لندن: صدر عن دار المأمون للترجمة والنشر. وزارة الثقافة ـ جمهورية العراق ٢٠١٢، نصاً مسرحياً مميزاً بعنوان (الموسيقى الثانية ـ الموسيقى) للكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس قام بترجمته عن الفرنسية الشاعر والكاتب والمترجم العراقي كامل عويد العامري*. في مطلع مقدمته الثرية للكتاب يشير الأستاذ كامل عويد العامري قائلاً:quot;لقد تميزت أعمال مارغريت دوراس بالتنوع والحداثة اللتان أدتا إلى تجديد الجنس الروائي، فضلاَ عن نتاجاتها المسرحية التي صدمت ماكان سائداً حينها في ميداني السينما والمسرح، وهو ماجعل منها شخصية متميزة. لقد عدّت مسرحيات دوراس بأنها أكثر حساسية وأكثر اقتراباً من الحقيقة التي تقف خارج الأدب، فحضورها ينتمي إلى ميدان الأعجوبة وهو حضور يتجدد مع كل عرض مسرحي، أما المضمون فهو كبير وواسع يتضمن جزء منه في حقيقته أنه لايسعى إلى فهم الواقع فحسب إنما للكشف عن كل الأسرار التي ينطوي عليها هذا الواقعquot;. مارغريت دوراس هو الأسم المستعار لمارغريت جيرمن ماري دوناديو، وهي روائية ومؤلفة مسرحية وسيناريست ومخرجة سينمائية، ولدت عام ١٩١٤ في quot;جيا ديناquot; الأسم الآخر لسايغون، ثم الهند الصينية، وتوفيت في باريس في الثالث عشر من آذار ١٩٩٦.

كُتبت مسرحية quot;الموسيقىquot; عام ١٩٦٥ بناء على طلب من التلفزيون البريطاني ومثلت على صالة مسرح الشانزليزيه في ذات العام. وثيمة هذه المسرحية بسيطة ومألوفة أو هكذا تبدو لأول وهلة على الأقل فهي تحكي قصة زوجان منفصلان يلتقيان ثانية دون موعد سابق في ذات الفندق الذي أمضيا فيه الأشهر الأولى من زواجهما قبل سنتين أو أكثر، بهاجس مشترك من أن حبهما الأول يمكن أن يزهر ثانية من جديد. تقول دوراس:quot;... الأثنان في هذا الفندق، في ليلة من ليالي الصيف، ومن دون أن يتبادلا القبل، حرضتهما الكاتبة على الكلام لساعات وساعات، من دون أدنى هدف، سوى الكلام. كانت طريقتهما في الكلام في الجزء الأول من تلك الليلة يغلب عليها الطابع الهزلي الممتزج بالشجار، أما في الجزء الثاني منها فقد تبدّل الحال، لأنهما عادا مرة أخرى إلى تلك الحالة متكاملة من الحب اليائسquot;. إلى هذا الحد تتوقف القصة. لكن ولمناسبة إعادة تمثيل المسرحية ثانية عام ١٩٨٥ ولأن الحدث لم يكن مكتملاً أو كافياً، حسب دوراس،الأمر الذي دفعها إلى أن تكتب جزءاً ملحقاً بالمسرحية، بعد إجراء بعض التعديلات على الجزء الأول، فكانت ولادة مسرحية أخرى هي quot;الموسيقى الثانيةquot;، إلا أن هذه الأخيرة، وفق رؤية دوراس أيضاً، لا يمكن لها أن تحل بدلاً من المسرحية الأولى quot;الموسيقىquot; حيث تبقى هذه الأخيرة مادة للعرض المسرحي دائماً. وفي هذا الشأن تقول:quot;عشرون عاماً بالضبط كانت تفصل نص (الموسيقى) عن نص (الموسيقى الثانية) تقريباً، وخلال هذا الوقت كانت لدي رغبة جامحة لكتابة فصل ثان. عشرون عاماً وأنا أسمع الأصوات المحّطمة للفصل الثاني وقد هدّها تعب الليالي البيضاء. إنهما بقيا مرعوبان في اخلاصهما الدائم لتلك الفتوة التي غلفت حبهما الأول، وعليه ينتهي المرء أحياناً إلى كتابة شيء ماquot;. وهكذا استأنفت المؤلفة كتابة فصل ثان مضافاً للفصل الأول أطلقت عليهما معاً كنص متكامل واحد هو quot;الموسيقى الثانيةquot;، وفي هذا الفصل يواصل الأثنان هذيانهما حتى الصباح، حيث الليلة هي ليلتهما الأخيرة.

اعتمد نص quot;الموسيقى الثانيةquot; على لغة حسية مختزلة ذات طابع بصري لحني ذات جمل دينامية متقطعة غير كاملة تترك لمخيلة المتفرج فسحة
لإكمالها وشحنها بدلالات وصور جديدة. جمل تخاتل، جمل توحي وتقترح، تبنى وتتفكك. لغة تشبه حاملها، مراوغة زئبقية، إذا جاز القول، يصعب فيها الفصل بين ماهو واقعي وفانتازي، لغة تتدفق وفقاً لنسق التوترات الشجنية للرغبة.

هو: لاأحتمل أن أتركك.
هي: إننا منفصلان.
هو: ماذا لو مات أحدنا..
هي: حتى في هذه الحالة لانفعل شيئاً.. نبتكر ذلك.

إن الحوارات تتضمن تداعيات لأحداث معّلقة غير مكتملة جرت في الماضي. حوارات تستدعي شجن عشق دفين من جانب وبوح وتقريع وتراشق تهم متبادل من جانب آخر. نوع من الأستجوابات المتواصلة تتغير حدتها ودرجات نبرتها من حين لآخر ما بين الليونة والتمرد. إنه ليس مجرد حوار إنما صراخ داخلي ولكن من دون صخب أو ضجيج.

مناخات النص هذه تذّكر بأجواء فضاءات تشيخوف في كثافتها وإيجازها وعتمتها وعدمية مضامينها. في مقابلة لها بعنوان quot;الشغف المعّلقquot; تقول مارغريت دوراس:quot;تكمن عظمة تشيخوف في نصوص غير متخمة تشبه نصوصي، حيث الفعل معّلق ومتروك دون اكتمال. هذا النوع من موسيقى الصمتquot;.

الثيمات التي تتشكل منها بنية الحوارات واقعية مألوفة كالحب والغيرة والطاعة والتمرد والرغبات الدفينة غير المعلنة مثل الجنس والخيانة والتحرر من قيود الزوجية وسواها، إلا إن معالجة الثيمات هذه تنأى عن الواقع لتدخل فضاء الشعر والأستبطان حيث تمحى الحدود بين الأزمنة ليصبح زمناً سيكولوجياً زمناً دائرياً يعاد فيه إنتاج الحب الأول غير المكتمل بمنظور راهن، حينها يصبح للجملة الدوراسية الوقع الأكبر في رسم ملامح هذه الدراما. بتعبير آخر يمكنني القول، أن الجملة الدوراسية هذه لها وقع الفعل وثقله، فهي كالموجة تبنى وتتهدم في نفس اللحظة.

في مقدمته لرواية دوراس quot;عشيق الصين الشماليةquot; يختزل المترجم محمد عزيز الحصيني الكتابة الدوراسية بأنها:quot;بمثابة نصاً واحداً تحمله الأصوات التي تتنقل بين الرواية والفيلم مروراً بالحوار المسرحي، كما تمثل الرغبة والشغف اللحمة الجوهرية لهذه الكتابة. أما الحب المستحيل والمصير المأساوي فيمثل الوسواس الذي يحقق للنص بعده الأسطوريquot;.

الإثنان، آن ماري روش وميشيل نوليه، كلاهما لديه رغبة عارمة مشتركة للّقاء. كلاهما مألوف وغريب، معروف ومجهول بالنسبة لبعضهما الآخر.
مفردة هنا وأخرى هناك، ليبتدأ استدعاء الماضي الذي عاشاه سوية. ماض يفتح كوة على أسئلة لم تتم الإجابة عنها، التباسات وسوء تقاهم وأشياء أخرى لم يمهلهما الوقت ليبوحا به لبعضهما الآخر. لكن الماضي لايلبث ثانية ليحل بدله راهن مضن. إن إعادة إنتاج علاقة حب لا يمكن أن يزهر ثانية إلا لحظة يبدو مستحيلاً!.
الإثنان يصغيان لبعضهما كما لو أنهما يستمعا إلى قطعة موسيقية، قطعة تجعلنا دوراس نسمعها وكأنها أنشودة قادمة من الأعماق، من مكان سري بعيد، قطعة تجعل من نفسها تُسمع بقدر ما يمكن سماعها.
هنا، ليس بوسع الذاكرة أو النسيان أن يتثبتا في مكان محدد. كل شيء هو في حالة من التقدم والتراجع الدائم ما بين الرفض والحنين، بين الليونة والتمرد.
هي: لقد حدثتني فاليري... عنها. (المقصود صديقته) انها امرأة... في ريعان الشباب. أليس كذلك؟
هو: نعم.
هي: وهو (المقصود صديقها) شخص لا تعرفه... ولم يسبق لك أن التقيت به.
هو: وأنت تحبينه؟
هي: quot;إجابة مباشرة وفق مبدأ الشكquot; نعم. كل شيء على مايرام. كل شيء كما ينبغي أن يكون.
هو: لم أعرف شيئاً على الإطلاق مما حدث عندما ذهبتِ إلى باريس. القصة التي رويتها لي آنذاك، كما أفترض، كانت كاذبة.
هي: ليس بوسعك أن تحتمل الحقيقة... الآن. وبالافتراق، ربما تفكر عكس ذلك، ولكنك لن تتحملها.
أوه، لماذا تتكلم عن ذلك تحديداً.
هو: لماذا نتجنب الخوض في الحقيقة الآن؟
هي: لقد التقيت به في حافلة. وبعد ذلك كان ينتظرني أمام الفندق.. مرة.. مرتين. وفي المرة الثالثة أرعبني. كان الوقت متأخر. الواحدة صباحاً تقريباً.
quot;بشيء من التحديquot; كان رجلاً آخر لا يشبهك. وقبل كل شيء، وهذا هو المهم. إنه رجل آخر. أنت كنت وحيداً في جانب، فيما كان كل الرجال الذين لم أتعرف عليهم هناك في جانب آخر. (وقفة) أظن أن عليك أن تفهمني تماماً. أليس كذلك؟

وفي مكان آخر تختلف النبرة لتصبح أكثر ليونة:

هو: (وقفة طويلة) ذات يوم أحد، عصراً، كنتِ غائبة. لاأعرف أين كنتِِ.. تجولت في المدينة فالتقيت فتاة شابة غريبة عابرة.. ذهبنا إلى الفندق (وقفة) كانت رائعة. لم أكن أحب الفتاة هذه، ولم أزرها ثانية. كانت رائعة وبسيطة.
هي: أكان ذلك ضروريا؟
هو: كلا، لماذا؟ كانت رائعة ولكنها ليست ضرورية. كنت أحبك. (تبتعد عنه)
هي: ألديك أسئلة أخرى تطرحها عليّ؟
(فجأة يرن الهاتف)
هو: لم أعد أحتمل عدم اخلاصك في الوقت الذي كنت فيه غير مخلص لك. أتعرفين ذلك؟
هي: نعم. لقد حدثتني فاليري عن مغامراتك.

لاحظ أن الكاتبة تلجأ إلى استخدام الضميرين المجردين (هو و هي) بدلاً من استخدامها لأسميهما الحقيقين، آنا ماريا روش وميشيل نولي. فضلاً عن ذلك نجد أن الرجل والمرأة لا يخاطب أحدهما الآخر بالاسم، ربما باستثناء مرة واحدة فقط طوال المسرحية وفي لحظة حميمية جداً نسمع فيها ميشيل وهو يخاطبها باسمها، أما هي فلم تتلفظ باسمه حتى لمرة واحدة.
هذا الاستخدام رغم شكليته إلا أن بوسعه تعميق الالتباس بينهما. كذلك الصمت، فهو عنصر آخر توظفه الكاتبة ليلعب دوراً إيقاعياً أشبه بالوقفة الموسيقية من جهة ونوعاً من الفراغ لكي يملأه المتفرج من جهة أخرى.

ثمة شيء آخر أعطى للنص نكهة عدمية تذّكر بمسرح العبث واللامعقول ألا وهو عنصر المصادفة. فهذا العنصر يشي بدلالة فلسفية لمفهوم الوجود والعدم. فلقائهما في الفندق يحدث بالصدفة دون موعد سابق، وما حدث من علاقات سرية، هو مع فتاة شابة غريبة وهي مع رجل تعرفت عليه في باريس، فضلاً عن رؤيته لها مع النادل في الحانة كان ذلك كله بطريق الصدفة. هنا يمكن للمرء أن يتساءل أن كانت كل هذه الصدف هي تلبية لتلك الرغبة المشتركة؟

هو: quot;يتوسلquot; لا تذهي إلى أميركا. ابقي في فرنسا، في الأقل أستطيع أن ألتقي بك ولو مصادفة.
هي: كلا، إن كان علي أن أكتشف نفسي، فإن ذلك يكون مصادفة، مثلما حدث معهم. مع فتاتك الشابة والرجل الذي كان معي، فهو لم يكن أكثر من مصادفة.
إن ثيمة الحب تتكرر في مجمل نتاجات دوراس، إلا إن الحب لا يتحقق إلا لحظة يبدو مستحيلاً، على حد قول بلانشو بشأن كتابهاquot;مرض الموتquot;.
حينها يتوقف سيل الحوارات ويحل الصمت وتغادر آن ماريا الفندق على وقع ألحان السوناتة الثانية لبيتهوفن لتحل العتمة في أرجاء المكان.

اعتمد النص quot;الذاكرةquot; بؤرة لتجمّع ضوء الفكرة والصمت لغة وإيقاعاً ودلالة في نفس الوقت. أما زمن الفكرة، فهو زمن دائري يتناوب فيه الماضي والحاضر برشاقة تبعاً لتدفق المشاعر. ثيمات يتبادل فيه، الحقيقي، الزائف، الواقعي، الوهمي، المواقع بما يشبه اللعبة أو المخادعة، ويحل الشعر المنثور والموسيقى نسغاً ينظم ويوجه مسارات الأحاديث.
إنها ثيمات ذات نكهة بيكيتية، تتحدث بتهكم مبطن، عن كنه العلاقات الذكورية والأنثوية. علاقة الرجل والمرأة، الزوج والزوجة، العشيق والعشيقة. أفكار مشوشة مختصرة لعواطف متوترة، جوهرها الجنس والحب الشهواني، الغيرة، الخيانة، الضجر والرتابة، العزلة، والكآبة، في تخوم سنوات اليأس، لعلاقات وزيجات أصبحت ذكراها نائية جداً.

كلمة أخيرة لابد منها:

إن معضلة الكثير من مترجمي النصوص المسرحية من اللغات الأجنبية إلى العربية، ربما باستثناء جبرا ابراهيم جبرا وعدد قليل من المترجمين، أنهم يتناسون أن النص المسرحي كتب لا ليقرأ إنما ليجسد على خشبة المسرح، لذا ينبغي في هذه الحال أن يصغي المترجم إلى وقع الجملة وايقاعها عند الترجمة ويسعى إلى تخيل أو رؤية الممثل وهو ينطقها على خشبة المسرح، وهذا يتطلب في كثير من الأحيان إلى ضرورة تقليص أو تطويل الجملة، دون الإخلال بالمعنى بالطبع، لغرض تطويعها إلى خشبة المسرح.
وهنا ينبغي لي الإشادة بجهد الشاعر كامل العامري في ترجمته الرائعة لمسرحية quot;الموسيقى الثانيةquot; حيث حقق الكثير من متطلبات عناصر العرض المسرحي لعل أهمها اختياره الجملة المموسقة التي يمكن للممثل أو الممثلة نطقها برشاقة وسلاسة على خشبة المسرح، فالجملة مختزلة محسوسة مسموعة ومرئية مصاغة بدراية وفطنة فائقتين كأنها كتبت للممثل وليس للقارىء.

* صدر للشاعر والكاتب والمترجم كامل عويد العامري الترجمات التالية:
١ـ رواية الحب في زمن الكوليرا. غابريل غارسيا ماركيز
٢ـ رواية وقائع موت معلن. غابريل غارسيا ماركيز
٣ـ رواية قصة غريق. غابريل غارسيا ماركيز
٤ـ رواية اسم الوردة. أمبرتو أيكو
٥ـ رواية سوريالية بعنوان ناجدا. أندريه بريتون
٦ـ رواية عيون زرق شعر أسود. مارغريت دوراس
٧ـ لاشيء بعد الآن. نص نثري. مارغريت دوراس
٨ـ رواية الدعوة. كلود سيمون. جائزة نوبل ١٩٨٥
٩ـ مسرحية المجرى. مارين سوريسكو
وأعمال أخرى.

لندن
[email protected]