عندما يُصْغي الشّعْر، في مٌلْتقى طرق العالم، إلى ضجيجٍ من المجْهول.

تقديم وترجمة عبد اللطيف الوراري: أندري فلتير(1945 ـ ) واحد من أهمّ شعراء الفرنسية اليوم؛تمتدّ تجربته الشّعرية على أربعة عقود من الزّمن كرّسها، بنفَس المحبّ وأريحيّته، للبحْث في الأزمنة المترحّلة للذّات، الإيقاع والمعْنى، عبْر مفترق طرق الأرض. منذ عمله quot;عائشةquot;(1966)، مروراً بquot;الجحيم والأزهارquot;(1988)، وquot;الحبّ الأقصى، قصائد لشانتال مودويquot;(2000)، حتـّى آخرأعماله الشّعرية quot;ظهيرة لكلّ الأبْوابquot;(2007).
شاعر بقدْرما رحّالة، صديق للفضاءات النائية والرّحبة التي تعبق بسحر التّاريخ والأسطورة من طريقٍ بلا نهايةٍ. من المغرب إلى الهند، عبر مصر وسوريا وأفغانستان وكشمير والنيبال والتيبت. كثبان الصّحراء إلى جانب الأديرة والمعابد والقمم الشّامخة والوديان المسكونة بحجيج الرّهبة. كأنّما السّفر حلم، والحياة الحقيقيّة جُعِلت للسّفر. هُنا، وقف الشّاعرعلى وحدة الثقافة والإيمان رغم اختلاف الشعوب، التي جعلت من الموسيقى والغناء والشّعر وسيلةً لتعْبيره، وحقْلاً لصدى روحه الفارهة، مُخْلصاً لدرْس حياة أكبر متصوّفة الإسلام الروحاني والحيّ. إنّ هذا البحث الخشوع في أسرار الذّات، وطبائع الأشياء وأجروميّات المكان فتح قصيدة الشّاعر على فعْل مغامرتها حيْثُ يتقاطع الشعر، الموسيقى، الرحلة والسيرةواليوميات.
بذَل الشّاعر كُلّ عمله الشّعْري للنّفَس، والتمرد، والحبّ المتوحّش عدا ابْتِهاجه الذهْني والبدنيّ، رابِطاً إيّاه، إجمالاً وأساساً، بquot;الصّوت العاليquot;الّذي يستثمر الموسيقى بقدرما يكتشف quot;شفويّة جديدةquot; تمنح الأذن قدرة على التقاط ذبذبات القصيدة وإيقاعها الهائل الذي يُراعى أثْناء كتابتها فيما يُشْبه نداءً خفيّاً يعْكس أحواله، وترحّله الذي تمزّقه الحياة، الرغبة والموت. يحمل صوْته أنّى يرحل.
في أغادير (جنوب المغرب) التي نزل بها، بداية هذا العام، رفقة الشّاعر أدونيس للإحتفاء بذكْرى صديقهما الرّاحل جاك لاكاريير، أخلص فلتير لهذا quot; الصّوت العاليquot; الذي يجعل من الإصغاء إلى القصيدة طقْساً له طعْم الصّعق وهو يُلْقي، واقفاً يصْدحُ بإنْشاديّته الغنائية، قصائد تحتفي بالحبّ والرّغْبة والموت والطبيعة، وينبر لازمتها الصّاعدة /المتمزّقة عبرعزف الموسيقى كمثل قصيدتيْه quot; Ce jour-Lagrave;quot;و quot;quel royaume quot;.
إنّ الشّعر، بالنّسْبة إلى فلتير، هو تذكارٌ غامض ونداءٌ إلى السّفر في آن. ما يُميّزه هو دخولُه في حوارٍ مع الفضاء الدّاخليّ. هكذا نكتشفُ في الشّاعر إنْساناًquot;من علوّ مرتفعquot;، ماشياً، محبّاً وصديقاً. هو في إصْغاء دائم. يترك نفْسه في المهبّ تخترقها، كما الصّدى، جميع إمكانات الشّعر، مثلما يضيء ذلك النّاقد جيرار نواري في كتابِ أفرده لتجربة الشّاعر أندري فلتير[,2004 Jean-Michel Place / Poeacute;sie Andreacute; Velter,: Geacute;rard Noiret].
بقِي أن نشير أنّ الشّاعر نال جائزة الغونكور بفرنسا عام 1996، ويشرف لسنوات على سلسلة الشعر بدار غاليمار الأشهر في الوسط الثقافي الفرنسي، علاوةً على أنّه من أكثر المنتجين بإذاعة فرنسا/ثقافة حيث يُذيع برنامجاً حول الشّعْرالْمُعاصِر. أمّا النّصوص التي نترجمها فإنّها تعْكس، كثيراً، من تجربة هذا الشّاعر الرحّالة، وتُخْلص لنفَسه الشعريّ الّذي يترنّح، في مزيجٍ عجيب، بيْن عُمْق الصّورة المتخفّفة من بريقها وبيْن كثافة الظّلال الّتي تُخيّم دون أن تزُول لأنّها وارفة من البعيد، وإلّا بماذا نفسّر هذا الْحُضور الْمَهيب لأسْماء أماكن وأعْلام تعْبر في الأسطورة والتّاريخ والثّقافة قبْل أنْ تشْتبِك بِخطاب الذّات؟.
القصائد:

كان غائِباً:
ليْس لي، ألْبتّة، طعْمُ المقابر
ولا العِظامِ الشّهيرة لبيت لاشيز
لمونتمارتر أو مونتبارناس
مطْمورةً تحْت الأرْض أو في شواهِد الْقبور
دائماً ما آثرْتُ الرُّفاتات الْمُلْقى بِها في الرّيح
لكنْ، في باريس الشّريدَة، أُحبّ كمْ
حُضوراً يحْيا عَلى الْجُدْران:
بوسي في المُنْتصف من مُنْحدَرٍ على شارِع سانتان
وجان- بابتيست بوكْلان غافِلٌ عن شارع موليير الّذي نشأ بِه تقْريباً
كما أَرُو عنْ رصِيف فولتير الّذي لفَظ أنْفاسَه عليْه... 1)

غيْر أنَّ واحِدةً، بيْن كلّ لوْحات الطّريق، تسْحرُني
تُـزيّن الْوَاجِهةَ الحزينةَ لشارِع ريشيليو
هُنا كان ستاندال يكتبُ الْمُنتزهات في روما.
كوفالم(جنوب الهند)7يناير2003

تيــــه:
الْحَياةُ الحَقيقيّة تُسافِر
والسّفَر
حُلْم.
عَلى خطْوات كَمْ تاجِرٍ،
وكَمْ مُرْسَــلٍ،
وكَمْ سَيّــدٍ للْحَرب؟
أيْن نَحْن
نتزحْلقُ عَلى غضارِ غانْسُو
مِنْ أعْلَى التّلال الْمَنْقوشة
كأنّها طواطم منْ حبّات القمح اليانع،
والقمْح الأخْضَر،
ومنْ نباتاتِ البرْسيم، والسّلْجم والْكتّان الأزرق3)؛
مِنْ هُنا عبَر سيغالين4)
بنِعالِه منْ قشّ
وفعْلِ مُغامرتِه؛
أيْن نحْنُ
تَحْت خطّ الْقِوى الْمُنْهارة
في سيّارة جيب تنْبعِثُ منْها الأصوات
وتترنّح بالدّاخِل
في إيقاع عالَمٍ آخَر ـ
عَالَم الْهِياج الإلكتروني
الّذي يعزفُ السوينغ أيضاً5)
عَلى قَراراتِ قلْبِه
أيْن نَحْن
نحْن الّذين نُوجد هُنا
دُون أنْ نكون كذلك؟

دون تحمُّلٍ أكْثر
هذا الْعَالَم كَما يجْري لا يعْنِيني
إنّما عَجيبةٌ لِذاكَ الّذي
يسْهر ويصْحو في كُلّ مكان
دون تحمُّل الْمصِير أكْثَر أوْ يزيد

بِأَيادي صبّاغي حلب
لا يزالُ الْحَريرُ يعْثُرُ على ضَوْئِه
بيْن ثَنايا قوْس قٌزَح

وعبْر طُرقات المدُن المنْدثِرة
يسُوق الرُّعاةُ البَهائِم
إِلى حيْثُ دَيامِيس الْأساقِفة6)
وقٌبورُ ذَوي الْحظْوة
تَصْلُح أعْشاشاً لِلدّجاج...

وفي تدْمُر يكونُ لِلْمساء هذا الطّعْم الْعَسليّ
الّذي لا يتودّدُ إلّا إلى حضْن زنوبيا... 7)

وتحْت أشْجار الزّيْتون بالْملّاجة8)
يُديمُ الشّعراءُ أُخوّتَهُم لِـلينوس وأورْفيوس
وهُمْ ينْطِقون من نبْعٍ وذَهَب...

هُنا وحْدها الآلِهة الّتي تقْبل السّماح
هي الآلِهة بدُون غَد...

هَذَا العالَم الّذي يحفظُ لي رأْساً ملْحميّةً
وقََلْبَاً عَلى الْكَفّ
هُو، إذن، هَذا العالَم الْفُجائيّ الّذي، رُبّما، يعْنِيني.
تدمر(سوريا)9سبتمبر2003

مٌهرّجون لِأَجْل مُهرّجين
الْبَهاليل، الّذين يلْعبُون الْعُقْلة بِخفّة، وينْفُثون النّار من أفواهِهِمْ
الْمُروّضُون، الْخَيّالةُ، السّحَرة والرّاقِصُون
هُمْ، بالسّيرك، اسْتِعاراتٍ مجيدة
لِلْعالَم الّذي يُقايِضُ كُلَّ يوْمٍ تقْرِيباً
طعْمَ الْخَطَرِ والْحَياةِ بِنقّالَةٍ
ضدّ الْمَبْدأ الْأوّل لِلْحَذَر الْقَادِم
والْخَوْف الْجَاثِم

أيْنَ حتّى الآنَ تتمرَّنُ، بعيداً عنْ خِيام السّيرك،
مِثْلُ هذِهِ الْإِرادَة، وهذِه الشّجاعة، وهذِه الْكِبْرياء؟
وأيْن تَتواصَلُ، أيْضاً، مع بعْضِها الْبَعْض مِثْلُ هذِه الْأَجْسَاد
الّتي تُزَخْرِف الجَهْد، وتُجسِّدُ الْأَحْلام؟

ولمّا تنْفَجِر التّهاريج
فإنّها مِثْلُ نِظامٍ يَنْحلُّ عَلى رِسْلِه
وسَط ضَحْكاتٍ منْ كُلّ صوْب.

زعَمُوا أنّ معَ البنْطلون الْفَضْفاض أوْ دُونِه
ومعَ الْأَحْذِية الْوَاسِعة أوْ دُونِها
ليْسَ لِلْأُمَراء وأصْحابِ السّمُوِّ والْمَعالي
والرُّؤساءِ لِلْجَميع ولِأيٍّ كان
أَنْ يُنْجِزوا شيْئاً عَدَا
بعْض دوْراتٍ داخِل النّشارة
معْلومَاتٍ بِإِثْنَيْ عَشَر ضرْبة عَلى الصُّنوج...

لنْ ينْقُصَ الْمَشْهد أَباطِرة
لانْتِحال اسْمِ الْأُوغسْت
وَبِلَا ذوْقٍ ورِيبةٍ
يجْعلُون لأنْفُسِهم أنْفاً أحْمَر.

تِطْواف الْعَالَم
مِنْ خِلالِ سِحْر أسْمائِنا وَحْده
كَمْ مِن الْمُدُن الضّائِعة وغيْر الضّائعة
مِنْ عَدَنٍ إِلى زَنْجِبار
تُغنّي في غيْر ذَاكِرةٍ لَنا

يَا لَهَذا الضّجيج مِن الْمَجْهول
في مفْترق طُرق الأرْض
في سَمَرْقَنْد كَما في شَنْغاي
حتّى قبْل أنْ تُوجد

اللَّازِمة الّتي شقّت الطّريق
تتكلّمُ إلى الْقَلْب، وإِلى الأَحْلَام
بِتُومْبوكتو، وبِيناريسْ، والأقْصُر9)
وأَنْـــــــــطَاكيَا:

بِالْأُذْن أَيْـــضاً
يجِبُ تِطْواف الْعَالَم.

باريس، 7يونيو2005
**
حواشي المترجم:

1)ـ يحتشد النصّ بأسماء أماكن وأعلام فرنسية
2)ـ غانسوGansu مقاطعة تقع في الشمال الغربي من الصين 3
)ـ السّلجم Colza نباتٌ زيْتي تنتشر زراعته في الصّين على نهر اليانغتسي4
)ــ فكتور سيغالين(1878-1919 / V. Segalen ) شاعر ورحّالة فرنسي 5
)ـ السوينغ swing نمط من موسيقى الجاز6
)ـ الدياميس أما كن كانت تستخدم كمعابد ومقابر يعود تاريخها إلى القرون المسيحية الأولى انتشرت في أنحاء الإمبراطورية الرومانية. زنوبيا(توفيت 277 أو 285).
7) ملكة تدمرالأثرية الواقعة وسط سوريا.
8)ـ الملّاجة بلدة سورية تبعد إلى الشرق عن مدينة طرطوس بحوالي أربعين كيلومتراً، تُعرف بمهرجان السنديان الثقافي الذي أسّسه الشاعر الراحل محمد عمران.
9) تومبوكتو حاضرة ماليّة من حواضر الصحراء الكبرى تقع بالقرب من نهر النيجر/بيناريس منطقة حجّ مقدّسة للهنّدوس شمال الهند/الأقصرمدينة تاريخية تقع في وسط محافظة قنا بأقصى صعيد مصر.

شاعر وناقد من المغرب