هذا التعبير (الزيتوني) استعرته من رواية العراقي (نصيف فلك)، إذ اختار لها عنوان (خضر قد والعصر الزيتوني) والتي نشرتها جريدة (الصباح البغدادية) كبادرة أولى لمشروع طموح أعلنت عنه الجريدة. سيكون لي مع هذه الرواية جهد خاص بها أأمل أن أتمكن منه. لما خلقته في نفسي من انطباعات وردود أفعال وأفكار كثيرة. وعلى العموم كانت تلك الأفكار كثيراً ما شغلتني، إنما كنت اكتفي بترديدها مع نفسي على الغالب وفي بعض الأحيان القليلة ناقشتها مع أصدقاء، كان منهم من اتفق معي ومنهم من اعترض. إنما ظلت تلك الأفكار حبيسة إطارها الذهني، تبحث عن عمل روائي ينتقل بها من مجرد التنظير إلى التطبيق. ولما جاءت هذه الرواية وقرأتها، شعرت معها أن الأوان قد حان لإطلاق تلك الأفكار والهواجس إلى دائرة الجدل الأوسع.
ربما لم يخطر ببال هذا (المنفلت) من زمانه (نصيف فلك) نفسه، وهو يكتب هذه الرواية عن العصر الزيتوني، أنه سيكون أول الناجين من أخطر فخ من فخاخ هذا الزمن، الفخ الذي كأنه أُعد خصيصاً لكتاب الرواية العرب. رغم أنه القائل في مقابلة له مع جريدة (المدى) العراقية ((من وجهة نظري الشخصية أجد المرض الخطير في الرواية العراقية أنها تتأستذ وتتثاقف على القارئ وتتكلم بلغة كاتبها وهذا ما حاولت أن أتخلص منه في (خضر قد والعصر الزيتوني)..!!)). كثيرون هم الذين كتبوا قبله وسيكتبون بعده عن هذه الحقبة التي دامت دهراً كابوسياً من طغاة وولاة تناسلوا كالفطر السام في أرضنا.. اختلفوا في الرؤى والأساليب والمحاكاة واختلاف المسافة الفاصلة بينهم وبين موبقات هذا الزمن.. ألا أن أحداً منهم لم يتنبه بعد أنه يكتب من داخل الفخ لا من خارجه.. يكتبون وكأنهم في سجن، لطول الحبس واليأس من الخروج اعتادوا عليه وجعلوه وطناً لهم.. بل هناك من تنطع لمهام التنظير والتفلسف لأهمية وضرورة هذا السجن، واصماً من ينوي الخروج أو يهدد به بشتى مفردات الخيانة للكتابة ذاتها وليس للطغاة وسجنهم اللغوي..!!
العصر الزيتوني في رواية (نصيف فلك) كان حقبة (البعث) العراقي، التي دامت أربعين سنة بدأت بانقلابهم الأول سنة 1963. حيث كان الرفاق الحزبيون يرتدون على الدوام بدلات زيتونية اللون محاكاة للعسكر على الجبهات. ولأن الحقبة منذ بدايتها إلى نهايتها المعروفة، كانت حقبة حروب وتهديد بالحروب، إن كانت على الداخل أو على الخارج.. لذلك اختفى قوس قزح الألوان منصهراً بهذا اللون الوحيد..!!
لكن العصر الزيتوني لم يكن اختراعاً عراقياً محضاً، بل هو المشروع القومي العروبي الطموح، الذي حلم وربما ما زال يحلم بتجميع (الأمة) العربية من (بغداد) إلى (تطوان) تحت راية واحدة وقائد واحد هو ذاته القائد الزيتوني.. وحتى وقت قريب وتحديداً بعد سقوط تمثال القائد الزيتوني العراقي في بغداد، لم يتخلص فتية وصبايا سوريا من اللون الزيتوني المفروض إجبارياً في المدارس، إلا بمعونة ضغوط أميركية-إسرائيلية- أوروبية..!! رضخت لها حكومتهم واستبدلته بلون السماء. مع بقاء القيادة زيتونية بالطبع.
سوف لن أخوض في حقيقة ملابسات إخفاق المشروع الزيتوني القومي العروبي وفي كل المجالات التي أرتادها. والتي جاءت كمحصلة منطقية، بسبب من بنيته ونواياه وافقه التاريخي المغلق. لم يأت كمشروع يحول المجتمع باتجاه اطر وأبنية أوسع وأكثر فاعلية في التاريخ، بقدر سعيه لبعث الموتى، لمط الأطر القبلية، النقيض الموضوعي للوطنية التي كانت هي منطلق المشاريع القومية في التجارب الناجحة في أوروبا وغير أوروبا، جاعلاً من قيم القبيلة ومعاييرها التي كان عليها أن تندثر، موروثا للهوية القومية واطارا يشكل السيرورة القومية بدلا من الحداثة والعلم والأفكار التقدمية (التطويرية).
لكني سأتكلم عن إحدى ركائز هذا المشروع. تلك التي شكلت الفخ مدار حديثي. منذ بدايات انطلاق هذا المشروع في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، عمل سدنته على ترسيخ بنية أساسية في المشهد الثقافي، تنسجم مع فهمهم للمشروع القومي العروبي الذي أرادوه لهذه (الأمة). إذ من بين كل العوامل والركائز الباحثة عنها مشاريع التوحيد ولم شمل الأمم في اتحادات وتجمعات، تكون قادرة على الحياة والتفاعل مع متطلبات العصر، اختاروا اثنين هما الأضعف والأكثر قابلية على الالتباس. هما وحدة اللغة والتاريخ المشترك. بمعنى أنهم لم يختاروا عوامل وركائز فاعلة وحاضرة على الأرض، بقدر اختيارهم لعوامل هي ذهنية في الأصل.
بدءاً من (ساطع الحصري) وهو الأب الروحي للمشروع، القائل في كتابه quot;ما هي القوميةquot;: (إن أسّ الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ..) وكما يبدو أن الرجل ومن معه كانوا مشغولين بقضية اعتقدوها مصيرية، تلك هي؛ كيف يمكن توحيد ابن (الموصل) وابن (فاس) وهما يتعرقان ستين مرة قبل أن يفهم أحدهما بماذا يرطن الآخر.. إذن لا بد من لغة (استاندر) لهذه الأمة، تكون كفيلة بتهميش اللهجات إن لم يكن تذويبها تماماً. وبما أن الرجل لم يكن منظراً مكتبياً فحسب، بل سُمح له بالدخول إلى صميم عملية إعداد المناهج الدراسية والتربوية في دولتين على الأقل (العراق وسوريا)، فقد كان وزيراً للمعارف وللتربية لأكثر من مرة في الدولتين، إضافة إلى عمله اللاحق في الجامعة العربية وبذات التخصص، ولأسباب أخرى دينية في الغالب سآتي عليها لاحقاً في هذا الجهد، لذا تحولت تلك الرؤية القومية من تنظير ذهني إلى واقع حال معاش ما زال مستمراً في الحدوث إلى يومنا هذا وربما سيستمر.
الغريب في الأمر أن ذلك المخضرم (الحصري) الذي كانت اللغة العربية ليست لغته الأولى بل هي الثالثة بعد التركية والانكليزية.. والذي دارت حوله الشبهات الكثيرة نتيجة انتقالاته التي كان يقفز فيها قفزاً وليس تحولاً تدريجياً، من (العثمنة) إذ كان من سدنة الدولة العثمانية وخدمها المطيعين إلى موالاته للمشروع الغربي الاستعماري ومن ثم إلى القومية العنصرية.. لم يستعر هذين العاملين من واقع الحال الذي يريد قومنته، بل استعارها من التجربة الألمانية..!! التجربة التي نجحت أخيراً ليس بفضل وحدة اللغة والتاريخ ولا حتى بفضل (بسمارك) وحلوله الاستبدادية، إنما هي نجحت بفعل عوامل أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية، كانت فاعلة على الأرض وليس في مخيلة هذا أو ذاك من السدنة القوميين الألمان. لأن (النمسا) ذات اللغة الألمانية والتاريخ المشترك، لم تدخل المشروع القومي الألماني، وهي الآن أمة قائمة بذاتها، ناهيك عن وجود شعب غير صغير في سويسرا يتكلم الألمانية لكنه جزء من امة أخرى تتكلم ثلاث لغات هي الأمة السويسرية. ولا أعرف ما هو رد فعل الحصري لو عاش إلى أيامنا هذه ورأى الوحدة الأوربية والبرلمان الأوربي والعملة الأوربية الموحدة، في حين أن كل دولة تتكلم لغة خاصة بها، ولها تاريخ منفصل. أو ماذا سيقول عن أمريكا واستراليا وبريطانيا وكلهم يتكلمون اللغة الأنكليزية ولهم تاريخ مشترك هو تاريخ الاستعمار الأنكليزي لهذه البقاع وتفريغها أو تهميش سكانها الأصليين. أليست هذه أمم قائمة بذاتها الآن..؟
ولوضع ذلك العامل موضع التطبيق، لم يكن أمام السدنة القوميين سوى اللجوء إلى تصنيم (صنم) اللغة العربية وإدخالها في بند المقدسات، التي لا يجوز التطاول أو الخروج عليها تحت أي مبرر كان. ومعروف؛ أنك بتحويلك كائن حي ndash;واللغة كائن حي- إلى صنم يعني أنك كتبت شهادة موته ولم يعد صالحاً إلا للقبر أو للمتحف. لعلهم (أصحاب المشروع القومي) أرادوا مناكفة الإسلاميين القائلين بمشروع الأمة الإسلامية، المشروع العابر للقوميات والاثنيات المختلفة والذين جعلوا أس الأساس لها هو وحدة الدين والتاريخ المشترك.. وهؤلاء لم يكونوا في الواقع اقل طوباوية من أولئك، لأن الوقائع على الأرض أثبتت أن الدين المزعوم ليس واحداً، بل هو أديان على عدد المذاهب والطوائف والفرق والعلاقة السائدة داخل هذا التلون هي العداء والتكفير وليس الاتفاق..
لكن، وعلى الرغم من هذه المناكفة، والتي وضعوا لها عنوان العلمنة، وجد السدنة القوميون أنفسهم ومن حيث لا يريدون، أنهم يخوضون في المنطقة الغيبية، منطقة المقدس الديني ذاتها. أقول من حيث لا يريدون؛ لأنهم أرادوا لمشروعهم العلمنة وليس الأسلمة. وهذا قد حصل بسبب من الارتباط العميق بين اللغة العربية والدين الإسلامي. معروف؛ أن العلاقة بين الدين الإسلامي واللغة العربية، كانت على مدى الحقبة الإسلامية، علاقة حماية متبادلة. أمد النص المقدس اللغة بالثبات والصمود لحقب طويلة وهي داومت حامية له بوجه كل من يحاول التطاول مجتهداً هنا أو هناك.. حتى تحولت (اللغة) ليس فقط إلى حامي للنص، بل إلى حامي وراعي لكل المنظومة الفكرية والمعرفية التي سادت على امتداد الحقبة الإسلامية. لم يجرؤ أحد على التعامل مع اللغة بوصفها كائناً حياً يغتني وينموا ويتطور على الدوام مع سير الحياة، إنما ظلت أقنوماً مقدساً لا يجوز التطاول عليه. بل منهم من ذهب أبعد من هذا، إلى حد إحالة اللغة العربية إلى السديم الأول، الأصل الأول لكل شيء فرعها في الأرض واصلها في السماء. تأملوا معي هذا الكاتب وهو يجهد نفسه أيما إجهاد ليثبت لك أن اللغة العربية كانت في أساس كل لغات الأرض ومنها لغة الأغريق؛ إذ يقول وهو يحاول إعادة اسم الإله الأغريقي (سنطور) أو (سنتور) إلى أصله العربي، والرسوم التي وصلت لذلك الإله، كان فيها على هيئة حيوان خرافي نصفه إنسان ونصفه حصان، يقول:
(حقيقة امره ان نصفه انسان (سن) ونصفه الاخر ثور (تور)، وهذه قصة قديمة تعود إلى أن اليونانيين الذين لم يكونوا يعرفون الحصان من قبل، حدث أن هاجمهم مجموعة من الغزاة يركبون الخيول ، فراهم الناس الذين لا يعرفون الخيول على هيئة ثيران) يعرفونها) ولكن نصفها الاعلى (إنسان) فكان أن أطلقوا عليها اسم (سن - تور) وهو تعبير عربي فصيح لما رأوه ، لكنهم بعدما حددوا شكله تما ما تبين أن ما سموه (سن تور) إنما هو بشكل حصان فرسموا الحصان وابقوا على الاسم الذي شاع في كل بلاد الاغريق..)(1) تأملوا خيال هذا الكاتب في لوي عنق الحقائق إلى حد كسرها لتلائم ما يريد إثباته من أن اللغة العربية هي أصل كل اللغات. علماً أن اللغة اليونانية فيها غير قليل من المفردات ذات الأصل العربي، ليس هي فقط بل حتى اللغة الألمانية والفرنسية والانكليزية والأسبانية، ناهيك عن التركية والفارسية. مثلما تجد مفردات أجنبية في اللغة العربية كذلك، جرى تعريبها وغدت جزءاً من اللغة العربية.. كل هذا أمر طبيعي، لأن التجمعات البشرية عمرها ما كانت منفصلة تماماً عن بعضها، هناك على الدوام اختلاط وتبادل وتفاعل إن عن طريق الحروب أو التجارة.. وبالتالي حين تكون مفردة (فردوس) الكائنة في أصل الديانة الإسلامية هي مفردة فارسية في الأصل، هذا لا يعني أن الفارسية هي أصل اللغات..!!
هكذا، تحول (الدين واللغة) إلى ركيزتين أساسيتين لكل الأنظمة الشمولية في منطقتنا سواء منها القومي-الزيتوني أو الثيوقراطي-الإسلامي. كلهم عملوا على إيجاد حراس للغة عبر مجمعات (سلامة اللغة العربية). والأمر مازال يتعلق بالسلامة لا بالتطوير. الأمر الذي جعل كل من يحمل هاجس التغيير للمجتمعات العربية، أن يولي عنايته للغة كذلك، اللغة المتحولة إلى حارس للقيم الاجتماعية والسياسية والمعرفية، التي تكمن في أساس استمرار وإعادة إنتاج المنظومة الشمولية لأنظمة الحكم. بمعنى أن اللغة أصبحت ميدان صراع. بقدر ما يكون من تعصب وانشداد لأحد طرفي المعادلة. حتى أن بعض الناقمين قد طالبوا علانية بضرورة إلغاء اللغة العربية الفصحى كلياً من المناهج وإحياء العاميات المتداولة بين الناس ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك إلى حد المطالبة باستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني جرياً على ما فعله الأتاتوركيون في (تركيا).
أما على الجبهة المقابلة، جبهة (حراس السلامة)، فكان السيف مشهراً مسلطاً على رقبة كل من يتطاول على حرمة وقداسة وشرف وطهارة اللغة العربية بتمريره لمفردة أو أكثر من العاميات المتداولة.. حتى غدت عملية دخول مفردة (عامية) إلى نص الكاتب تشبه عملية دخول كلب إلى مسجد. سيتعرض الكاتب بسببها ليس إلى النقد الاكاديمي الرصين فحسب بل إلى التسفيه والتهميش الذي يجعله يلعن الساعة التي فكر فيها بالاقتراب من (مدابغ) النقد الأدبي العربي..!! لأن الأمر بالنسبة للحراس لم يعد عملية اجتهاد أو حاجة فنية استوجبها النص، بل بمثابة شتيمة ومسبة لقدس الأقداس..!!
هذا على الرغم من حقيقة أن اللهجات العامية، كانت وما زالت، هي الوسيلة الوحيدة التي يخوض من خلالها الناس حياتهم ومعضلة كتاب الرواية العرب أن شخوص رواياتهم المفترضة هم من هؤلاء الناس وليسوا من سكان كواكب سماوية. حتى وصل الأمر بأحدهم وهو الدكتور (عبد العزيز بن عثمان التويجري) في كتابه (مستقبل اللغة العربية) أن يطالب الحكومات العربية بـ(استصدار قرارات مسئولة، أو وضع تشريعات قانونية ملزمة، تقضي باعتبار الخطأ في اللغة، ليس فقط عيباً أو مسبة أو نقصاً، وإنما اعتبار ذلك خروجاً على القانون، وهذا هو الشأن المتبع في بعض الدول الأوروبية، خاصة في فرنسا التي يٍُلزم القانون المصادق عليه في الجمعية الوطنية (البرلمان) باحترام اللغة الفرنسية).
لا يهمني الآن إن كانت الحكومات الفرنسية المتعاقبة قد طبقوا قانون (التويجري) على الملايين الملونة المهاجرة من مستعمرات فرنسا والذين كل يتكلم لهجته وطريقته الخاصة أو فرنسيته الخاصة والتي في غالبها لا تمت للفرنسية (الاستاندر) إلا بقدر ما تمت لهجة أبن (فاس) العربية إلى لهجة أبن (الموصل) العربية..!! ما يهمني في هذا الحيز كمتلقي، أن ثمة إشكالية وقفت منذ البداية وما زالت تقف تحدياً بوجه المنجز الأدبي المكتوب باللغة العربية وتحديداً (الرواية). أسميتها إشكالية الانفصام بين الكاتب والمتلقي. من نتائجه الخطيرة إضافة إلى هذه الهوة التي تزداد عمقاً بين الطرفين، وربما نتيجة مباشرة لها، تم تكريس مفهوم النخبة بدلالاته الأكثر انعزالاً وانغلاقاً. حتى غدا معها الكاتب كأنه يكتب لنفسه وفي أفضل الحالات لأناس يعرفهم يكاد بالأسماء. وأنا على يقين فيما لو حصلت إمكانية أجراء استفتاء ثقافي، لمعرفة نسبة عدد قراء الأدب، بأشكاله المختلفة، إلى الذين يجيدون القراءة من سكان البلاد العربية، لظهرت النتيجة مخيفة. وهنا لا أقول نسبة عدد القراء إلى نسبة السكان، لأن النتيجة من المؤكد هي كارثية وبكل المقاييس.
لغة النص الروائي والقصصي المكتوب بالعربية، ظلت حائرة بين فكي لغة علوية، تفتقد لدفء وحميمية ونبض الواقع وهي لغة الكتابة أو اللغة القياسية التي بموجبها يٌقاس باروميتر طهارة وشرف اللغة في هذا النص أو ذاك.. ولهجات وطنية ومحلية، هي أقرب إلى خليط هيروغليفي مكون من لغات قديمة عربية على أجنبية، تفاعلت على مدى دهور طويلة لتنتج ما يسمى باللهجات الشعبية أو العامية (من العموم أو العامة).
مشكلة كاتبنا المتورط بكتابة (الرواية)؛ أن العلاقة بين المحكي والمكتوب في ثقافتنا، هي أقرب إلى العلاقة بين الثابت والمتحرك. بين لغة محنطة في المعاجم والقواميس والنصوص الدينية، تلفها تابوات وغيتوات تقترب من التقديس، ليس أقلها يافطة -المحافظة على سلامة اللغة العربية- بينما اللغة الأخرى المحكية وهي في حقيقتها لغات كثيرة بعدد الشعوب والأقوام الساكنة في هذه المنطقة، نراها مرنة، منفتحة، تغتني على الدوام بالجديد من المفردات وتطور القديم. على العموم هي متحركة مع تحرك الحياة، لأنها في واقع الأمر الوسيلة الوحيدة التي يخوض من خلالها الناس حياتهم كما قلت.
هذه الثنائية ألقت بأثرها إلى داخل الكاتب، هو يفكر ويشعر ويتلمس موضوعه باللغات المحكية، لكنه يعبر عنه ويكتبه بلغة الكتابة. أن الكاتب وهو يكتب نصه يعتمد على خزينه المعرفي والشعوري وهو خزين بالضرورة متنوع تنوع عالمة المعاش، وروافد هذا الخزين المتنوع، يتمثلها الكاتب في ذهنه بالضرورة بلغات متنوعة، هناك لغة لكل جزئية من جزئيات الكون، للحيوان والطير والشجر، ما بالك بالإنسان..!! وبدلاً من أن يلجأ الكاتب إلى جعل الأشياء تتكلم لغاتها في النص، نجده يحاول صهر اللغات كلها في لغة وحيدة، يكون قد تمكن منها بحكم تجربته القرائية. في الواقع، هو يقوم بما يشبه عملية ترجمة لا تنتهي. يعمل على تحويل تلك اللغات المختلفة إلى لغة وحيدة بلون وحيد هي لغة الكتابة بلونها الزيتوني، ظاناً أنه يلبس التنوع هذا لباس المنطق والمعقول أو لنقل المطلوب. حتى أننا نصادف كثيراً مثل هذا الحوار بين شخصيتين، يبدوان وكأنهما فقيهان قادمان علينا من العصر العباسي:
الأب: هل سقيت البقرتين يا بني..؟
الأبن: نعم لقد سقيتهما يا أبتاه..!!
علماً أن الشخصيتين هما فلاحان معدمان من أقاصي الصعيد المصري أو الجنوب العراقي لم يحالفهما الحظ بفك الخط ما بالك بنحو وتصريف اللغة..!!
في هذه الحالة سيتحول الكاتب من خالق مبدع إلى جلاد..!! نعم جلاد. لأنه سيكون كلي الحضور والسطوة على مخلوقاته وفي كثير من الأحيان يحصل هذا دون إرادته مدفوعاً بالقيد اللغوي. هو لا يستطيع إلا أن يكتب بهذه اللغة، أو على الأقل هكذا هو يعتقد؛ لأن اللغات المحكية أو المفكر والمحسوس من خلالها، لم تزل تفتقر للقواعد وللبناء النحوي الذي يجعلها تتماسك في النص، لتنسجم تالياً مع أوامر ونواهي مدابغ النقد الأدبي. النتيجة، سيواجه الكاتب شكلاً آخر من الاغتراب، هو اغتراب الشخصية ذاتها في النص عن واقعها، حتى لتكاد أن تكون شخصيات الكثير من الروايات العربية شخصيات مستلة من قواميس اللغة وليس من الواقع.
يقول (ماركيز) في المقابلة الطويلة التي ضمها كتاب (رائحة الجوافة) عن روايته (خريف البطريرك) أنها _ أكثر رواياتي التي استخدمت فيها العامية، أنها أقرب إلى الأفكار والتعبيرات والأغنيات والللازمات التي يستخدمها سكان الكاريبي أنها تحوي عبارات لا يستطيع فهمها سوى سائق تكسي في بارانكيلا). بينما نحن نقرأ ماركيز المترجم لنا عبر اللغة الأكاديمية للمترجمين بلغة فصيحة ومهذبة إلى حد نتوهم معه أن ماركيز ربما كان يوماً من تلاميذ سيبويه أو نفطويه..!!
أقول هذا لأن الرواية هي الشكل التعبيري الوحيد، الذي يحاكي الحياة بكل أبعادها بما فيها سيرورة الخلق. فمن الطبيعي أن نتوقع شمولها لكل الأنساق اللغوية التي يخوض بها الناس حياتهم. أنك في الرواية ستجد أو هكذا هو المفترض، إضافة إلى لغة الكاتب، لغة الراوي، لغة التداعي الداخلي للشخصية، لغة الحوارات البينية وما أوسع هذه اللغة وما أكثر فخاخها، لغة الهوامش الدخيلة؛ كأن تكون رسالة، مخطوطة، أغنية، قصيدة، حكاية، طرفة..إلخ لكل هذه الأشياء أنساقها اللغوية الخاصة بها والتي تخوض من خلالها حياتها ومكورها هو الذي ندعوه بلغة النص. لأن اللغة لم تكن يوماً مشكلة فنية يمكن التحايل عليها بتدوير وترجمة المفردات، بل هي تكمن في صميم العملية الإبداعية للمبدع. موضوع النص هو الذي يفرض لغته الخاصة به على الكاتب وليس سدنة العصر الزيتوني أو فقهاء مجمعات سلامة اللغة.
اللغة مع أنها إشارات لأفعال ونوايا وعلاقات، لكنها في كل تجسداتها ذات بعد شخصي تدل على مستخدمها. مفردات معينة بطريقة نطق معينة تدلك على شخص بعينه، أحياناً مفردات قليلة تدلك على تجمع بشري قد يكون كبيراً، قبيلة، حزب، مفردات أخرى تعبر عن مهن.. بل هناك مفردات في لحظات تاريخية تتحول إلى وثائق تدمغ مرحلة تاريخية كاملة.. تأملوا معي في مفردة (حواسم) في العامية العراقية الآن وهي المفردة التي وُلدت بالتحديد يوم 9/4/2007 اثر الاحتلال الأمريكي للعراق. كانت هذه المفردة عنواناً أطلقه القائد الزيتوني على معركته الفاصلة مع أعداء الأمة سماها (أم الحواسم).. واستنتجوا بعد مئة سنة ماذا ستعني هذه المفردة للمؤرخين. لأنها تحولت بين عشية وضحاها من دلالتها العسكرية الحاسمة إلى دلالة جديدة تتعلق بكل ما له علاقة بالسرقة والنهب والسطو والعبث واللاوطنية.. علماً أن هذه المفردة هي واحدة من سلسلة طويلة من مفردات كلها تناسلت بعد هذا التاريخ أي أنها ما زالت طازجة تنبض بدمائها؛ (علاسة، صكاكة، جنازة، قفاصة..إلخ) والغريب أن كل هذه المفردات يجب أن تقرأ بتشديد الحرف الثاني فيها..!! لماذا؟ لا أدري. لعله قانون كامن فيها. هي مفردات قد تحولت إلى جزء مهم من كيان اللغة المحكية ومن تاريخ الشعب العراقي الراهن. والمشترك في كل هذه المفردات أنها قد تحركت بزوايا حادة عن جذورها وأصولها المتحدرة منها، أنها جميعاً من أصول عربية فصيحة.. إنما عمليات الاشتقاق التي مورست لها من قبل (العامة) والدلالات الجديدة التي منحت لها، ستجعل منها مفردات مخدشة لحياء وطهارة حراس السلامة، الأمر الذي سيجعلها تنتظر عشرات السنين قبل السماح لها بدخول محراب اللغة العربية في مجمعات سلامة اللغة..!! ومن الآن إلى ذلك اليوم الموعود سيكون من الصعب على الروائيين إدخالها إلى نصوصهم..!!
كل هذا حدث ويحدث، لأن (الثقافة) الزيتونية لم تصدق بعد؛ أن الإنسان هو الذي يمنح المفردة الدلالة المطلوبة ويشحنها بجمالية ما أو قبح ما وليس العكس. اللغة بذاتها مفردات يمكن تداولها بأشكال وأساليب ولأهداف مختلفة.. تنوعها واختلافها وتعارضها سواء في الاستخدام أو في الدلالة، هو أمر دال على تنوعنا واختلافنا وهو في الأخير أحد تجليات إنسانيتنا. السؤال؛ لماذا يضحي المبدع بكل هذا الثراء وينزوي في قفص صغير ينظر منه إلى العالم.. ولماذا نحرم اللغة العربية (القياسية) أصلاً من التطور، من أن تجاري الحياة في سيرورتها.. لماذا تتحول شخصيات الرواية إلى رهائن يسيرها الكاتب على هواه، وينطقهم بما يشاء.. لا أحد منهم يعبر عن نفسه، كيف يعبر عن نفسه وهو لم يجد الوسيلة بعد..!؟ الوسيلة الوحيدة الممنوحة له هي وسيلة غيره، وسيلة الكاتب. الكاتب قد يستطيع حتى التفكير من خلال اللغة العربية المعجمية، لأنه كاتب وله من التجربة مع الكلمة المكتوبة والخبرة الكثير، لكن شخصياته ليسوا بالضرورة كلهم على مقاسه، ومن باب أولى ومن الأمانة والصدق، أن تقدم شخصيات الرواية بصفتها شخصيات حية تحس وتشعر وتفكر بلغتها اليومية، طالما للمفردة امتداد شخصي.
ثم أن البشر يعيشون كبشر متقاربين ومتداخلين فيما بينهم، لا توجد غيتوات أو حدود فاصلة بين هذا التجمع أو ذاك، بل هم جميعاً ضمن تنظيم مجتمعي مهما كانت طبيعة ذلك التنظيم. لذلك حتى لهجاتهم لن تجدها صافية تماماً، لابد وان تجد فيها آثار هذا التداخل. ليس غريباً أن تجد الإنسان يستخدم داخل بيته وبين أسرته لغة، هي غير اللغة التي يستخدمها مع أصدقائه كذلك هي غير اللغة التي يستخدمها في عمله وهي غيرها التي يصلي بها لربه أو يغني بها لنفسه.. إنما كل هذه اللغات في وعيه هي متحاذية، مستقرة كل في مكانها الأكيد والثابت، لا يوجد بينها حوار، هو لا ينظر للغة بعين الأخرى، كأن ينظر إلى نفسه بعين لغة العرائض أو إلى لغة الصلاة بلغة الأغاني.. لماذا؟ لأنه لم يصل بعد إلى ذلك البعد النقدي الانفتاحي في وعيه. أما كاتب الرواية فهذا عمله أو يجب أن يكون هذا عمله، لا يوجد شيء يعفيه منه، لأن المفردات التي سيستخدمها في نصه هي ليست فقط مختلفة، بل هي متعارضة في أحيان كثيرة، ولها مرجعيات ايديولجية لا تستقر الواحدة جنب الأخرى بسلام، بل هناك جدل متواصل بين المفردة التي تقال والتي ستقال رداً عليها.
ما الذي يحدث فيما لو دخلت لهجة من اللهجات الكثيرة المستخدمة إلى لغة النص..؟ في هذه الحالة ما يحدث هو أن تلك اللهجة تكف عن كونها لهجة منفصلة، بل تصبح جزءاً من اللغة الأدبية للنص، بقدر ما تكون اللغة الأدبية للنص قد فقدت شيئاً من نقاوتها العرقية وطهارتها المفترضة. على الغلاف الثاني من الكتاب الأول لثلاثية (أرض السواد) الرائعة لـ (عبد الرحمن منيف)، نجد التنويه التالي: quot;سأستخدم اللهجة العراقية البغدادية في هذا العمل، ليس إبرازاً لمواهب لغوية متصورة بقدر ما هي لضرورات فنية..quot; لعله أراد القول سأستخدم اللهجة البغدادية ليس بطراً إنما لضرورات حتمها واقع النص.. انظروا إلى هذا الاستدراك؛ كيف يظهر ما كان يجب أن يكون هو القاعدة على أنه استثناء.!!
ما أردت قوله من كل هذا، ليس دعوى لإلغاء اللغة العربية الفصحى من التداول أو بكلمة أدق ما تبقى من العربية الفصحى، بل أدعو لجعل هذه اللغة مرنة قادرة على استيعاب اللهجات المختلفة وكذلك الوافد الضروري للاستعمال من اللغات الأجنبية.. تخليصها من احجية (الطهارة) و(المقدس).. في النهاية هي وسيلة يخوض من خلالها الناس حيواتهم وهي في البدء والمنتهى وسيلة الروائي لاستخلاق أو خلق حيوات موازية أو متقاطعة مع الحياة الواقعية..
لا أدري إلى متى سيظل كتابنا يكتبون من داخل الفخ.. حذرين متوجسين من تسلل مفردة من المفردات التي يخوض من خلالها الناس حياتهم إلى نصوصهم.. وإلى متى ستظل (مدابغ النقد الأدبي العربية) تخوض في ذات التابوات والغيتوات المفروضة دينياً أو زيتونياً.. أننا في حقيقة الأمر في فخ التوحيد البسماركي ليس للشعوب هذه المرة لأن شعوبنا الآن مفككة أكثر مما كانت عليه قبل بزوغ نجم المشروع الزيتوني ومساحات المحتل من أراضينا تزداد يوماً أثر آخر والسيادة مرهونة خارج الحدود والحروب الوحيدة التي انتصر بها الزيتونيون وغير الزيتونيين من الأنظمة الثيوقراطية الدينية هي حروبهم على شعوبهم.. لكنهم رغم كل هذا الفشل نجحوا في مشروع واحد.. ذلك هو التوحيد البسماركي للمشهد الأدبي.. ألا يكفي هذا...ِ!!!؟
(1) محمد رشيد ناصر ذوق/ لبناني / في موقع الديوان العربي/ بعنوان اللغة العربية ولغة الأغريق/