وتوديعها للحياة غير نادمة على شئ او حسبما تقول الاغنية : انا لا اندم ابدا على شئ quot;.
اذا كانت ارد نجاح اي فيلم الي مخرجه، فهنا الامر مختلف، فالنجاح عنه يتشارك فيه كل فريق العمل على نفس الدرجة، بما فيهم المخرج الذي اجتهد في كتابة سيناريو متميز، وابدو متحمسا للمونتير الذي بذل جهدا خارقا في العودة من الحاضر الي الماضي وبالعكس، واحداث النقلات الزمنية والنفسية المتضادة والسريعة بايقاع متنوع ينسجم مع الحالة الدرامية للمشاهد، علاوة على مدير التصوير الذي ادخلنا الي اجواء الاحداث بحركة كاميرا تبدو اقرب الي عين تلتقط كل التفاصيل وتتوقف عند الحميمي منها، مستخدما اللقطات المتنوعة والاضاءة المناسبة لكل مشهد.
وان كانت الاضاءة الخافتة والاظلام هو الاعم بحكم قتامة الاحداث ومأساويتها معظم الفيلم، ففي لحظات الفرح او الحب نجد الصورة مضاءة تنطق بالاحاسيس الناعمة.
وتستحق الممثلة ماريون كوتيار جائزة تقدير الجمهور فوق الاوسكار، لانها استطاعت ان تجسد عديد من الحالات النفسية والحركية المتناقضة باقتدار فائق، وباقناع شديد.. حالة المرأة العاشقة، وحالة المرأة الانانية التي تتمحور حول ذاتها ونجاحها، حالة السوقية قبل ان تدخل الي عالم الشهرة، وحالة المرأة الراقية اجتماعيا، حالة المرأة اليائسة مدمنة الخمر، حالة المرأة الحكيمة التي تغزل وفي كلمات قليلة تعبر عن فلسفتها في الحياة لدي اجراء صحفية حوار معها، حالة المرأة الحدباء المتمردة على المرض ومن على فراش الموت.
المواد الأضافية في نسخة الدي في دي المطروحة في الاسواق
* فيلم تسجيلي عن كيفية صناعة الفيلم
* المشاهد المحذوفة
* تعليقات صوتية للمخرج والفنيين والابطال
* مشاهد للعرض الاول للفيلم في الولايات المتحدة الامريكية
[email protected]
التعليقات