لم تكن الاسابيع المعدودة التي قضيتها في اوساكا عام 1986 كافية لتعرفني ميدانيا على طبيعة الحياة الاجتماعية اليابانية خاصة اني كنت في مهمة تدريبية علمية تستنفذ معظم نهاراتي ولا تبقي لي سوى الاماسي، كما أعاقني جدا عدم قدرة الشارع الياباني التحدث بلغة اخرى غير لغته، حتى اني في صيدلياتهم كنت اضطر لاستخدام الاشارة او ذكر الاسم العلمي للدواء الذي احتاج شراءه، فقليل منهم يتحدث الانكليزية وحتى الكلمات البسيطة منها.
كنت اود لو اني أعثر على عراقي او عربي من المقيمين لفترة طويلة هناك ليفيدني معرفة فلم افلح عدا اني في احد الايام وفي شارع مزدحم بمئات المارة وقعت عيناي على شاب بعمري حينها، ليس ياباني الشكل، احسست بانه لن يكون الا عراقيا، تقابلنا وكان هو الاخر منتبها علي، بادرته بالسلام بلكنتي العراقية الواضحة، اجابني: (وعليكم السلام.. هلة عيني)، عراقيا كان ابن عراقي، عرفته بنفسي، عرفني بنفسه حتى عرفت احد اقاربه في بغداد، مغترب هو في اوساكا، هجر بلده هربا من نار حرب بين اسياد تدفع ثمنها شعوب مقهورة وربما جاهلة، ولكونه انسانا مثقفا ومبدعا يحب الحياة والسلام استطاع ان يستقر في بلاد العمل والابداع، بلاد الـ (لا) سلاح سوى العمل والسلام، بلاد اليابان، ومكنه الله ان ينال لقمة عيشه بشرف حاصلا عليها من فم الاسد، أشر بيده الى مكتبه القريب والمختص بتصنيع الاعلانات واستأذن لانشغاله بعمله. لقاء دقائق قصير انتهى لكنه كان اطول بكثير من لقائي الاخر بعراقي صادفته مساء احد الايام وانا عابر على خطوط المشاة في احد الشوارع، راّني وحاول الفرار بنظره عني، لا ادري لماذا كنت واثقا ان الاخ
عراقي، بادرته بالسلام، اجابني وقد بدى عليه الخوف والتردد: (هلة يابة) وما ان نطق الحرف الاخير من (يابة) حتى غير اتجاه سيره عائدا الى الضفة الاولى من الشارع فارا مني بسرعة فائقة اخفته عن انظاري كعصفور فر من حجر، لا ادري ما ظن بي او ما كانت مشكلته! كم اتمنى ان يكون من القارئين لقصتي هذه بعد مرور عشرين عاما.
في محور اخر، كانت اوقات تناولي العشاء في مطاعم المدينة الاكثر مناسبة للتحدث او التعرف على الفتيات اليابانيات، فالمطاعم مليئة ليلا ونهارا بزبائن من مختلف الاعمار، ذكورا واناثا، ولمعظم تلك المطاعم كراجات خاصة لدراجات روادها تسع كل منها لمئات الدراجات الهوائية. احدى الامسيات وبينما جلسن مجموعة من الشابات اليابانيات الانيقات والجميلات على طاولة طعام مجاورة لطاولتي، ضحكت احداهن بوجهي ورفعت سبابة يدها اليمنى واضعة اياها اسفل انفها سائلة اياي: (ما هذه؟ لم تضعونها؟) وتقصد الشوارب، ابتسمت دون اجابتها، زميلتها الاخرى سألتني بلغة انكليزية ركيكة جدا: (من اين انت؟)، اجبتها: (عراق)، استغربت للاسم وكأنها لم تسمع به او بحربه المستمرة حينها مع ايران لاكثر من ستة اعوام، استدركت اجابتي مكملا: (عرب)، ردت الشابة اليابانية علي مبتسمة ثم ضاحكة رافعة يديها مرفرفة بهما حول صدر مهتز بتليه الجميلين الحاملين لبركاني عسل مكبلين بخيمتي حرير وكأنها ترقص رقصا شرقيا: (ها.. عرب.. رقص)، صدقوني لم افهم ما عنته بتلك الكلمتين، هل كانت تعني انها معجبة بالرقص الشرقي العربي؟
ام انها كانت تعني ان الرقص هو الشيء الوحيد الذي تعرفه عن العرب؟ ما استبعده هو ان تكون قصدت الاستهزاء بشعوب شرقية وعربية ترقص، جهلا او نفاقا، للحصول على قطرات رغيف خبز من حكام اثرياء بارعين في الشعوذة وخنق الرقاب وقص الالسن.

بغداد