عبد الجبار العتابي من بغداد:احتفت دائرة السينما والمسرح التابعة لوزارة الثقافة العراقية صباح يوم الاحد بالمخرج السينمائي العراقي هادي ماهود ، وهي المرة الاولى التي يحتفى بها بالمخرج في بغداد وهو الذي أخرج العديد من الافلام السينمائية بمجهوده الشخصي والتي نالت شهرة عالمية طيبة عبر مشاركاته في العديد من المهرجانات العالمية وفوزه بجوائز فيها ، وطالما كان يتنقل بين البلدان محلقا بجناحي حبه للسينما بل عشقه الذي تتراكم خلجاته في نفسه ، ومن يعرفه يعرف أنه يشتغل فوق الطاقة التي لديه من اجل ان يحقق أحلامه السينمائية .

المخرج العراقي هادي الماهود


في الصالة الكبيرة للمسرح الوطني ارتفعت على جداريات من الخشب لقطات من اعمال المخرج وصور عديدة له في مختلف الامكنة وهو يحمل كاميرته وشهادات عالمية وإعلامية بحقه ، وهذه من الممكن ان تعطي للناظر صورة معبرة عن حماس الرجل وطموحاته التي لاحدود لها ، اما داخل الصالة فرغم الجمهور القليل فقد كانت الروح السينمائية العراقية تتنفس واصابعها تتلمس الواقع وان كانت غائبة عنه ، وكان الحضور يشمون عطر السينما وهو يتضوع في الصالة مرتسما على الشاشة الكبيرة ، وعائدا بالذاكرة العراقية الى بعض من توهج يظل قائما .

بدأت الاحتفائية بكلمات قدمها الشاعر والصحافي حسن عبد الحميد تناول فيها بالثناء ما قدمه المخرج قائلا : دأبا وتواصلا على الاحتفاء بالمنجز الابداعي تفتتح دائرة السينما والمسرح نوافذ وابواب حرية الاقتراب والتلاقي مابين طرفي معادلة نقيم بها ذلك المنجز ، نعني المبدع من جهة وفي الاخر من يتابع ويرصد ويقيم ، وهذا اليوم .. جاء موعدا معدا للاحتفاء بما قدم المخرج العراقي هادي ماهود في مسيرة عطائه السينمائي قبل وبعد وما بعد عودته من سيدني / استراليا الى سماوة / العراق حيث ولد ، وعاد بعد سنين الغربة والمنفى ، تلك المهنة الشاقة التي اشتقت من قبل مثلا الشاعر التركي ناظم حكمت لذا قال ( المنفى يا حبيبتي مهنة شاقة) ، ومضى حسن يتحدث عن المحتفى به : ولسنا هنا بصدد فحص ومعرفة اوجاع الرحيل الاجباري للفنان السينمائي هادي ماهود فقد افصح فيلمه (سندباديون) خلاصة ذلك الجحيم سبيلا للخلاص وبحثا عن الحرية الحرة في خضم تأوهات بحر هائج لاطم كل موجاته في ( رحلة سيفيكس) وغرق مركب اللاجئين العراقيين مابين استراليا واندونيسيا ، فقد تحول المركب الى تابوت في بطن الحوت ، فيما راح هادي يهدد آهات وحسرات تلك الاحلام بسحر حزن اسود بل اكثر سوءا من الموت .
كان جمهور الحضور على قلته ينتظر ان تترامى نظراته على ما انتجه ماهود في فيلمه الذي كثيرا ما اثار المتابعين بفحواه ، مثلما كان ينتظر من حسن عبد الحميد ان يعلن عن تصوراته التي اكتسبها من مشاهدته للفيلم ، فعاد يقول : (تبدأ السينما كما يقول رولان بارت حيث تنتهي اللغة ، لكن بعض الرؤى والافكار والمواضيع تعيد الينا صياغات لغة اخرى انبل تعبيرا واصدق حرصا من مهام لغة السرد الادبي ، حين تضيء الصورة أنفاق ودروب ومسالك الوصول الى جوهر الحقيقة ، الحقيقة التي قال عنها شكسبير من انها تخجل الشيطان ) ، ومضى حسن في رصد حركة المخرج عبر الفيلمين الوثائقيين اللذين سيقدمان في الاصبوحة وقد شرح ما جاء فيها من معاناة ووضع مشاعره علامة دالة : ( اجدني منحازا لعراقية هادي ماهود الذي فاضل ما بين العودة من منفاه الى منفاه .. هنا ، لكنه رأى كل شيء ، في فيلمه (العراق موطني) يقرب ما رأى ، ربما .. غلغامش الذي كان يسكن قريبا ، ربما .. من بيت او بيوت مدينة السماوة مع انكيدو ، فنقل عدوى البحث عن عشبة الخلود ولكنها قد تكون (لاسمح الله)عشبة الموت .. اذا لم ننتبه جيدا للحياة التي تتناول جوانب منها هادي ماهود منذ لحطات العودة الى العراق من استراليا حتى حفل زفافه نهاية فيلم (العراق موطني) .
بعد ذلك ارتقى هادي ماهود خشبة المسرح ليحيي الحضور قبل ان يعلن عن بدء عرض فيلميه ونبه الى ان الفيلم الاول (سندباديون) قاس جدا ، ونصح الذين لا يحتملون مشاهدة المشاهد القاسية ان يجلسوا قريبا من الباب ليخرج ، ومن ثم يعود لمشاهدة الفيلم الثاني !! ، وكان هذا تحفيزا للجميع للبقاء ومشاهدة الفيلم فلم يخرج احد .
وعرض الفيلم الاول ومن ثم الفيلم الثاني ، والصالة مفعمة بالهدوء والسكون إصغاء ومشاهدة لكل لقطة ومشهد وحكاية وصوت ، وبعد الانتهاء ، تحدث المدير العام للدائرة شفيق المهدي عن المخرج وعائلته الفنية وعن مدينته السماوة وعلاقته به قائلا : عائلة ماهود ستبقى كثيرا في تاريخ السينما العراقية ، تبقى اسماء هادي وفاضل وعبد الحسين آل ماهود وسيأتي من بعدها الابناء والاحفاد ليستمر اسم العائلة المميز ، وتقصدت الاحتفاء بالاخ هادي الذي اعرفه منذ عام 1975، حينما كان طالبا في معهد الفنون الجميلة وانا في الاكاديمية ، واستمرت بيننا العلاقة من تلك المدة الى حد الان ،واضاف : وان كان هنالك جهاد في الفن فهذا جهاد عائلة ماهود التي تعمل بجهودها الذاتية فقط ، وانها تستحق الاحترام ، فإن إنجاز ماهود يمتلك اللون الخاص به الذي يتركب على الوثيقة والتلقائية ، وكأنه يرمي الكاميرا هكذا ويقول لها صوري ، انها تلقائية عجيبة ، هذه الميزة العليا والكبرى لانتاج (ماهود) ، واستطرد : شاهدنا (سندباديون) و(العراق موطني) ونستذكر افلاما سابقة له كلها تمتلك ميزة الاحساس العميق بالعراق وبالناس ، اتمنى ان نضع اصبع فرز بين كلمات ناس ومجتمع وشعب ، هادي ماهود يستخدم مصطلح الناس ، يستخدم كاميرته بين الناس .
وفي ختام كلمته وعد المدير العام هادي وفاضل وحسين ان يؤسس لفن سينمائي عراقي ، ومشيرا الى (العداء السري والعلني بين الدولة والفن ، وكأن العراق الذي انجز حضارات ست يعلن براءته من الفن والثقافة) .
بعد ذلك عقدت جلسة نقدية تم الاستماع فيها إلى شهادات وآراء عدد من المعنيين ، تحدث اولهم الكاتب والسيناريست عبد الحسين ماهود الشقيق الاكبر لهادي وقرأ شهادة جاء فيها : ( ان تنفلت من السطوة الابوية وتبدأ اولى خطواتك في العمل المسرحي .. ممثلا وكاتبا ومخرجا في الفاتح من عقد سبعينات القرن الفائت ، يعني ان تتقاطع مع الطريق المرسوم لك ، ابتداء من ارتكان مقاهي الحي والاصغاء لخزعبلات الثرثارين من كبار القوم على اعتبارها تقطر بالحكمة ، وانتهاء بالرضوخ لأمر يقضي بقطع الدراسة الاعدادية والانخراط بمسلك الشرطة كي تعين براتبك على الامور المعاشية دون ان تدرك ان ثمة من يقتفي اثر انفلاتك ، كان يجمع رفاق طفولته ويدربهم على مشاهداته لعروضك المسرحية ، هكذا بدأ هادي الذي يصغرني سنا بعشرة اعوام تأثره بي ، قبل ان يخالفني فيحول دراسته في معهد الفنون الجميلة الى السينما ، بينما كنت انا ادرس المسرح في اكاديمية الفنون الجميلة ) ، واضاف : (لا اغالي اذا قلت بأنه اخرج كل اطروحات الطلبة الذين زاملوه في المعهد ، اذ ان كلا منهم يسلم زمام اطروحته له ، فيفصلها بمشيئته ابتداء من السيناريو لغاية الاخراج مرورا بالتصوير والمونتاج واختيار الموسيقى والمؤثرات ، بالإضافة إلى إخراجه فيلمه الاول (بائع الطيور) وهو روائي قصير توفر على طاقة من التعبير ما ميزته عن الفيلم الذي انتج بالتزامن معه لصالح وحدة الانتاج السينمائي في تلفزيون بغداد في العام 1979 معتمدا على القصة نفسها ، اما عن اطروحته في المعهد فقد كانت فيلما تسجيليا حربيا (الفاتحون مروا من هنا) سبقت كاميرته غيرها في التوغل في ساحة الحرب لتعيش المجازفة بكل دقائقها وعلى قدر اخر من المجازفة كانت اطروحة تخرجه في اكاديمية الفنون الجميلة (الغريق) وهو فيلم روائي قصير اجتاز الامكانات المتاحة لاطروحة تخرج في الكلية ليحظى بدعم وزارة الداخلية في تنفيذ الفيلم وفي استنباط فكرته من ملفات الوزارة المتعلقة بجريمة قتل ابن لوالده ، وقد شغل تنفيذ الفيلم جهاز الشرطة في بغداد بكل عناصره ومعداته ليشكل سابقة ربط الكلية بجهات من خارجها لتنفيذ اطروحات الطلبة ، واعتقد انها لم تتكرر من بعده .)ويستطرد عبد الحسين في شهادته مستنكرا : ( بعد تخرجه ضاق ذرعا بوجوده المجدب في بلده الواقع تحت برقة الدكتاتورية ، فراح يبحث عن منفذ للولوج الى العوالم الفسيحة ما اضطره إلى صعود الجبل بحثا عن فرصة للنفاذ من الحدود او التعاقد للعمل في فيلم مصري من اخراج حسن الصيفي ولم يكمل اجراءات السفر قبل اصدار قرار منع سفر العراقيين بسبب الحرب العراقية الايرانية ، واخيرا وجد ضالته بالتسلل الى معسكر رفحا للاجئين العراقيين في الاراضي السعودية ابان الانتفاضة الشعبانية عام 1991 ، ومن هناك هاجر الى استراليا ليكون امام فرص عديدة للعمل في ميدان السينما ، ولان السينما لديه قضية لم يرق له الاستمرار في اخراج الافلام الاسترالية بعد فيلم (جنون) فراح يستجلي الهمّ العراقي عبر الاشرطة التسجيلية الباحثة في معاناة المغتربين وتجلى ذلك في فيلميه (تراتيل السومري) و (سندباديون) اضافة الى اشتراكه في اخراج الجانب المتعلق بالعراق في الفيلم العالمي (الرحيل موتا) ولقد سجل لنفسه السبق بدخول العراق حاملا كاميرته حال سقوط الصنم فأخرج افلامه (العراق موطني ، في دائرة الامن ، وليلة هبوط الغجر) ، معلنا عن بطولته كمغامر يتحدى الصعاب دون ان يأبه بما تعرض له من مهالك نجا في الكثير منها بأعجوبة ) .

المخرج مع بعض الحضور قبل الاحتفالية

ومضى عبد الحسين يرسم رؤاه عن شقيقه بذلك الاقتراب الذي يعلن عن كل شيء ، ويشرح فيه كيف ان علاقته بالكاميرا قد توطدت وصارت عينه الثاقبة والراصدة لمجريات الواقع وكيف اقتحم تفاصيل الواقع للتحرر من ضغوطها المرعبة ، مؤكدا ان افلام هادي لاتخلو من هنات (لانها مصنوعة وفق رؤية احادية الجانب ، متجاوزة كون السينما عملا اكثر جماعية من المسرح) ، ومشيرا الى اول فيلم جماعي للاشقاء ماهود الذي كان فيلم (وطن) لشقيقهم الاصغر فاضل والذي عمل فيه هادي مصورا ومونتيرا ، كما عمل مصورا في فيلم (صياد اللحظات الجميلة) ، ليختتم كلامه بالشكر لفيلم (وطن) الذي رسخ اخوتهم ومنهج عملهم المشترك ومن ثم القول (ربما سنزدهر في المستقبل ، ولكننا لانحمل اجابة عنه ، في ما اذا كنا على مستقبل يتحقق وفق ما ينبغي ان يكون) .


ثم تحدث المخرج المسرحي كاظم النصار قائلا : ان الاحتفاء بهادي ماهود حدث ثقافي ، الكثير منا لايعرف ماذا انجز هادي واشدد على ان الذاكرة العراقية بحاجة الى هكذا صدمات مثلما قدمه في (سندباديون) مثلما ان الكثير من العراقيين لا يعرفون بهذه المجزرة ، هؤلاء الذي غرقوا ، الذين يؤرخون لتاريخنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، وتحدثت الفنانة اقبال نعيم قائلة : دعوني لا اتكلم عن الافلام وانما عن هادي المهووس بالسينما المجنون جدا بها والذي قدم تضحيات كثيرة ليكون مخرج سينما وعمل في كل تقنيات السينما ، وكان متفانيا في خدمة اصدقائه وزملائه وخدمة السينما ، هادي كان صادقا جدا في تقديم الروح العراقية والناس على بساطتهم ، ومن خلال ماهود ادعو دائرة السينما والمسرح الى اقامة مهرجان للفيلم الوثائقي ليكون انطلاقة للفيلم الوثائقي العراقي ، ومسك الختام كان المخرج المسرحي جبار محيبس الذي قال : كلما ابتعدت الدولة كلما توفرت الحلول ، لقد تعلمت من هادي كونه جاء من خارج المؤسسة وابدع لانني اعتقد ان المؤسسة لن تقدم فنا حقيقيا بل قدمت علبا جامدة ، وهذه المؤسسة سرعان ما تطردنا .
وبعد ان انتهت طقوس الاحتفالية تحدث لنا المخرج هادي ماهود عن الاحتفائية قائلا : ان هذه الاحتفائية تعبر عن احترام الدائرة للمنجز من خلال مديرها العام ، وهذه هي المرة الاولى التي يتم الاحتفاء بي فيها وفي بغداد تحديدا بعد ان احتفي بي في بلدان عديدة ، والاحتفاء في بلدي يشعرني بالانتماء وبصدى ما حققته للسينما العراقية ، وقد اخترت هذين الفيلمين ليقدما في الاحتفالية لان احدهما يمثل مرحلة النظام السابق والاخر بعده والكثيرون لم يشاهدوا الفيلم الاول .
هادي عبر عن سعادته بهذه الاحتفائية الذي قال انها تجيء متزامنة مع ما حصل عليه في مهرجان الخليج السينمائي الذي اقيم مؤخرا في الامارات والذي حصل فيه على شهادة تقديرية وتنويه مهم من قبل لجنة التحكيم عن فيلمه (ليالي هبوط الغجر) وهذا التنويه هو اكبر من الشهادة الممنوحة ذاتها. هادي اعلن انه يستعد حاليا للعمل في فيلمه الجديد (في اقاصي الجنوب) وان دائرة السينما والمسرح ابدت دعم المشروع بالتقنيات المتوفرة لديها .