ساظل أكرر، ما قلته سابقاً، باني "أهوى" العمارة. أعتبر نفسي من محبيها، ومحبي إنجازها الفطن والمدهش. ربما مهنتي "كمعلم" للعمارة طيلة عقود، حددت، كما بررت ذلك يوما ما، هذا الولع العميق بذلك المنجز الابداعي الحصيف. بالطبع يتطلب ذلك "الهيام" قرآءات كثيرة وإختيارات لنصوص متنوعة، تسوغ وتبرر استمراية "الدهشة" التى اجدها في العمل التصميمي. ولهذا فاني "مصاب" بحمى القراءة والاطلاع على ما ينشر عن "العمارة": النشاط الانساني الغارق في قدمه، والذي قُدر له ان يكون جزءً هاما ومؤثرا من اشكالية "الوجود"، عندما "ملّ" الإنسان من "الاصناف" و "الفئات"Categories ، أو (المقولات) بحسب رفعة الجادرجي، في كتابه القيـّم <صفة الجمال في وعي الانسان> الصادر في بيروت 2013، والذي يحدد النفعية والرمزية فيه، كحاجتين لتأمين الوجود وسيكلوجية البقاء، في حين يشير الى ضرورة حضور الحاجة الجمالية "الاستطيقية" كحاجة تسعى وراء إزالة او تقليل ذلك الملل الناجم عن ديمومة البقاء الرتيب والمتكرر. وسنعود يوما الى قراءة متأنية لذلك الكتاب القيم، الذي ألفه المعمار العراقي المعروف. اما الآن فنحن بصدد كتاب آخر، ينتمي الى تلك الكتب التى تتعاطى مع المنجز المعماري، بوصفه سرداً يتخذ من الوضوح والاختزال والمنهج التاريخي، إدوات تجعل منه سرداً مشوقاً ومفيدا في آن. انه من ضمن "سرديات" النصوص المعمارية التى "تستهويني"، والتائقة لفهم العمارة وإدراكها عبر نماذج تصميمية ترى من خلال وجهة نظر مختلفة. نحن نتحدث عن كتاب المؤلف اليوناني "بافلوس ليفاس": <العمارة : منظور تاريخي>، (عدد الصفحات 224، من القطع المتوسط)،& والصادر مؤخرا عن دار نشر" جوفيس" الالمانية& (Pavlos Lefas, Architecture a Historical Perspective, Berlin, Jovis, 2014.) . والمؤلف وهو استاذ في جامعة "باترا" Patras اليونانية، سبق وان نشر في سنة 2009، كتابا بعنوان "المأوى والعمارة من هايدغر الى ريم كولهاس"، والذي حاول المؤلف فيه، ان يتتبع تأثير المفاهيم الفينوميولوجية "الظاهراتية" للعالم الالماني، على مختلف اطروحات السرديات الكبرى الخاصة بالعمارة الحديثة والمعاصرة.
ينشد بافلوس ليفاس مؤلف الكتاب، الى توظيف بنية موحدة، لانشاء "معمار" نصه الكتابي. وهذة البنية، تتضمن اختيار موضوع من المواضيع المختلفة التى شكل وجودها نوعاً من انواع "سرديات" العمارة، ثم يعقب ذلك، إضاءة مقتضبة عن اهمية الموضوعة المختارة وجدواها في إجتراح رؤى، تسعى وراء ادراك الفعل المعماري وفهمه ضمن اطروحة الكاتب، ويختتمها في تسمية مصادر مصطفاة، فيما اذا رغب المتلقي التعمق في البحث عن الموضوعة المثارة، وليتسنى له، ايضاً، امكانية توسيع معارفه عن خصوصية تلك الموضوعة وإدراك كينونتها. وعبر نماذج مصطفاة من سجل العمارة العالمي، ينزع المؤلف ان يقدم اطروحته في تبيان معني العمارة. يتخلل النص الكتابي صور مقننة (بالاسود والابيض)، واحيانا مخططات لذلك الاثر المعماري المختار. وهو اذ يعترف بان اجراءات الاختيار لتلك المواضيع "لم تكن منصفة"، كما يكتب في مقدمة الكتاب المقتضبة، ويقول"..ليس لان العمارة الغربية ممثلة في الكتاب تمثيلا مفرطا،.. وانما لإن الكتاب، يقصي آلاف وآلاف المباني، التي ولد وترعرع ونمى ومات كثير من الناس فيها، ...خارج الصورة " (ص. 7). والحق ان اعتراف المؤلف هذا، يبعث على الدهشة المشوبة ..بالاحترام لمثل هذا "التصريح" المثير والنادر. ذلك اننا ما برحنا نرى كثراً من المؤلفين الاوربيين "غارقين"، عادة، و"مكبيلين" باحاسيس ما يعرف بـ "المركزية الاوربية" والتى تمنعهم عن رؤية المشهد ، بصورة عقلانية ومنصفة وواقعية.
وتظل، بالطبع، نوعية الاختيارات وعددها المنشورة في الكتاب، رهناً بذائقة الكاتب، وطريقة تفكيرة ونمط ثقافته. فمن المعلوم ان تاريخ العمارة العالمية موسر بنماذج تصميمية متنوعة. إلا ان إلاشكالية الإساسية لسردها، يكمن في طبيعة الإختيار، في نوعية إسلوب إنتقاء النماذج. تماما، كما كان "عمنا" الجاحظ يردد، من ".. المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة وزن الكلمة، وتخيّر اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع، وجودة السّبك..". والمؤلف، هنا، يتوق ان يكون كتابه شاهدا موضوعياً لذلك المسار الطويل الذي "حفرته" العمارة، وهي تثري الخطاب، بإمثلة لمقاربات تصميمية، شكلّ التنوع والقطيعة والإختلاف وإعادة القراءة فيها هاجساً اساسياً في صميم بُنيـّة ذلك المسار.
تجدر الإشارة، بان "بافلوس ليفاس"، وهو يتعاطي مع سردية نماذجه التصميمية، ينزع الى اصطفاء عنوان محدد، يكون "علامة"& <لوغو> Logo للموضوع الذي يكتب عنه. ومن مجموع العناوين التى تبلغ 24 عنواناً، يتشكل محتوى الكتاب. وأُشير هنا الى بعض تلك "العلامات" او "اللوغوات"، التى يسردها المؤلف في كتابه. نقرأ، على سبيل المثال: "العمارة والمكان: ميسوبوتاميا والمعبد البيضوي"، و "العمارة والهوية: معبد آمون في الكرنك"، و"العمارة والرياضيات: الحمراء"، و"العمارة واليوتوبيا: المدينة المحرمة"، و"المبنى ومجاوراته: فيلا روتوندا"، و"فائدة الصروح: حائط الصين العظيم"، و"النظام واللانظام : مدن العصور الوسطى والكاثدرائيات الغوطية"، و"المقاربة اليقينية: الشبكة المتسامتة The Grid"، و"إدارة التخوم: مسجد شاه <مسجد إمام> في اصفهان"، و"العمارة والتكنولوجيا: المباني العالية"، و"عمارة الى اناس بسطاء؟ الحداثة"، و"البشر والبيئة: من فيتروفيوس الى العمارة الخضراء"، وغير ذلك من العناوين، التى تشي "لوغاتها" بالاطلاع على وجه نظر جديدة، يقدمها الباحث اليوناني. وفي العموم، فان الكتاب يقرأ بمتعة. وهذه المتعة، وكما يريدها المؤلف، ان تكون حاضرة في صميم نصه الكتابي، فالسرد هنا يتعلق، وكما أشار هو في مقدمته، ".. بالعمارة، وعن اهتمامات الناس وانشطتهم وانجازهم التصميمي، وعن كيفية ادراك وفهم تلك الاعمال"، كما ان هذا الكتاب يسعى ايضا لرؤية الماضي من خلال عدسة شخص ما، يتقصى في عالم مشوش ومعقد، عن كيفية تشييد البشر ابنيتهم ولماذا. ويختتم المؤلف مقدمته، بان كتابه، هو في الواقع دليل لقراءة عمارة الامس، من خلال عيوننا التى تتطلع نحو الغد. فالكتاب كتب بإمل ان يحفز المتلقي لتقصي، بل وحتى قبول، وجهات نظر آخرى، ناهيك عن مهام تكملة معارف ذلك المتلقي بعلوم جديدة. وجعله ينظر حوله، مرة اخرى، لهذا العالم السحري المحيط به: عالم العمارة!.
ان كتاب" العمارة: منظور تاريخي" لمؤلفه "بافلوس ليفاس"، وكما يتراءى لي، سيكون مفيداً لقراء ذوي إختصاصات متنوعة، وليس فقط للمعماريين او لطلبة العمارة. انه كتاب (او بالاحرى دليل، كما يصفه مؤلفه!) يسعى لنشر الثقافة المعمارية في اوساط مجتمعية عديدة، والى لفت الانظار الى جنس ابداعي ظل على الدوام، يعتبر جنسا إبداعياً نخبويا. □□
معمار وأكاديمي
&