فيدريكو غارثيا لوركا
جَمال كل الأشياء الذي لا يُقاوَم(1)

الترجمة، من الانجليزيّة، تحسين الخطيب: مرّةً، ذات حشدٍ حميمٍ، في 2Residencia de Estudiantes قال المعماريّ لُكُوْرْبُوْزِيي(3) بأنّ أكثر ما أحبّه في إسبانيا كان التّعبير dar la estocads (أنْ تقوم بقتلٍ نظيفٍ) ذاك أنّه يُعبّر عن نيّة الذّهاب إلى الموضوع مباشرةً وتوق البراعة في ذلك سريعاً، دون التّوقّف عند الثّانويّ والزّخرفيّ. إنّني أؤمن بذلك المذهب أيضاً، رغم أنّ سيفي، بطبيعة الحال، ليس سيفاً رشيقاً ونظيفاً. يربض الثّور أمامنا، ويتوجّبُ علينا قتله. على أيّة حالٍ، تلك هي نيّتي.

ولأنّني أُدرك مدى صعوبة هذا الموضوع، فإنّني لا أُعرِّفُ، بَلْ فقط أُشدِّدُ. لا تسألوني عن الحقيقة والبُهتان. لأنّ quot;الحقيقة الشّعريّةquot; تعبير يتبدّل تبعاً للشّخص الذي ينكّب عليه. قد يكون الضّوء، عند دانتي، قُبحاً، عند مالارمي. علاوةً على ذلك- مثلما يُدرك كلّ واحدٍ منّا الآن- فإنّ علينا عشق الشّعر. فالشّعر كالإيمان- لا يُقصد فهمه بل استقباله في مقام من الفضل. لا يتوجّب علينا القولquot; هذا واضحquot;، لأنّ الشّعر غامض، ولا يتوجّب القولquot; هذا غامضquot;، لأنّ الشّعر واضح. ما يتوجّب علينا فعله: أن نُفتّش عن الشّعر مُفعمين بالحيويّة والنّشاط والقُوّة حتّى يستسلم لنا. لكنّنا نحتاج إلى نسيان الشّعر قبل أن يهبط عارياً بين أذرعنا. ما لا يُطيقه الشّعرُ هو اللاّمُبالاة. فاللاّمُبالاةُ كُرسيّ الشّيطان. لكنّها اللاّمُبالاة تلك التي نسمعها تهذي في الشّوارع، غريبة الثّياب، قنوعة، ومُهذَّبة.

إنّ المُخيّلة، بالنّسبة لي، مُرادفة للاكتشاف. أن نتخيّل: أن نكتشف، أن نحمل كِسرة الضّياء إلى شِبْهِ الظّلّ الحيّ، حيث تُوجَد كلّ الاحتمالات المُطلقة، الأشكال، والأعداد. لا أُومنُ بالخلق بل بالاكتشاف، ولست أُومنُ بالفنّان الجالس في مقعده، بل بالذي يجوبُ الطّرقات. المُخيّلة وسيلة روحيّة، مُستكشفَةٌ مُلْهَمَةٌ للعالَم الذي تستكشفه. المُخيّلةُ تُهيّئُ وتمنح حياةً مُشرقة لشظايا الحقيقة المحجوبة، حيث يَضجُّ الانسان.

نادراً ما تكتشفُ المُخيّلة أشياءَ خُلقتْ للتَّوّ، إنّها لا تُلَّفِّقُ، وكلّما فعلتْ ذلك يهزمها جمالُ الحقيقة. تُطاردُ المخيّلةُ صُوراً بوسائل صيدٍ مُجرَّبَةٍ وأصيلةٍ. دائماً ما تكون آليّاتُ المُخيّلة الشّعريَّة هي ذاتها: تركيز، وثبة، تحليقة، عودة بالكنز، ثمّ تبويب وانتقاء لما تمّ جلبه. يُهيمن الشّاعر على مخيّلته ثمّ يُطلقها حيث يشاء. وحين لا تَسُرُّهُ خدماتها، يُعاقبها ثُمّ يُطلقها ثانيةً، تماماً مثلما يُعاقب الصّيَّاد كلبه الذي يتواني في جلب الطّائر. أحياناً، يكون الصّيد رائعاً، لكنّ أكثر الطّيور جمالاً وأكثر الأنوار إشراقاً غالباً ما تبتعد.

تُقَيِّدُ الحقيقةُ المُخيّلة: لا تستطيعُ تخيّل ما لا يُوجَد. إنّها تحتاج إلى أشياءَ، أعداد، كواكب، ثمّ تتطّلبُ أكثر طرائق المنطق صفاءً لتربط تلك الأشياء ببعضها. تُحَوِّمُ المُخيّلة فوق العقل مثلما يُحوّم العبير فوق الزّهرة، يندفع مع النّسيم، لكنّه يظلّ مشدوداً إلى مركز منبته الذي يفوق الوصف.

ترتحل المخيّلة الشّعريّة، تُحوِّل الأشياء، وتمنحها معناها الخالص، ثمّ تُعرِّف علاقاتٍ لم يرتبْ فيها أحدٌ قط. لقد كانت المُخيّلةُ هي التي اكتشفت الجهات الأربع الرئيسة، وهي التي اكتشف العلاّت الوسيطة للأشياء، لكنَّها لم تكُنْ، دوماً، قادرة على إبقاء يديها في الجمر المُشتعل بلا منطقٍ أو إحساسٍ، حيث نعثر على إلهامٍ حُرٍّ عفويٍّ.

من الصّعب على ما يُسمَّى بشاعر التخيُّل الصّافي أنْ يُنتِج انفعالاً حادّاً بشعره. يستطيعُ، بالطّبع، انتاج انفعالاتٍ شعريّةٍ، ويستطيعُ، بتقنية النّظم، إنتاج الانفعال الموسيقيّ المِثَال للشّعر الرومانسيّ، الذي يفتقر، في الغالب، إلى المعنى العميق للشّاعر الخالص. لكنّ الشّاعر التَخَيُّلِيَّ لا يستطيعُ انتاج انفعالٍ شعريٍ بِكْرٍ، عفويٍّ، مُتحرِّرٍ من الجُدران- شعرٍ دائريٍّ بقوانينه المُبتكرة للتَّوِّ. المُخيّلةُ مُجدبةٌ، والمُخيّلةُ الشّعريّةُ، كذلك، أكثر.

الحقيقةُ المُدْرَكَةُ، حقائقُ العالَم، وحقائقُ الجسد البشريّ، أكثرُ احتفاءً بظلال اختلافٍ بارعةٍ، وأكثرُ شِعْريّة ممّا تكتشفه المخيّلة. كثيراً ما نُلاحظ ذلك في الصّراع بين الحقيقة العلميّة والأسطورة المُتخيَّلَة، حيث- شُكراً لله- ينتصرُ العِلْمُ. ذاك أنّ العِلْم أكثر غنائيّة- ألف مرّة- من أيّ مَبْحَثٍ في أنساب الآلهة.

لقد اخترعتِ المُخيّلةُ البشريّةُ المَرَدَةَ لتَنْسِبَ إليهم بناء الكهوف العظيمة أو المُدُن المسحورة. ثُمّ، بعد ذلك، علّمتنا الحقيقةُ بأنّ هذه الكهوف العظيمة صنعتها قطرةُ ماءٍ. قطرةُ الماء الخالصةُ، الصَّبُورةُ، الأبديّةُ. في هاته الحالة، مثلما في أخرياتٍ كثيرةٍ، تنتصرُ الحقيقةُ. ثمّ بعد ذلك كلّه: أنْ يكون الكهفُ نزوة الماء الغامضة (تُقيِّدها وتُنظِّمُها قوانينُ أبديّةٌ) أكثر جَمالاً من نزوة المردة الطّارئة التي لا معنى آخر لها سوى ذلك الذي في العِلَّة.

الاستعارةُ هي ابنةُ المُخيّلة- الابنة المنطقيّة والشّرعيّة- الّتي تُولَدُ، أحياناً، من ضربة حدْسٍ مفاجئةٍ، وأحياناً تُبصِر الضّياء بالكرب البطيء للتَّمَعُن.

يجوبُ الشّاعرُ مُخيّلته، مقتصراً عليها. يسمع تدفّق أنهار عظيمةٍ. يشعر جبينه ببرودة القصب المُرتعش وسط اللاّمكان. يريد الإصغاء إلى حوار الحشرات أسفل الأغصان. يُريد التّغلغل في دفق النُّسغ في الصّمت المُعتم لجذوع أشجار هائلة. يُريدُ إدراك أبجديّة مُوْرْس التي تكلّم بها قلبُ الفتاة النّائمة.

يُريدُ. كلّنا نُريدُ. لكنّ خطيئته: أنْ يُريد. على المرء أن لا يُريد- عليه أنْ يعشق- ولهذا يُخفق. لأنّه، حين يُحاول التّعبير عن الحقيقة الشّعريّة لأيّ من هاته الموضوعات، يتوجّب عليه، حينئذٍ، الاستفادة من التّناظرات الوظيفيّة التّشكيليّة التي لن تكون مُعبّرة بما يكفي، لأنّ المُخيّلة لن تستطيع بلوغ تلك الأعماق.

ما دام لا يحاول تحرير نفسه من العالم، يستطيع الشّاعرُ الحياة سعيداً في بؤسه الذّهبيّ. لقد كان لكلّ المنظومات البلاغيّة، كلّ المدارس الشّعريّة في العالم- من اليابانيّين فصاعداً- خزانتها الرّائعة من شموس، أقمارٍ، زنابقَ، مرايا، وغيوم كئيبة كان يستخدمها كلّ المفكّرين على جميع الأصعدة.

لكنّ الشّاعر الذي يُريد التّحرر من المُخيّلة، وعدم الاكتفاء بالصّور التي تُنتجها أشياءُ حقيقيّةٌ فحسب، يتوجّب عليه التّوقّف عن الحلم والبدء في الرّغبة. حينئذٍ، حين تصبح حدود مخيّلته لا تُحتمَل ويُريد تحرير نفسه من عدوّه: العالَم، فإنّه يعبرُ من الرّغبة إلى العشق. ينتقل من المخُيّلة، التي هي إحدى حقائق الرّوح، إلى الإلهام الذي هو إحد مقامات الرّوح. ينتقلُ من التّحليل إلى الإيمان، فيصبح الشّاعر (الذي كان، في السّابق، مُستكشفاً) إنساناً متواضعاً يحمل فوق كتفيه جمال كلّ الأشياء الذي لا يُقاوَم.

تنقَضُّ المخيّلة على الفكرة بضراوةٍ من كلّ الجهات، لكنّ الإلهام يستقبلها فجأةً ويلفّها بضياءٍ رقيقٍ خافقٍ، كتلك الزّهرات الكبيرة آكلة اللّحم التي تُغلِّفُ النّحلة المُرتشعة، ثُمّ تُذيبها في النُّسغ الحرِّيف الذي يتفصّد من بتلاتها عديمة الرّحمة.

المُخيّلة بارعةٌ، مُنظَّمَةٌ، حافلةٌ بالألوان، لكنّ الإلهام مُتنافرٌ، أحياناً لا يُميِّزُ المرء، وغالباً ما يضعُ دودةً زرقاء شاحبةً في عينَيِّ الوحي الصّافيتين. ذاك لأنّه يُريد ذلك، دون تقديم أيّ تفسير. تخلق المُخيّلة جوّاً شعريّاً، ثمّ يخلقُ الإلهامُ ألـ quot;حقيقة الشّعريّةquot;.

مثلما للمُخيّلة منطقٌ إنسانيٌّ، فإنّ للإلهام الشّعريّ منطق شعريّ. تُصبحُ البراعةُ الفنّيّة والمُسلّمات الجماليّة بلا أيّ نفعٍ يُرتجَى. ومثلما المُخيّلة اكتشافٌ فإنّ الإلهامَ موهبةٌ، موهبةٌ تفوق الوصف. لقد كان خْوَانْ لارِّيْ من قال: quot;هذا، الذي يأتي إليّ لبراءتي.quot;

مهمّة الشّاعر: أنْ يمنح حياةً animar، وفي المعنى الدّقيق للكلمة: أنْ يمنح روحاً. ذاك أنّيَ شاعرٌ حقيقيٌّ، وسأبقى كذلك حّتى مماتي. لن أتوقّف عن جلد نفس بالسّياط، لن أفقد الأمل بأنّ جسدي سيطوف، ذات يومٍ، بدمٍ أخضرَ أو أصفر. أيّ شيءٍ أفضل من البقاء جالساً خلف النّافذة تنظرُ إلى ذات المنظر الطّبيعيّ. التّناقضُ نور أيّ شاعر. لم أُحاول فرض موقفي على أحد ndash;فذلك لا يليقُ بالشّعر. لا يحتاجُ الشّعر إلى مهنيّين مهرة، بل إلى عشّاقٍ، ثُمّ يَمدُّ عُلّيقاً وكسراً من زجاج إلى تلك الأيدي التّي بعشقٍ تُفتّشُ عنه.

هوامش المترجم:
1- عنوان المقالة بالانجليزيّة: The Irresistible Beauty Of All Things، وهي من محاضرة للوركا بعنوان quot;المخيّلة، الإلهام، المُراوغَة Imagination, Inspiration, Evasionquot; أعاد ترتيبها، وترجمها، عن الإسبانيّة، كريستوفر مورير، وذلك من بيانات الجرائد المنشورة بين 1928 و1930. ظهرت في العدد السّابع من Jubilat، ثم قام سباستيان آروز بتضمينها كتابه: رسائل وتذكاراتُ سلفادور دالي وفيدريكو غارثيا لوركا Letters and Mementos of Salvador Dali and Federico Garcia Lorca، نُشر في خريف 2004، عن دارSwan Isle Press. المصدر: مجلّة هاربرز Harper's، عدد سبتمبر 2004، ص ص 26-28.
2- حرفيّاً: بيتُ الطَّلَبَة، وهو الاسم الذي كان يُطلق على المراكز الثّقافيّة في مدريد. كان لتلك المراكز عظيم الأثر في تشكيل ما عُرف بالعصر الفضيّ للحياة الثقافيّة الاسبانية، كما وساهمت في خلق بيئة ابداعيّة لمعظم كتّاب وفنّاني ومفكّري جيل ألـ 98 ( أمثال: ميكيل دي أونامونو، بيُو باروخا، أنطونيو متشادو وخوان رامون خيمينيث) وجيل ألـ 27 أمثال: لوركا، لويس بونويل، سلفادور دالي، رافائيل ألبيرتي، لويس ثيرنودا.
3- Le Courbusier (1887-1965): معماريّ، رسّام، مثّال، وكاتب فرنسيّ وُلد في سويسرا.


[email protected]