بغداد: ليس من باب المشاكسة او الاثارة ان نتأمل ما جاء به شعرنا العربي وخاصة في بلدين امتلكا شعراء كبارا على تاريخهما الطويل، وهو امر محير ان يختلف الشعر، فهذا يشرح صدره بالفرح وذلك بالحزن، وذلك يعمل على تخليد روائع اثاره وايام شعبه وهذا لا يمر عليها الا باشارات.
يعتقد شعراء وباحثون عراقيون على ان الشعر العراقي والمصري مختلفان من ناحية تناول الحضارة التي يتميز بها البلدان لصالح الشعراء المصريين الذين ارخوا او خلدوا رموزهم التاريخية بقصائد كبيرة متكاملة وليس عبر اشارات متفرقة كما فعل اغلب الشعراء العراقيين، ووضع البعض الاسباب وراء هذا، فيما اكد هؤلاء الشعراء والباحثون على تميز الشعر العراقي بالحزن على عكس الشعر المصري الذي كان بهيجا، وقد اشاروا الى الظروف البيئية والسياسية التي خلقت هذه الاختلافات على الرغم من وجود شعراء كبار في الامتين العراقية والمصرية وتشابههما في الحضارة والتراث.
ومع ان الموضوع يتحمل قدرا كبيرا من النقاش فلا ندعي ان ما قيل نهائي، بل من الممكن القول ان باب النقاش يظل مفتوحا.
سأبدأ بالاديب المحامي طارق حرب الذي رسم مشاكسته بشكل لاذع وذهب يشير الى ان الشعر العراقي يختلف اختلافا كبيرا عن الشعر المصري، فقال: نحن نمتاز بحضارة سابقة للحضارة الفرعونية، شعراء مصر ومنهم احمد شوقي على سبيل المثال خلدوا (آمون) و (رع)، و (نفرتيتي) و(كليوباترا) و (الكرنك)، فيما نجد ان اي شاعر من الشعراء العراقيين، المحدثون منهم والسابقون، لم يذكر لنا (الزقورة) او (انوانليل)، (شبعاد) او المعبد، لاحظ الفرق، فمن لم يدغدغ المشاعر ليس بشاعر، هل حصلت دغدغة ام كل شعرنا انصرف الى (اللطميات)، الى (الفراقيات)، بينما شعر الفرح والبهجة والسرور والسعادة نفتقده، لذلك تجد ان الشعر العامي طاغ ومقبول لدى الكثيرين لانه كله بكاء، تصور ان في (الطور الشطراوي) يقول (لا..لالالا، لالالا) تصور العناد يبدأ بـ (لالا)، بمعنى انه يريد ان يقول للاخر لا تتكلم، كل كلامك كذب، لا اريدك ان تتحدث ولا اريد ان احدثك، لاحظ الطغيان والاستبداد العقلي.
واضاف: كل شعرنا وكل اطوارنا بعيدة عن الشعر العام، والا.. جد لي قصيدة فرح او سرور، شعرنا يفتقد الى هذا ويفتقر شعراؤنا الى هذا، هم تكلموا في امور كبيرة ولكن لا تصل الى القدسية التي اتسم بها الشعر المصري مثلا او الى قدسية القصائد الخالدة لاحمد شوقي، مجال المقارنة او الموازنة بين الامرين هو (هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج) فشعرنا العراقي ملح اجاج.

اما الشاعر جواد كاظم غلوم، فقد اكد على انشغال الشاعر العراقي بالشعارات العروبية، وموضحا لحالة الحزن السائد في الشعر العراقي، فقال: برع الشاعر المصري في تخليد ارثه الحضاري اذ تغنى بالكرنك واعتدّ بكليوباترا وانبهر بالنيل وواديه بينما الشاعر العراقي انشغل بذاته وحاجاته الاساسية الشخصية ومنهم من انشغل بالشعارات العروبية ولم يصل بموروثاته العريقة لبلاد مابين النهرين وكأنه غير معني بتراث اور وبابل واشور وقلما نجد شاعرا عراقيا سرح بخياله في حضارة سومر مثلا واعتلى مدارج الجنائن المعلقة ووصفها بمسرحية شعرية ولافنان عمل اوبرا باهرة مثلما عمل المصريون في التغني باوبرا عايدة.
واضاف: ولأننا سليلي ارض السواد فقد ظللنا نبكي ويغالبنا الحزن حتى احتفالاتنا ممزوجة بمسحة الأسى نتذكر مآسينا في كربلاء البكاء والنحيب، هل يتصوّر المرء ان اعيادنا الجميلة نقضيها في زيارات متواصلة الى المقابر بينما بقية الشعوب تمرح وترقص في اعيادها وتزهو بكرنفالاتها وحشودها وهي توزع الورد على المتجمهرين، يبدو ان الفرح لايليق بالعراقي سواء كان شاعرا او مغنيا او سامعا لاننا لانكاد نخرج من حرب حتى ندخل اخرى ونقدم لهذه الحروب اضاحي من خيرة اولادنا وتفيض بلادنا بالايتام والارامل، نحن لانحب سوى المدافن وكل تراثنا الادبي والفني مليء بالنحيب والحسينيات المبكية

فيما كان الشاعر الدكتور حسين القاصد يشير الى اقتراب وابتعاد، وقال: في الاثار فالامر مشترك ويصل حد التشابه بل قد يتفوق العراقي احيانا، ودليلي على كون الامر مشتركا هو كون البلدين مرّا في صراع بين كونهما امتين الامة المصرية والامة العراقية،وحين يكون الشاعر المصري شاعرا للامة المصرية يلجأ للتراث والحضارة الفرعونية، وحين ينتمي للامة العربية فيكون للقومية ويركز على التراث الاسلامي والخلافة العربية لاسيما الاموية والعباسية، وفي العراق هنا الشعراء الذين اهتموا بالارث البابلي واذا اعتبرنا المتنبي شاعرا عراقيا فالعراق سباق لتناول الارث البابلي والرافديني كون المتنبي قال / مانال اهل الجاهلية كلها شعري ولاسمعت بسحري بابل، وتجد عند السياب تموز وعشتار وقصائد كثيرة، لكن سطوة الارث الحسيني جعل من الطف مهيمنة ثقافية على الشعر العراقية
واضاف: يمكن القول ان الشعراء العراقيين تناولوا ارثهم باشارات عابرة لأن الحزب الشيوعي لم يستلم سلطة كونه الحزب الوحيد المهتم بالارث الرافديني،اما البعث فيهتم بالارث القومي، ولعل ظهور الجواهري وهيمنته الطويلة وتنقله بين اليسار والقوميين فضلا عن تنقله بين السلاطين وكونه المقابل لاحمد شوقي، فان الجواهري اسس لخدمة الشعر العباسي، وعلى حد تعبير استاذي محمد حسين الاعرجي فان الشعر العباسي عراقي !! ومن هنا نجد الارث العروبي مهيمنا وصالحا للاستهلاك السلطوي لاسيما ان القرن العشرين كان مشابها للعصر العباسي من تقرب الشعراء للبلاط ولأن البعث لايميل للثقافة الرافدينية ويبحث عن عمق عروبي، كانت فكرة العروبية اكثر من الرافدينية حضورا، مع هذا ولو بقي السياب حيا حتى بعد تحوله القومي لكان هناك شعر عراقي مهتم بالتراث الرافديني، وهنا تجدر الاشارة الى التفاتة سامي مهدي في كتابه الاخير الى ظاهرة الشعراء التموزيين وهم الذين تناولوا تموز التراث وليس تموز اسم الشهر الميلادي.مع ذلك كله، تجد في هذا الوقت قصائد تدعو للعراقية بل تؤسس الى ان كل شيء يعود عراقيا، ومنها قصائد كاظم الحجاج واخرين
وتابع: اما الحزن فهو نابع من اثنين، الامر الاول كون الشعر العراقي يكاد يكون جنوبي المسكن وهذا لايعني المفهوم الضيق الطائفي بل اعني ان بيئة مثل الهور هي الاغزر شعرا فضلا عن بقية محافظات الجنوب، وبحكم الاحوال الاجتماعية والسياسية والطقوس الحزينة الموروثة من (نعاوي ) وما الى ذلك، فضلا عن العذابات التي عاشها ابناء هذه المحافظات منذ الملكية وحتى هذه اللحظة، كل هذا جعل قصائدهم اشبه بدموع راقصة وليس هناك اكثر دليلا من تداخل الحان اللطميات والاغاني.
من جهته علل اباحث والناقد الدكتور سمير الخليل الاسباب وراء هذا التباين، فقال: الشاعر العراقي مشغول بأحزانه،بمتاعبه، مشغول بحرمانه، بمعنى ان الشاعر المصري توفرت له ظروف الانفتاح والحرية، الناس عبر الزمن ليس لديهم الطغيان الذي عندنا، حتى في زمن الملكية لم يكن لديهم مثل هذا، بينما الانسان العراقي يعاني، لذلك نجد ان الشعراء العراقيين كتبوا ملامح، والقصيدة التاريخية يجب ان تكون ملحمية، شعراؤنا كتبوا مسرحيات شعرية ذات بعد تاريخي مثل (شمسو) او (الاسوار)، وهناك بعض القصائد التي اخذت منحى سردي او مسرحي، وانا اعزو السبب الى ان شعراء مصر توفرت لهم فرص اكثر من الشعراء العراقيين الذين يعانون من هم الحرمان ومن هم القيود السياسية.
واضاف: طول عمره الشاعر العراقي هذا حاله، وما زال يعاني الى حد الان من مشكلة الحرية،والشاعر العراقي لا يقل شأنا ولكن الشهرة سببها النشر ووسائل الاعلام، فمصر متقدمة بالجانب الاعلامي على العراق،
وتابع: انا اظن ان القصائد التي تستحضر التاريخ تحتاج الى نفس طويل ومن ثم يراد لها حرية نفسية داخلية، فالشاعر العراقي اذا اراد ان يكتب ملحمة فيكتبها عن المرأة التي يتمنى ان يراها ويلتقي بها، واعتقد ان هذه عنده هي مشكلته الحقيقية، ثم يمكن القول ان بعض الشعراء لم يثقفوا انفسهم تاريخيا، وهذا واحد من الاسباب، لان التاريخ يهيء له المادة العلمية، هذا صحيح، ولكن الكتابة عنها ليست سهلة، هكذا اظن والله اعلم.

اما الشاعر والباحث الدكتور خليل محمد ابراهيم فأدلى برأيه قائلا: هذه قضية لايمكن حلها ببساطة ولا الاجابة عنها بكلمات، الاسطورة العراقية معروفة في الشعر العراقي وتحتاج الى ابحاث كثيرة مع ان النقد اهتم بها ونبه عليها، لكن المعضل اننا افضل محطمين للنجوم، فلا نعرف ما اذا كان هذا الذي نقوله صوابا او خطأ، لنأتي بالشعراء ونسألهم عما كتبوه عن بابل واكد وسومر وملحمة كاكامش والفكر الاشوري والعربة الحربية وعن شبعاد والكثير من الملوك والملكات مثل سمير اميس وما الى ذلك، هذه نقطة، والنقطة الاخرى من الذي استشرف هذه المسائل ودعا الى الكتابة عنها؟، انت ترى انهم في كثير من الاحيان وفي الكثير من المهرجانات، تنشأ اوبريتات وتبدأ بالكلام عن سومر وتنتهي الى عصرنا الحاضر، هذا يدل على ان هناك من كتب ويكتب في الامور التاريخية.
واضاف: متى ساد الفرح في العراق حتى نطالب الشاعر بأن يفرح ؟ متى وقف المجتمع او الدولة الى جانب الشاعر حتى يفرح او حتى يقدم الفرح، لكي تطلب مني ان افرح لابد ان تبهجني، ما الذي فعله المجتمع لشاعر عراقي كي يبتهج، بل ماذا فعل المجتمع لنفسه حتى يبتهج ابناؤه فيبتهج الشعراء ؟، انظر الى اغلب اشهر السنة الهجرية، انها في اغلبها لطم وعزاء، اين تجد الفرح؟، هل عندنا مهرجانات للفرح، فالمهرجانات التي نشيدها تحاربها وزارة الثقافة، ماذا يمكننا ان نفعل، هل نشكر وزارة الثقافة على انها تذبح الشعر والشعراء ؟، من هناك اعطني فرحا اعطك فرحا، لكن ان غمرتني بالحزن وغسلتني به فماذا تريد مني وماذا افعل. انا لست من الارهابيين الذين يرفعون عليك السلاح ولكن لا تطالبني ان لا احزن ولا تطالبني ان اقول انك مخطيء، وانا هنا لا اتكلم عن وزارة الثقافة في الوقت الحاضر، انا اتكلم عن الشعر في العراق عبر العراق وعبر التاريخ، فالتاريخ يعطي حزنا شديدا في العراق.
وتابع: اغلب قادتنا يقتلون، فإن كان القائد والرئيس والمسؤول يقتل فماذا يفعل المواطن العادي وكيف يثق بمجتمعه، كيف ينشد الشاعر للفرح، ومع ذلك نحن نقول كثيرا للفرح ولكن من الذي يستمع، فالقصيدة التي القيتها في مهرجان الجواهري الاخير كانت مبتهجة، فمن الذي استمع اليها ومن الذي سألني كيف قلتها ومن الذي نشرها، حينما لا يستطيع الشاعر ان يقدم منجزه فلا تستطيع ان تقول عنه كلاما لا ينبغي ان يكون مقيدا ومحددا.