عرفت صبيا رقيق الجسد كعود الحنطة، خفيف الخطوة يعتقد أنه خلق من قطعة quot; من السماء quot; أكلتها أمه على ضفة دجلة وهي تترك كربة النخل محملة بالشموع تطوف مع التيار، تدعوا النبي زكريا أن يمنحها ولدا كما منحه الله ولدا. عاش الصبي هائما في البساتين لا تفارق السماء عيناه، ينام اذا تعب تحت شجرة رمان وارفة الظل. مرة اخذ غصنا منها وصنع لنفسه قوسا، وشد بين طرفيه خيطا من الجلد وأخذ أغصانا رقيقة وقلّم رأسها وزرع في أطرافها ريشا من جناح طائر، فصارت سهاما، ومن طلعة نخل يابسة صنع كنانة له.
جاء الربيع واخضرت في روحة رغبة جميلة. أخذ قوسه وعلق كنانته المليئة بالنشاب على كتفه، وخرج للبرية. في طريقه مرت فوق رأسه غيمة داكنة، أمطرت قليلا وراحت مسرعة. بزغت الشمس مبلولة بعدها. رفع الصبي رأسه الى السماء يشكرها على هذا المزاح الجميل، رأى فوقه قوس قزح هائل يحزّم الكون ويرفع السماء على ظهره.
تذكر أمة قالت له مرة quot; لا يموت أبدا من أمسك قوس قزح quot; فعزم على اصطياده قبل أن يغيب. رفع قوسه الى أعلى ووضع فيه سهما مريشا وسحب الخيط بكل قوته وأطلق يده فطار السهم بعيدا الى أعلى... ظل يتابعه حتى اختفى في السماء. بعد بضع دقات متسارعة من قلبه سمع صوتا يشبه ندف القطن تساقطت على أثره نتف زاهية الألوان.. ثم أنهمرت مثل شلال ملون من السماء فوق رأسه صبغه حتى أخمص قدميه. مسح الصبي وجهه فرحا بهذه النعمة الفائضة وعاد الى المدينة راكضا ملونا كالعنقاء.
في الطريق الى المدينة كان الناس يتوقفون وهم يشيرون اليه مندهشين. كان طائر من الفرح ولم يلتفت الى أحد. بالكاد، كانت تلامس قدماه الأرض حتى وصل ميدان المدينة. توقف يجر أنفاسه قليلا، ثم فتح ذراعيه الى أقصاها مثل شراع يواجه الريح، وصاح بالناس:
أيها الناس الطيبون... لقد صدت قوس قزح هذا الصباح!!
وراح يدور يعرض جسده الملون مثل طاووس. تحلق الناس حوله وكل واحد ينادي على آخر حتى أحاطوه بدائرة كبيرة أخذت تتسع أكثر فأكثر. حشد مرصوص من الناس يتهامس مبهورا مما يرى، بعضهم تعوذ بالله من الشيطان الرجيم كيف لصبي أن يكون مرقش مثل سجادة فارسية. من بين الحشد طفر طفل حاول الاقتراب منه فسحبته أمه وهي تصرخ بوحهه
- قد يكون معديا!!
عجوز بجانبها علقت
- أحلف بروح أبي.. أنها اشارات القيامة!
طفح الميدان بالبشر كما لو أن المدينة قد مالت بهم صوب المكان. جاء رئيس الشرطة على جواده يتفقد الأمر وأصدر أوامره أن لا يسمحو للصبي بالهرب. لم يكن الصبي خائفا بل محتارا بخوف الناس وصاح بهم
- لاتخافو مني.. فقد سقط عليّ قوس قزح هذا الصباح!
ورفع قوسه أعلى مايمكنه مثل تمثال روماني، وحاول سرد الحكاية غير أن الضجيج طمر صوته فكف عن الكلام.
تم استدعاء طبيب، فوصل الى الميدان مسرعا، وقريبا من الصبي، وضع حقيبته الطبية. لبس نظارته وتمعن الصبي جيدا وأخذ يسأله
- ماذا تشعر؟
أجاب الصبي
- أشعر بالسعادة.
سأله الطبيب
- متى تلوّنت؟
رد عليه
- بعدما سقط عليّ قوس قزح!
سأله مرة أخرى
- ماذا أكلت هذا النهار؟
رد الصبي
- أكلت خبزا وقليلا من التمر الزهدي.
سأله الطبيب
- هل يحكك جلدك؟
رد عليه متثاقلا
- لا.. لكن في قلبي دغدغة خفيفة.
هز الطبيب رأسه وأخرج أوراقه من الحقيبة وكتب تقريره، ثم لملم حاجاته وتراجع الى الوراء بحذر شديد، وأعلن أن الحالة تستدعي الأنتظار يوما كاملا لمعرفة نتائجها.
صاح رجل
- ماذا نفعل بالصبي حتى الغد؟
رد عليه آخر
- نحتجزه في الميدان ونقوم على حراسته ليلا.
بعضهم راقت له الفكرة، وبعضهم فمنعته زوجته من قضاء الليل خارج البيت. شرطي في مقدمة الحشد أقترح ربطه بعمود كهرباء. رد علية آخر
- تفضل أنت وأربطه بنفسك.. ياحكومة!!
من وسط الجموع اقترح أحدهم صنع قفص كبير يحجز فيه الصبي الى الغد في وسط الميدان. تحمس الناس للفكرة الغريبة وتوصلوا بعد نقاش جدي الى بناء قفصا من جريد النخل. فتبرع بعضهم بقص سعف النخيل وتجريده من الخوص، بينما أنشغل الآخرون بربط الجريد بالحبال على شكل مشبك.
تقدم الصبي الملون من الطوق البشري الملفوف حوله مثل حلقة حديدية. تقهقر الناس الى وراء وحذوره من الأقتراب منهم، فوقف في مكانه وخاطب أمرأة في الحشد
- خالة.. والله.. أنا لست مريضا، المسيني! انها ألوان قوس قزح.
تجاهلته المرأة، فواصل حديثه بنبرة واثقة ودار يكلم الناس عن ظهور قوس قزح في الصباح. شهد على صحة كلامه شاب وسيم من الحشد، وأكد أن قوس قزح هائل ظهر في جهة الشرق، لكنه لم يدم الا لحظات ثم اختفى. قفز الصبي من الفرح فقد عثر على شاهد عيان على صدق روايته ورد مسرعا
- نعم... نعم في الشرق. انا كنت تحته تماما ورميته بسهم مريش مثل هذا. وسحب من كنانته سهما صقيلا ورفعه عاليا مثل راية النصر.
هزء منه الجميع وصاح به ملاكم فقد اسنانه الأمامية
- لماذا لم تصطاد الثمث.. وكان يقصد الشمس.
غرق الجمع الغفير في ضحك متواصل اخفى صوت الصبي.
سأله احدهم
-ما اسمك ياولد؟
وقبل أن يجيبه الصبي صاح من وسط الناس رجل بدين
- اسمه قوس قزح!!
ابتسم الصبي فقد أعجبه هذا اللقب وكرر الكلمة في سره.. قوس قزح.. قوس قزح!! وظل يدور على الحشد يكرر لهم الحكاية.. مرة، مرتين وثلاث، حتى تعب تماما وعاد الى مكانه وسط الميدان وجلس على الأرض منهكا يائسا. ارتفعت من وسط الحشد أصوات وهمهمات طوبى! طوبى! أحسنتم صنعا. رفع الصبي quot; قوس قزح quot; رأسه متثاقلا فشاهد الجموع تشق الطريق لقفص كبير محمول على الأكتاف وكأنه موكب فرعوني مهيب. شعر بقشعريرة باردة تسري في عروقه, فطوى نفسه مثل كومة من حرير ملون ولمم ساقيه وضمهما الى صدره.
طرحوا القفص على الأرض، وعادوا يتسائلون كيف يدخلونه الى القفص وهم يخافون الاقتراب منه!! قالت فتاة يملئ فمها علك كبير
- نربطه بحبل ونجره الى القفص مثلما يفعل رعاة البقر!!
رد عليها شاب ملتصق بها
- ما رأيك أن تدخلي قبله... فيتبعك؟
لم يدم الحال طويلا واتفقوا على تضيق الدائرة عليه ودفعه بالعصي حتى يدخل القفص. وزع أحدهم العصي على الصف الأول من الحشد وأوصاهم بحرقها بعد ذلك.
بخطوات عسكرية ثابتة تقدموا، كما في الحرب، وهم يحملون العصي موجهة الى أمام. ضاقت الدائرة أكثر... ثم أكثر حتى تمكن أولهم من وضع عصاه في خاصرة الصبي ونغره نغرة عميقة. فز quot; قوس قزح quot; من مكانه فوجد نفسه أمام القفص مفتوحا. وضع رجل آخر عصاه في ظهره ودفعه بكل قوته، فراح الصبي متعثرا خفيفا كورقة الى داخل القفص. أغلقوا الباب عليه ودقوا حول القفص أوتادا من كل جانب وأحكموا ربطه بالحبال فغدا مثل هيكل سفينة في طور البناء.
بات quot; قوس قزح quot; ليلته لا هو نائم ولا هو صاح كان كومة من مشاعر فرح وخوف ووحشة وضعف. مع أنسام الصباح المبكرة غفى غفوة خفيفة يهدهده صوت امه يهمس في قلبه: quot; لن يموت من مس قوس قزح!! قوس قزح لن يموت quot; أيقظه أول شعاع للشمس شاكس عينيه وأصوات المدينة وهي تزحف الى عرينه. الى الميدان وصل رئيس الشرطة يلمع على حصانه. شق طريقه وسط جموع الناس ووقف قريبا من القفص. تلفت حوله ببطئ.. وببطئ أخذ الصمت يسود المكان. رفع يده وأعلن
- نشكركم على تعاونكم معنا ونبشركم أن لجنة طبية توصلت الى دواء يشفي من هذا الوباء عفانا وعفاك الله منه.
جاءت اللجنة الطبية ومعها رجل يحمل سلما خشبيا. وضعوا السلم على ضلع الفقص وصعد أحدهم عليه وهو يحمل دلوا أبيضا مليئ بسائل شفاف. quot; قوس قزح quot; كان يدور داخل القفص رافعا رأسه الى أعلى، مثل دمية معلقة من راسها وهو يكلم الموظف الصحي فوقه
- عمي.. أرجوك!... ماذا ستفعل؟
رد عليه الموظف ببرود
- نغسلك كي تبرء.
وصب عليه الدلو بأكمله دفعة واحدة..
لم تشهد الدنيا صمتا كالصمت الذي حل ساعتها. حتى الصبيquot; قوس قزحquot; جمدت أنفاسه وهو يراقب نفسه مندهشا.. مد يديه ينظر اليهما.. تبخرت أصابعه أولا ثم اختفت كفاه..اصبح خفيفا وشفافا ثم تفجر جسمه بدون ألم مثل نافورة هائلة من الألوان. بركان بارد من الوان قوس قزح صعد الى عنان السماء وهوى الى الأرض، طوفان ملون غمر الناس والمدينة وفاض في الشوارع وراح يسيل الى دجلة جارفا كل شيء في طريقه، صابغا العالم بألوان قوس قزح.
تفرق الناس منشغلين بأنفسهم، ملونين كالفراشات، تاركين ورائهم القفص فارغا في وسط الميدان.
الخامس عشر من أيار 1989
- آخر تحديث :
التعليقات