عبد الله كرمون من باريس: قرأت ذات مرة عبارة لبروتولد بريخت يصرح فيها أنه كم سيكون حزينا إذا عاد إلى الأرض، بعد مضي عشرين سنة على موته، ووجد مسرحياته ما تزال تمثل على خشبات المسارح. سيحزن بريخت لأن مسرحياته،في عرفه، وضعها من أجل أن تفعل في المجتمع وتؤتي ثمارها. وبقاؤها سيدل إذن على عدم تأثيرها على الوضع، إذ يظل هذا الأخير على ما هو عليه. ما يبرر، بالتالي، وعلى الدوام، راهنية مضامين مسرحياته.
لا تعدو هذه الفكرة أن تكون سوى مجرد لفتة ماكرة من بريخت، تفشي أكثر يأسه القبلي من التغيير. دون أن يأنف في الصميم من رغبته الدفينة في الخلود.
فكرت في الأمر وأنا أتأمل، أين يكمن السر في تسرب الجنس إلى الكتابة الأدبية وإلى عالم الفن. هذه العوالم التي كان quot;الجِدquot;، لوحده، منفردا بها، أو فقط أراد امتلاك سَاحِها وسعى إليه.
لكن متى انفصلت، عبر التاريخ، الكتابة عن الذات، جسدا كانت أم أحاسيس؟
هل سنردف لحزن بريخت، حزن عصر الأنوار، حزن السرياليين وحزن ثورة 68، مادامت الكتابة حول الجنس لا تزال على أشدها؟ إذ أن هؤلاء كلهم سعوا، في فترات تاريخية متفاوتة، إلى أن يقصموا ظهر وحش الجنس الذي استعبد الناس وما يزال!
للقرن الثامن عشرة إذن استراتيجياته وللسرياليين سخطهم الفني الهائل وللكتابات بعدهم، حتى اليوم، نكهتها الخاصة وصبواتها التي لا تبلى!
الكتب التي تتناول الجنس تسمى أيضا quot;كتبا خطيرةquot;. ألم يضع شارل كينت فهرسا لها منذ سنة 1546. وتم بالتالي مطاردتها وخندقتها سواء على مستوى القوانين التي تشرع ذلك أو لدى إنزالها على مستوى التطبيق. سواء ذكرنا القانون الذي ينظم مهنة الكتبيين، الذي يعود إلى 1723 والذي نص على منع الكتب التي تمس ثالوث النظام: الدين، الدولة والملك وكل ما من شأنه أن يخدش من قريب أو من بعيد القداسة والأشخاص والأخلاق.أما أول قانون واضح يصدر عن سياسة مبنية يدفع إلى متابعة قانونية للكتب quot;السيئة والفاسدةquot;، كما يسمونها، فقد وقع سنة 1819.
لقد عرفنا قبل ذلك بكثير نزوعا فروسيا في قرظ هذا النوع من الشعر؛ أي الكتابة الجميلة وقرأ الجميع ألف ليلة وليلة وشهد أنه شاهدَ من ألقها ما رآه منها. قرأنا أيضا نسخة متفاوتة الجودة للنفزاوي عن روضه العاطر، حيث تنزه خاطرنا. ولطالما شدنا في الصغر عنوانٌ أخاذ: quot;عودة الشيخ إلى الصبا والقوة على الباهquot;، انضاف إلى عنوان النسخة التي وقعت في يدي : quot;يليه كتاب الإيضاح في علم النكاحquot;. كم كان، مع ذلك، أولئك الشيوخ أتقياء!


لأدب الجنس، أواخر القرن السابع عشرة وخلال قرنين بعده، وفي الغالب، هدف آخر، إذ كان العصر عهد التحولات السياسية والفكرية. إذ تمت فيه خلخلة مبادئ بالية. وظهرت فئة من رجال الفكر والأدب حاربوا ظلامية وتزمت الملكية بأسلحة أخرى من دون السياسة، إذ كتبوا كتبا إيروسية مثل ما رأيناه عند الماركيز دو ساد. على الرغم من أن كتابات هذا الأخير قد فاقت غيره وبنتْ لها نسقا خاصا في عالم الجنس والفلسفة والسياسة. نجد كذلك الكونت ميرابو أي هونوريه غابرييل ريكيتيه (ولد سنة 1749 وتوفي سنة 1791)، وقد قضى عدة سنوات مسجونا في فانسان، في نفس الآن والماركيز دو ساد، وقد تقاربا هناك.
كتب غيوم أبولينير فيما بعد أن قدر هذين الرجلين قد صادف أن كان قدر من عملا بشكل أساسي على التحرر الاجتماعي والأخلاقي للإنسانية.
وقد عرفت فترة ما بين القرن السابع عشرة والقرن التاسع عشرة انتشارا واسعا للعديد من الكتب الايروسية، حاملة لأسماء مستعارة أو فقط دون اسم. فقد افتتح الأب دي برا، الاسم المستعار لقس أسقفية نانت، نوعا خاصا من الكتابة الايروسية يهدف فيه إلى إرساء تربية جنسية للفتيات، من خلال كتابه quot;فينوس في الديرquot;. ما انضوت تحت يافطته quot;تيريزا الفيلسوفةquot;، التي أتينا،في السالف، على ذكره هنا بالذات.
نذكر أيضا quot;الليلة المدهشةquot; والذي ظهر أول ما ظهر بشكل سري سنة 1794، لصاحبه دومينيك فيفون دونون. يُقرأ دفعة واحدة في متعة شيقة، وقد عمد فيه دونون أن لا يثقله بكثير من التفاصيل غير المجدية. أما quot;اثنتي عشرة مغامرة إيروسية للأحدب مايووquot;، لكاتب مجهول، فيعتبر من ألطف الكتب الايروسية الجميلة، إذ أبان فيه صاحبه عن براعة عالية بفن الحكي وبتمكن، لا ريب فيه، من اللغة، إضافة إلى اضطلاع هائل بعالم النساء.وبسبب قرائن كثيرة، أشاد كلود دونتون، منذ 1984، وهو العارف باللغة وبميدان الأدب جيدا، أن الكتاب لن يكون سوى من وضع إيميل دوبرو، وقد أكد دونتون ذلك، لدى صدور طبعة جديدة لمغامرات الأحدب سنة 1995.
نذكر أيضا quot;المراسلات العجيبةquot; عن نكاح إكليروسي، نشرت سنة 1790، ونسبت، فيما بعد، لماشو أسقف مدينة أميان. ونقرأ فيها، على رقتها وفضائحيتها، رسائل تبودلت بين صوفيا لانجلو وخوري سان بول بباريس، إضافة إلى أشعار ونصوص أخرى ورسائل بين الأب جاكوب والأب رونو. وقد عمد فيها ماشو أن يفضح عالم رجال الدين المهتريء في العمق. أما قصائد فيليكس نوغاريه، التي نشرت أول ما نشرت بدون ذكر اسم صاحبها، في لندن سنة 1787، فهي تحتوي على قصائد قصيرة تغني الجنس بدون أقنعة. وهي مجرد تعليق وشرح للرسوم المصاحبة لكل نص. وقد كتب تحت العنوان، أن الذي وضعها، عضو في أكاديمية النساء! كما لا ننسى كذلك quot;مانونquot; الأب بريفو، التي عنفها النقد كثيرا، داعيا حينها، في القرن الثامن عشرة، إلى حرقها!
هناك أيضا، كتب كريبيون الإبن، وما تتضمنه من إيروسية لطيفة وتفحص نقدي خاص لأفكار القرن الثامن عشرة، مثل كتابه عن quot;متاهات القلب والعقلquot;. كما لا يجب أن نغفل كل نتاج إرنيست فيدو الذي ما يزال يعاد نشره وما تزال مسرحيات مستوحاة من أعماله تمثل على خشبات باريس.
غير ذلك فقد عرف العديد من كتاب أواخر القرن التاسع عشرة وبداية القرن العشرين، على هامش نتاجهم الأساسي، كتابة تجارب إيروسية، ليست هي أهم ما كتبوه أو أهم ما يميزهم. نذكر من بينهم موباسان، أراغون، بروتون، إليوار، فيرلين، غوتييه، غلاتينيي، أبولينير، راديغيي وغيرهم. وإن كان جورج باطاي هو قد كتب أشياء جميلة في هذا المضمار سواء ذكرنا quot;مدام إدوارداquot; أو quot;أميquot;، غير المنتهية، والتي استوحت منها السينما فيلما منذ سنوات. كما أن ميشال ليريس قد كتب ما قد أترجمه بquot;مرحلة النضجquot;، كتاب رائع بامتياز!
وقبل أن أنظر قليلا في تجارب الرواية المعاصرة، لابد أن أتوقف قليلا عند اسمين بارزين هما بيير لوويس (1870ـ 1925) وبنجامين بيريه (1899 ـ1959).
أواخر الموسم الماضي تم إعادة طبع بعض أعمال بيير لوويس، سواء quot;الأم وبناتها الثلاثquot; أو quot;كتاب تهذيب الصباياquot;. أرى أن هذا الأخير من أرق وأمتع الكتب اللطيفة إذ سعى فيه لوويس إلى التهكم من الأخلاق البورجوازية، ووضع فيه نصب عين القارئ كل الحقائق المسكوت عنها، وذلك في فنية عالية ومعرفة أكيدة بموضوعه. كأن ينصحهن ألا يقلن quot;فرجيquot; ولكن عوض ذلك فليقلن quot;قلبيquot;! أو عندما ينصحهن ألا يدخلن إلى المبولات كي ينظرن إلى الرجال يبولون!
أما ملحمة البنات الصغيرات وأمهن، فهي بحق رواية هائلة ليس من الممكن للجميع أن يطالعوها بأمان. ذلك أنه يجعل فتيات دون سن العاشرة مثالا على معرفة كبيرة بكل تمارين الجنس. وقد أكد أندريه بيير دو مانديارغ أنها من أحب كتب لوويس إليه!
أما أعمال بيريه فقد صدرت لدى جوزي كورتي في سبعة أجزاء، غير أن ما نثيره هنا، هو كتاب غير معروف جدا سوى لدى المهتمين. له عنوان مثير إذ سماه quot;الخصي المسعورةquot; خلال سنة 1928، ولم يقدّر لها أن تصدر، نظرا لمضايقات الشرطة والرقابة إلى سنة 1954، وذلك باسم مستعار هو ساتيرمون، وتحول عنوانها فيما بعد، على اختلافه، إلى صيغة لغوية أخرى شبيهة بالأولى. لقد خرج إذن في كتابه الفريد هذا عن عالمه الشعري الرائع وكتب تجديفه الجميل ذلك ضد رجال الدين وضد كل التيمات المتعلقة بعالمهم الذي كشفه عن حقيقته بطريقة سريالية فذة. كما بلغ فيه مبلغا عظيما في تكريمه الشعري لأدوات الجنس كلها بصنعة بارعة.
أما الرواية الحديثة بفرنسا، خاصة ما كتب منها من طرف النساء، ففيها تلك الكتابات التي اختارت الايروسية موضوعا خاصا لها، وفيها تلك التي تقارب هذا الهاجس ضمن مبحث أنثوي شامل. وكلما التفتنا إلى ذلك فلسنا نغفل عملين، ضمن غيرهما، تأثر ثانيهما بأولهما وشكلا هما معا مرجعين لا يمكن إغفالهما متى كنا بصدد عالم الجنس، وهما أولا، quot;حكاية أووquot; لبولين بياج، التي ركزت فيها كاتبتها كثيرا على عنصر العنف أو الألم الذي يتحول في الجنس إلى لذة متى كنا على قدر معرفة بذلك. ثانيا، quot;الحياة الجنسية لكاترين مquot; والتي ذهبت فيها كاترين مييه إلى سرد علاقاتها الجنسية المختلفة والمتشابكة مع الرجال. مثلما نجد ناتالي بيرو في quot;الحب في ذاتهquot; تبوح عن رغبات امرأة قادتها غريزتها إلى أن تخطو على طرقات وعرة، متجشمة عذاب علاقات جنسية غير متوقعة بالحدة التي تلوح بها. على أن ألمها يصير بيسر عسلا عذبا وتبقى آثار المشي القسري مجرد تبعات لا بد منها في كل مغامرة جميلة!
أما دافيد فونكينوس، ألينا ريس، أني إرنو، دونيس روبير، فولينسكي، كاترين كيسي، إليزابيت باريللي، ووكاميي لورونس، فإنهم حاولوا جميعا أن يتعاملوا مع الجنس داخل إطارات أخرى تجعل منه عنصرا طبيعيا أو هما شاغلا لبطل تستبد به أمور حياتية ويومية أخرى دونه.
فإذا كان كتاب quot;تمتعquot; لكاترين كيسييه هو أفضل كتبها، بالنسبة لي، فلأنها سعت فيه إلى إطلاق عنان سردها في إتجاه إيروسية مفتقدة تطاردها البطلة حيث تجد بوادرها، دون أن تنخرط مثل دأبها في رواياتها الأخرى في خيوط سرد تشتبك فيه العلائق والأبعاد دون أن تمنح نصوصا جميلة مثلما حدث في نصها هذا. أما عوالم غابرييل فيتكوب، والتي سبق أن أحطنا مرة بكتابها عن النيكروفيل، فإنها غريبة ومدعاة لتأملات عن عمق الأسرار التي تنطق عنها، دون أن تجعل من الايروسية الفجة شأوها فإنها تمضي في طرقات غير مطروقة.
يبقى أن نشير إلى نوع آخر من الكتابات مثل quot;انكحنيquot; وquot;الأشياء الجميلةquot; لفيرجيني دي بونت التي تقترب فيها من الرواية البورنوغرافية في وصفها السافر دون مساحيق لأشياء الجنس وحالاته.
كما أن الكتب المتعلقة بالجنس والايروسية ما تزال تصدر، وقد صدر منها الكثير خلال هذا الموسم نفسه. وما تزال تطبع الكلاسيكية منها، مثلما ما يزال الكثير منها في ركن من سراديب الخزانة الوطنية. كل هذا ونحن نرجو أن يتوقف الذين يعتبرونها كتبا فاسدة وخطيرة من النظر إليها هكذا دون النظر فيها أولا. فلنسمي إذن الأشياء بأسمائها!