وجد الملك كلوديوس، ذاك القاتل الزاني، نفسه في مسرحية هاملت ، بين أغرب حصاريْن في أدب شيكسبير في الأقلّ، هما جنون هاملت، وجنون أوفيليا.

جنون هاملت ممتلئ بالعقل. بينما جنون أوفيليا طافح بالبراءة والأنوثة المتهيّجة الطاهرة. جنونان لا يهادنان.
حاك الملك مكيدتيْن لقتل هاملت، ووضع أوفيليا تحت المراقبة الشديدة.
منذ أنْ جنّت أوفيليا، كفّت عن الكلام، وأدمنت على الغناء. الغناء تكبير لفضيحة الملك. خطره أنه ينتشر من أذن لأذن، ولا يمكن وأدُهُ. جنون أوفيليا أشرس حصار، أقضّ الملك لأنّه يكتنفه من كلّ الجهات، في صحوه ونومه.
تدخل الملكة حينما أحكم الملك خطة السيف المسموم بيد لرتيس شقيق أوفيليا، وقد أجج فيه الثأر الذي لا يشفى له غليل إلاّ بموت هاملت. تخاطب الملكة شقيق أوفيليا:
quot;مصيبة إثر مصيبة
تتتابع بسرعةٍ شديدة، أختك غرقت يا لرتيسquot;

لكنْ لماذا الملكة بالذات هي التي نقلت الخبر؟ ولماذا بهذا التوقيت الدقيق المتأزّم؟
اجتمعت في البيتيْن أعلاه ثلاثة أمور فنّية. أوّلها وضع شيكسبير نبأ الغرق على لسان آمرأة، والمفروض أن المرأة تبدي الحزن عادة بأعلى وأفجع نبرة من الرجل. وثانيهما؛ انّ الملكة، لا غير، قد نقلته. بهذه الواسطة أخذ الخبر مكانة أرفع. وثالثهما ان التعبير الذي آستعملته الملكة :quot;مصيبة إثر مصيبةquot;، و تعبير:quot;تتتابعquot; يدلاّن على موج جارٍ سريع. هل الدم سيُسفح جدولاً وله ما للنهر من موج. وهل هذا النهر اللا منظور هو صنو النهر الذي غرقت فيه أوفيليا.
مهما دار الأمر؛ سردت الملكة قصة غرق أوفيليا سردا غريباً بخمسة عشر بيتا، لا يعرف السامع أن أوفيليا غرقت إلاّ في البيت الأخير. إلى هذا كان سرداً بارداً، خالياً من أيّ آنفعال أو حزن، كان بلا أيّ شئ ، وكأنّه محضر تحقيق - في ظاهره- في الأقلّ. أدناه تقرير الملكة:

هناك صفصافة منحنية على جدول
تنعكس أوراقها الفضية الرمادية على سيل الماء الشفاف
إلى هناك ذهبت بباقات باذخة كانت قد صنعتها
من عشب الحوذان، والقرّاص، والزنبق، والسحلب الأرجواني
الذي يسمّيه الرعاة الخليعون آسماً أكثر فحشاً
بينما تسميه فتياتنا العفيفات، أصابع الموتى
هناك صعدتْ لتعلّقَ على الأغصان المتدلية باقتها العشبية
فإذا بغصن مؤذٍ ينكسر. حينها سقطت هي وباقاتها
في الجدول الباكي. انتشرت ثيابها على سعتها
ومثل حورية الماء
حملتها لفترة قصيرة، راحت أثناءها تغنّي أدواراً
من تراتيل دينية، كأنها غير واعية بالخطر
أو أنها مثل مخلوق، قادر على العيش في الماء
ولم يمضِ وقت طويل حتى ثقلتْ ثيابها بالماء
وسحبت المسكينة الشقيّة من أغنيتها الرخيمة
إلى الموت العكرquot;.

في الظاهر ما قالته الملكة أشبه بتقرير إخباري، لا يريد الإثارة، إنّه مثل كتابة عبارة: مقبرة: على باب مقبرة، لا تدلّك على ماهيّة الموت. . الجملة الأولى مسرودة على الوجه التالي: quot;هناك صفصافة منحنية على جدولquot;
There is a willow tree grows askant the brook
تلك جملة خالية من أيّ تأثّر أو حزن، لا سيّما وأنّ كلمة صفصافة جاءت بلا تعريف. كذا أصبحت وكأنها مجهولة وبعيدة في آن واحد. هل قاد الجنون أوفيليا إلى منطقة مجهولة وبعيدة؟ نلاحظ أيضا، تفاصيل دقيقة عن: quot;الباقات الباذخة التي صنعتها، من عشب الحوذان والقراص والزنبق والسحلب الأرجوانيquot; هل كان أحد ما يراقبها؟ قلنا إن الملك كان قد وضع أوفيليا تحت رقابة شديدة.
مع ذلك، فعلى الرغم من أنّ هذا الرثاء مكتوب ببرودة البنج، إلاّ أنّ له تداعيات كاوية تزداد خطراً بمرور الوقت. تُبنّج الحواس. فينمو الرعب كنموّ التورّم، ولا ينفكّ ينمو.
نعود أوّلاً إلى الصفصافة فهي quot;رمز للحب الحزين وللحب المهجورquot;، أسطورياً، ولأن شيكسبير رواها بصيغة نكرة ، لذا أصبحت أشبه بأوفيليا ذات الحب الحزين وذات الحب المهجور. فإذا صح هذا الشبه بينهما فالرثاء كلّه جنسيّ مبطن لأنّ أوفيليا قد حُرِّم عليها الجنس وحُرّم عليها الحب، وهذا سبب أساس لجنونها كما يبدو.
كل الأزهار البرية المذكورة في رثاء الملكة تتفتّح في أوائل الربيع وفي هذا دلالة عميقة. فكما أن الأشجار تزفّ نفسها إلى هذا الفصل المتغلّم، كذلك أوفيليا تزف نفسها لأخطرعاشق. إنّه ينتظرها في قعر النهر.
يظهر الجنس كذلك في الأزهار السحلبية ذات العنقود المستدقّ الطرف ويكون عادة أشبه بآلة الرجل.
أما أصابع الموتى، فقد سميت كذلك، لأن جذورها تشبه كفّ اليد. ربّما الفكرة كما يقول برنارد لوت:quot;فتاة جميلة أُصيبت بألم شديد، وزهرة عذراويتها تحت يد الموت الباردةquot;.
( ثمّة تفاصيل مهمة ومسهبة عن رموز النباتات التي جمعتها أوفيليا في طبعة آردن- صفحة 544 546 ) (حاول محرر هذه الطبعة أن يجد أصولاً لشجرة الصفاف، ولم يخلص إلى نتيجة مؤكدة، لكن يبدو لي أن هذه الشجرة ربما تعود إلى شجرة إنانا والنهر، وعش طائر الزو، في ملحمة كلكامش وهما رمزا الموت).

أوفيليا. في يدها باقة زفافها. الأمواج تحتها جوقة الغناء والرقص. الأمواج تزفّ أوفيليا، وأوفيليا تزفّ نفسها بأغرب تفانٍ. آختارت بنفسها باقة الورد في أخطر فصل تناسلي، في الربيع. حملت الباقة بيدها كأية عروس. حتى ثوبها كان ثوباً خاصّاً فضفاضاً، وهودجها الأغصان المتبرعمة المورقة. صعدت على هودج الشجرة، وفي يدها عشّها، كما تجمع الطيور عيدان عشوشها في الربيع..
لا يكمل العرس إلاّ بالتراتيل الدينية. أوفيليا تزفّ نفسها وترتّل أدواراً دينية. للأدوار الدينية فِعْلُ التخدير. لا بدّ للنشوة من خدر مسكر. لا بدّ للجنس من خدر. لا تبلغ النيرفانا أقصاها إلاّ بالتفاني، الأشبه بالتلاشي الذي يضيع فيه السمع والبصر.
لا يحتاج العرس إلى أكثر من باقة ورد، وثوب جديد، وتراتيل دينية، وشموع. اين الشموع؟ اوراق الشجر الفضية تتلألأ على الأمواج. أغرب شموع. تلهث وتلهث ولا تنطفئ. لا تنطفئ. تعشي العين.
الوهج في مسرحية هاملت يرمز إلى الجنس الذي حُرِمتْ منه أُوفيليا. وها هي الومضات المتلألئة تعشي العين، والماء مأساة المرأة كما يعتقد لرتيس شقيق أوفيليا:quot;لديك الكثير جدّاً من الماءquot;. أجتمع لأوّل مرّة الوهج والماء. تداخلا: الماء في الوهج، والوهج في الماء، وأغرورقت عينا أوفيليا بهما، وغامتا. لم تعدْ ترى أو تسمع. وما زالت تغني . تغيب شيئا فشيئاً في الماء وما تزال تغني، إلى أن آستحالت هي نفسها ماء ووهجا للآلتقاء بعريسها الموت الذي كان ينتظرها في قعر النهر.
هل أصبح ثوب عرسها كفنها؟
(يذكر بعض النقاد أن الملكة فضحت حزنها الأكيد على أوفيليا حينما وصفت الجدول بالباكي فقالت: :quot;الجدول الباكيquot;).
يبدو أن بين الموج الفضي في بداية الرثاء كما روته الملكة، و بين الماء العكر في نهايته، كانت تتهادى الجنازة الحقيقية لأوفيليا، قبل أن تُوارى التراب.
( في موضوع لاحق سننظر في رثاء الشاعر الفرنسي رامبو لأوفيليا).