يقول سلطان النعيمي في كتابه إن الفكر السياسي الشيعي أدى ولا يزال يؤدي دورا محوريا في الفكر السياسي الإيراني، رغم تعدد روافده من المورث الثقافي إلى الانفتاح على الغرب وغيرها من الروافد.
ويتحدث النعيمي في بداية كتاب "الفكر السياسي الإيراني (جذوره، روافده، أثره) دار مدارك للنشر، دبي 2017) عن تاريخ الفكر الإيراني القديم، فيشير إلى أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإمبراطورية الفارسية كانت قائمة على تقديس "الملك، بوصفه ظل الله على الأرض.
ومع دخول الإسلام إلى إيران، وجد سكان تلك البلاد في سلالة الحسين ورثة لملوكهم الأقدمين، فربطت الإمامية الإثنا عشرية- أكبر الفرق الشيعية- حق السلطة الشرعية في أهل بيت رسول الله (ص)، وترفض الشورى طريقا لانتخاب الإمام، بسبب اشتراط العصمة والتعيين من قبل الله.
لكن هذه الفرقة وجدت نفسها أمام معضلة عام 329ه، عندما غاب الإمام الثاني عشر المعروف بـ"المهدي"، فظهر حينها تياران فكريان، الأول سمي بالإخباري الذي نزع الشرعية عن أي سلطة غير سلطة أئمة أهل البيت، أما الثاني فهو الاتجاه الأصولي التجديدي الذي سعى بواسطة الاجتهاد إلى معالجة الاشكاليات والمتغيرات في ضوء غيبة الأمام، ويعود لهذا الفكر الفضل في تطور الفكر الشيعي في القرون التالية وصولا إلى نظرية ولاية الفقيه.
ويتطرق النعيمي إلى الفكر السياسي الإيراني على امتداد أربعة أبواب، يضم كل واحد منها ثلاثة أبواب باستثناء الباب الأخير الذي يتكون من فصلين فقط إلى جانب الخاتمة، وتناولت موضوعات الكتاب على التوالي: التطور التاريخي للفكر السياسي الإيراني حتى العام 1979، الفكر السياسي الإيراني منذ ثورة عام 1979 وحتى العام 1989، والفكر السياسي الإيراني بين عامي 1989و 2000، ومتغيرات المشهد السياسي والممارسة السياسية بعد عام 2000.
تاريخيا، يمكن التوقف عند محطتين في تطور الفكر الشيعي، الأولى في عهد الدولة الصفوية عندما حدث تقارب بين ملوك هذه الدولة والفقهاء الشيعة، إذ راح الفقيه الشيعي عبد العلي الكركي (1465-1533م) يطور نظرية النيابة العامة عن الإمام المهدي تخوله دمغ الدولة بالشرعية مؤكدا حق الفقهاء في تقدير مسار الدولة، واعتبر أول فقيه يمارس جزءا السلطة السياسية مقابل منح الشرعية للصوفيين.
والمحطة الثانية تتمثل في نظرية ولاية الفقيه التي طورها أحمد النراقي ( 1771-1829م)، إذ انتقل من "إجازة الملوك" إلى "تصدي الفقهاء" أنفسهم للحكم، واستدل على جواز الولاية للفقهاء بأدلة نقلية منها الحديث الشريف "العلماء ورثة الأنبياء".
وحمل هذه الفكرة الإمام الخميني الذي مثل الاتجاه الأكثر رديكالية في المؤسسة الدينية إبان العهد البهلوي، فبينما نادت اتجاهات أخرى بضرورة عدم التدخل في السياسة أو تفعيل دور العلماء في شؤون الدولة، نادى الخميني بضرورة إسقاط النظام ونقل ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية من النظريات إلى الواقع.
لكن فكر الخميني تطور هو الآخر، فطرح في البداية تفعيل دور الفقهاء في النظام البهلوي قبل أن يتبنى لاحقا ولاية الفقيه بوصفها ولاية مطلقة.
ويغوص النعيمي في فكر الخميني فيقول " يرى المرشد الأول لإيران بعد الثورة أن "الفقهاء العدول وحدهم المؤهلين لتنفيذ أحكام الإسلام"، ويعتبر أيضا "أن الحاكم معين من عند الله وليس منتخبا من قبل الشعب".
وشكل انفتاح إيران على الغرب في عهد الدولة القارجية والبهلوية بوابة لظهور مؤسسات تعليمية أفرزت طبقة من المثقفين التي قدمت أطروحات فكرية حديثة.
ويقول النعيمي إن الاتجاهين اللذين نتجا عن الاتصال بالغرب هما "التيار اليساري" و"التيار الليبرالي"، ونادى الأول بإنهاء الإمبريالية وإلغاء الملكية وتوزيع الأراضي على الفلاحين وإقامة تعاون مع روسيا والحركة العمالية.
لكن اليساريين فقدوا عنصر الاستمرار نتيجة لعدم فهمهم لواقع المجتمع الإيراني ونفوذ الدين فيه وما أسفر عن فقدان فهم التضاد بين الأيديولوجية الماركسية والأيديولوجية الأسلامية، بحسب المؤلف.
وظهر فيما بعد ما يعرف بـ"اليسار الإسلامي" الذي استطاع أن يمازج بين تجارب الحركات اليسارية العالمية مع الأيديولوجية الإسلامية ليظهر في إيران "اليسار الإسلامي". وقال أحد منظريه آية الله طالقاني إن الإسلام متفق مع الاشتراكية والديمقراطية لكنه حذر من تبني هذين المفهومين كهدف في حد ذاته، معتبرا إياهما وسيلة للوصول إلى صيغة المجتمع التوحيدي.
أما التيار الثاني وهو الليبرالي فقد ارتكزت أيديولوجيته على أن الاستبداد الملكي البهلوي يشكل عائقا أمام تحقيق الحرية والتعددية السياسية، مؤكدا ضرورة تحقيق الاستقلال بعيدا عن الدول الاستعمارية وتدخلها في شؤون إيران الداخلية، ودعا أبرز مفكري هذا التيار ميرزا ملكم خان، الشاه إلى الفصل بين السلطات وسن القوانين التي تساهم في تحقيق المساواة والحرية.
ويرى النعيمي أن التيارات الدينية والليبرالية واليسارية لعبت دورا كسائر التيارات في نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، التي دفعت لاحقا هذه التيارات إلى تقديم رؤاها حول مستقبل إيران ونظامها السياسي بعد انتفاء الجامع بينهما وهو إسقاط النظام البهلوي، ويشير إلى إمساك التيار الديني بزمام الأمور بعد الثورة أدى إلى تهميش بقية التيارات الأخرى مثل التيار الليبرالي والتيار اليساري.
وسارع الخميني بعد نجاح الثورة عام 1979، إلى إحكام قبضته على البلاد مطلقا في البداية مسمى الثورة الإسلامية في تناقض مع القوى الثورية الأخرى ، ورفض إجراء استفتاء على شكل النظام الجديد بين "جمهورية إسلامية" و"جمهورية ديمقراطية"."
واستطاع استغلال الجو الثوري وتجييش المشاعر الدينية فعندما نظم استفتاء حول الجمهورية الإسلامية رفع شعار "كل صوت بـ"لا" هو صوت ضد "الإسلام"، وهكذا أصبحت إيران- بعد كتابة الدستور الجديد- تحت حكم ولاية الفقيه الذي يتمتع بصلاحيات واسعة للأبد.
وشهدت فترة ما بعد الثورة بزوز تيارات جديدة داخل التيار الديني بعد تهميش بقية القوى السياسية، ومن هذه التيار اليمين الديني الذي تقوم أسسه الفكرية على معارضة ولاية الفقيه المطلقة ومطالبة بتأطير صلاحيات ولي الفقيه، فميا كان التيار اليساري الديني يؤمن بولاية الفقيه المطلقة وتدخل الحكومة المباشر في الاقتصاد.
وبعد عام 1989 تغيرت الأفكار والمبادئ، فمع تولي علي خامنئي مقام المرشد أصبح الاتجاه اليميني من أشد الموالين لولاية الفقيه المطلقة، انطلاقا من إيمانه الجديد بالسلطة الإلهية لهذه الولاية، فيما راح اليسار يعارضها.
ويقول النعيمي إن الأحداث وشهادة شخصيات من داخل النظام نفسه تؤكد أن دور المصلحة والوصول إلى السلطة من عدمه يلعب دورا في قراءة مختلف الاتجاهات لهذه النظرية (ولاية الفقيه) وتغيرها من وقت إلى آخر، لكنها تحافظ على البقاء في فلك هذه النظرية دون الحديث عن تغييرها.
ويشير أيضا أن المشكلة في الفكر السياسي الإيراني تكمن في معضلة القوالب الجامدة لفكر كل من يصل إلى السلطة، إذ يعتبر فكره السياسي فكرا رسميا يٌجّب بقية الرؤى السياسية الأخرى، ويعتبر التطاول على فكره خروجا عن خط الأمة.
وخارجيا، طرح الفكر السياسي الديني في إيران نظرية "أم القرى" التي تقول إن إيران يجب أن تتولى قيادة العالم الإسلامي، بوصفها "أما للأوطان الإسلامية"، ولذلك خرج مصطلح "تصدير الثورة".
ويخلص الباحث إلى القول إن يصعب تغيير النظام الإيراني من الخارج، ذلك أن الحالة الإيرانية مختلفة عن نظيرتها العراقية، وتغيير نظام ولاية الفقيه سيأتي بنظرية شيعية بديلة.
ويستبعد النعيمي حدوث تغيير في إيران نظرا لعدم وجود شخصية دينية بارزة تتمتع بالفعالية ولها تأثير على الساحة السياسية تستطيع معارضة نظرية الفقيه وتقوم بتجميع القوى السياسية عن طريق طرح نظرية الحكم نابعة من الفكر الشيعي تعطي لسلطة الشعبية إلى جانب السلطة الإلهية دورا في الحكم.
التعليقات