محمد الحمامصي من القاهرة: أكد الكاتب والمؤرخ د. خالد عزب في كتابه quot;الفسطاط عاصمة مصر الإسلاميةquot; الصادر عن سلسلة quot;كتاب اليومquot; عدد سبتمبر 2008 أن مدينة الفسطاط أهملت من قبل الكتاب والباحثين المسلمين مقارنة بغيرها من المدن الإسلامية الأولى كواسط والكوفة والبصرة والقيروان. وأضاف أن هذا العمل ينتصر للمدينة التي تعد أولى عواصم مصر الإسلامية في القرن الخامس عشر الهجري، في محاولة لرسم تصور شامل للمدينة في عصور ازدهارها وانحسارها، إذ إنها شاهدة عيان على ما آل إليه حال مصر من ضعف في نهاية عصر العبيديين (الفاطميين).

وتناول د.عزب في الفصل الأول من كتابه الذي ينقسم إلى ستة فصول ويقع في 176 صفحة من القطع الصغير تاريخ الفسطاط ونشأتها ، مشيرا إلى أن التطورات التي صاحبت حركة الفتوحات الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إلى تأسيس عدد من المدن أو القواعد العسكرية، التي تحولت فيما بعد إلى مدن، مما كان له أكبر الأثر في تطور عمارة المدن الإسلامية.. يقول المقريزي عن موقع الفسطاط: quot;أعلم أن موقع الفسطاط الذي يقال له اليوم مدينة مصر كان فضاء ومزارع فيما النيل والجبل الشرقي الذي يعرف بجبل المقطم، ليس فيه من البناء والعمارة سوى حصن يعرف بعضه اليوم بقصر الشمع وبالمعلقة ينزل به شحنة الروم المتولي على مصر من قبل القياصرة ملوك الروم عند مسيرة من مدينة الإسكندرية ويقيم فيها ما يشاء ثم يعود إلى دار الإمارةquot;.

وأشار د. عزب إلى أن المسلمين عندما فتحوا مصر، كانت الإسكندرية عاصمة البلاد، ففكر عمرو بن العاص في أن يتخذها قاعدة للإدارة والجيش، إلا أن عمر بن الخطاب لم يوافقه على ذلك وأمره بإنشاء مدينة جديدة لا يفصله عن المسلمين فيها ماء في شتاء ولا في صيف، فاختار عمرو موقعا عرف فيما بعد بمدينة الفسطاط.

وألمح إلى أن أقوال الباحثين حول سبب إطلاق اسم الفسطاط على مدينة المسلمين الجديدة في مصر تضاربت، إلا أنه مما تجدر ملاحظته أن quot;فسطاطquot; لفظة عربية كانت تطلق أيضا على المدينة ومجتمعها. وقد جاء في الحديث عن النبي ndash;صلى الله عليه وسلم- إنه قال: quot;عليكم بالجماعة فإن يد الله على الفسطاطquot;، أي مع المدينة التي بها مجتمع الناس. لذا فإنه من المرجح أن المسلمين أطلقوا على المدينة التي أسسوها في مصر اسم الفسطاط، بمعنى المدينة.

وتطرق الفصل الأول أيضا إلى تخطيط الفسطاط، حيث بدأ عمرو بن العاص أولى خطواته في تخطيط المدينة بتشييد مسجده الجامع، والذي سمي في بعض الأحيان بالجامع العتيق وبجامع عمرو بن العاص، وفي أحيان أخرى بجامع الفتح وتاج الجوامع.. quot;الفسطاط .. النمو والتطور العمرانيquot; كان عنوان الفصل الثاني من الكتاب. أصبحت مصر منذ عام 38 هـ/ 658 م حتى عام 132 هـ/ 749 م ولاية تابعة للدولة الأموية. وتمثل عمران الفسطاط في العصر الأموي في ظاهرتين أساسيتين: الأولى، امتداد عمراني للمدينة في الجهة الغربية نتيجة انحسار شاطئ النيل الشرقي، أما الثانية فهي قدوم العديد من القبائل والبطون العربية إلى المدينة مصاحبة للأسرة الأموية، بالإضافة إلى عملية التوالد والتكاثر المستمرة للقبائل القائمة بالفعل بالفسطاط منذ الفتح العربي.

ويعد عبد العزيز بن مروان أشهر الولاة الأمويين على الفسطاط، والذي استمر حكمه إحدى وعشرين سنة، ويعود إليه الفضل الأكبر في ما حدث من نهضة عمرانية كبيرة في المدينة، إذ استطاع بحكمته أن يهيمن على قلوب المصريين عامة، فبنى مقياسا للنيل وزاد في جامع عمرو بن العاص وأقام قنطرة على خليج أمير المؤمنين بطرف الفسطاط سجل عليها اسمه.

وخلال العصر الأموي، استكملت خطط الفسطاط عمرانها، إذ وجدت العناصر السكانية الجديدة في الفراغات داخل الخطط مساحات لسكانها، وتحولت من نمط المدينة المعسكر إلى نمط المدينة الحقيقية ثم إلى نمط المدينة المختلطة سكانيا.

وتطرق الفصل الثالث للازدهار الاقتصادي للفسطاط، حيث أورد أقوال الرحالة والجغرافيين المسلمين، الذين أسهبوا في وصف المدينة وما بلغته من ازدهار وتقدم على مدار الأيام. في حين جاء الفصل الرابع بعنوان: quot;الفسطاط .. الانحسار .. والبقاءquot;. شهدت المدينة نشاطا علميا مكثفا خلال العصر الأيوبي، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها: حب صلاح الدين للعلم والعلماء، ورغبته في مناهضة المذهب الإسماعيلي، مذهب الفاطميين، ورد الاعتبار للمذهب السني في مصر، وكان يرى في المدارس الوسيلة المثالية لذلك، ومن تلك المدارس التي أنشأها صلاح الدين ورجال دولته بالفسطاط: المدرسة الناصرية، المدرسة القمحية، مدرسة منازل العز، المدرسة الأزكشية، المدرسة الصاحبية، مدرسة بن رشيق.

يقول د.عزب : ظلت الفسطاط في العصر العثماني ميناء نهريا مهما على ساحل النيل، وإن غلبت تسمية مصر القديمة عليها، وصار اسمها القديم الفسطاط في ذاكرة التاريخ، واهتم ولاة الدولة العثمانية بها، وإن كان نمو بولاق إلى الشمال منها في ذلك العصر قد أثر عليها بالسلب. وفي عهد محمد علي وخلفائه، شهدت مصر القديمة، الفسطاط سابقا، نشاطا عمرانيا تركز بصفة خاصة على المنشآت التعليمية، ومنها: مدرسة المعادن ومدرسة الكيمياء التطبيقية، بالإضافة إلى تشييد طواحين للهواء لطحن الغلال. كما تم تأسيس عدد من المصانع الحربية في عهد الخديو إسماعيل في المنطقة بين المعصرة ومصر القديمة.

استعرض د.عزب في الفصل الخامس شكل المدينة والخطط التي قسمت إليها وحارات الفسطاط وأزقتها ودروبها ورحابها وخوخاتها وسقائفها وأقبيتها والبرك التي كانت توجد حول المدينة، والتي أعطتها بعدا عمرانيا إضافيا لا يمكن إغفاله. وتطرق الفصل أيضا إلى دار الإمارة وشرطة المدينة ودار ضرب النقود والمرافق التعليمية والدينية ومساجد الصلوات، التي بلغت 537 مسجدا، والحمامات العامة والبيمارستانات والأسواق، ومنها: سوق القناديل وسوق الرقيق وسوق بربر وسوق الصرف وسوق الوراقين وسوق الزياتين وسوق الخلعيين وسوق الراجين وسوق الخشابين وسوق السماكين وسوق القصبة.. يقول : وكانت في الفسطاط عدة أبواب، هي: باب مصر، باب الصفا، باب الساحل، باب القنطرة، وهو في قبلي، أي جنوب مدينة مصر. عرف بقنطرة بني وائل التي كانت هناك، وهو من بهاء الدين قراقوش، وكان من يخرج منه يجد على يساره بركة شطا.

quot;الآثار الباقية في الفسطاطquot; كان محور الفصل الأخير من الكتاب، حيث حصر مؤلف الكتاب كافة الآثار الباقية في المدينة حتى وقتنا المعاصر، وهي كثيرة. جامع عمرو بن العاص يأتي في مقدمة تلك الآثار، وهو أول مسجد جامع أقيم في مصر، لذا يسمى بالجامع العتيق وتاج الجوامع. وقد شهد المسجد العديد من التوسعات على مدار الزمن بلغت خمس زيادات كان آخرها عام 212 هـ/ 827 م في عهد ولي مصر عبد الله بن طاهر.

شملت الآثار أيضا جامعة عمرو بن العاص، ومسجد ساعي البحر، ومسجد عابدي بك، وجامع المرحومي، ومدرسة وجامع السويدي، وجامع ومدفن سليمان باشا الفرنساوي، ومنازل الفسطاط وأسوارها، وبرجا باب الفسطاط، وكنائس المدينة، ومنها: كنيسة أبي سرجة، وكنيسة المعلقة، وكنيسة أبي سيفين، وكنيسة الأنبا شنودة، وكنيسة القديسة بربارة، وغيرها، هذا إلى جانب المعابد اليهودية.

وفي ختام الكتاب رأي د. خالد عزب أن تاريخ الفسطاط وتراثها يشيران إلى ملامح مهمة من مسيرة حركة العمران للمدن الإسلامية، إذ إنها مثل حي على التطور العمراني والقدرة على البقاء.

يذكر أن د. خالد عزب مدير إدارة الإعلام في مكتبة الإسكندرية، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 2008 عن كتاب quot;مطبعة بولاقquot; ، ومن كتبه المهمة : quot;الحجر والصولجان - السياسة والعمارة الإسلاميةquot; و quot;دار السلطنة في مصر: العمارة والتحولات السياسيةquot; ، quot;فقه العمارة الإسلاميةquot;.