&

حتى الإعدام لا يعادل قسوة السجن الانفرادي. الإعدام لحظة ، الانفرادي دهور. شاهدت فلم الفراشة و الزنزانة المظلمة التي تُرك فيها ستيف ماكوين. لكني لم اعشها و لم أتقمصها. نداء الحياة خارج دار السينما : الشمس التي تشرق، صخب الحياة و الناس على جمالهم و قبحهم ، يمنعني من الإيغال في تصور المآسي التي أشاهدها على الشاشة. لكني حين أعيش الحالة بنفسي، أستعيد الأفلام و أراها بطريقة أخرى. افهمها افضل. كل فلم مهما بلغ من القسوة إنما هو بطريقة ما ملهاة.

السجين في زنزانة انفرادية يتوق إلى تغيير ما حتى لو قاده إلي الموت، يتوق الى كلمة يُخاطَب بها حتى و لو شتيمة . في السجن الانفرادي تصبح الكلمةُ صدقةً، طيبةً كانت أم غير طيبة.

جاء التغيير ! كنت مستعدا له و راغبا فيه. الى ساحات الإعدام ، إلى مكان آخر او إلى الحرية. لا فرق.

في أمسية من أماسي آب، في سنة من سنوات الله في القرن الماضي سحبني رجال الأمن من زنزانتي الانفرادية بأمن بغداد معصوبَ العينين و وضعوا القيد الجامع (الكلابجات) في يدي و اصعدوني في ما تخيلته الحوض الخلفي لسيارة بيك آب. شعرت بأنني لم اكن الوحيد . صحيح اننا كنا ممنوعين من الكلام ، لكني أحسست بوجود آخرين . كانت أصوات أنفاسهم مسموعة و كذلك حركة الأجساد و الهمهمات و ربما رائحة الأجساد لأناس لم يغتسلوا لفترة طويلة.

فكرت و انا في سيارة النقل "ربما يكون ابا علاء معنا الآن" .

التقينا في موعد حزبي قرب معرض بغداد الدولي : هو ، انا و المسؤول و تفرقنا. ما ان ابتعدت عن المكان حتى داهمني رجال الأمن و حملوني الى سيارة تكسي و توجهوا بي الى مكان كان مجهولا حتى تلك اللحظة لي . „ربما بنفس الطريقة القوا القبض على ابي علاء". واصلت تفكيري " ربما يكون الان على مقربة مني ، ربما استنشق الان جزءا من زفيره".

هل سيأخذوننا الى ساحة الإعدام أم إلي مركز توقيف و تعذيب آخر؟

لم تكن هذه القضية مرعبة كما هي عليها الآن حين اكتبها بانقباض . أو كما هي لمن يقرأها . فالسجين الذي تعرض للتعذيب و الإذلال و العزلة لفترة طويلة يصبح في حالة يتساوى فيها لديه الموت و الحياة. يريد انهاء ما يمر به من معاناة حتى و لو بإنهاء حياته. انه يمر بحالة تشبه ا لخدر العام و عدم القدرة على تقييم الموقف.

تحركت بنا السيارة. بعد حين و بعد أن كنت أرى خلل عصابة العينين أنوارا خاطفة تقوى و تخفت و تمرق من امامي بطيئة او خاطفة حسب سرعة سير السيارة ، ساد الظلام . "يبدو اننا غادرنا بغداد" فكرت مع نفسى.

و في الطريق الى مكاننا الجديد المجهول تتبعت افتراضاتي : صعود ، نزول، انعطاف حاد ، اخر ناعم . أضواء تخطف ، تقوى ، تخفت ، تطول ، تقصر... حتى وصلنا الى مكان سطعت فيه الأضواء لدقائق قصيرة ثم عادت و خفتت ثم اختفت ، و السيارة تسير حثيثا نحو هدفها .

بعد مسيرة لم استطع تخمين الوقت الذي استغرقته غمرتنا أضواء مدينة كبيرة . انعطفت السيارة نحو اليمين و في دقائق ارتقت و هبطت على شكل قوس " كان هذا جسرا على ما يبدو" ، ثم يسارا و يمينا ثم تباطئ سيرنا و بدا لي إننا دخلنا بناية.

عرفت اننا اصبحنا تلك اللحظة في مديرية امن ديالى في بعقوبة.

كانت الأضواء الأخيرة هي أضواء مدينة بعقوبة التي استقبلتنا و القوس الذي ارتقينا كان الجسر الذي يؤدي الى قلب المدينة و الانعطاف نحو اليسار ادخلنا في شارع نادي الضباط ثم الذي على اليمين قادنا الى الباب الخلفي لمديرية الأمن . طريق بعقوبة ـ بغداد القديم حفظته عن ظهر قلب ، كان هو الطريق الذي سلكته مرارا حين كنت طالبا في الكلية ذاهبا آيابا الى بغداد قبل ان ينجز العمل بالطريق الجديد. أما الضوء الذي استغرق دقائق قليلة في منتصف المسافة بين بغداد و بعقوبة فقد كان لمدينة خان بين سعد.

كل هذه هي افتراضات لا غير. فأنا لم ارَ شيئا. لكننا قد نحول الأماني أحيانا الى يقين.

فرشوا لنا بطانيات و أنامونا في العراء. كنت اعرف خريطة مديرية الأمن و سمحت لنفسي ان اتخيل اني هناك : باحة بجانب الموقف ، مرأب للسيارات و نخلتين او ثلاث. لم يعد في الموقف مكان لمزيد من السجناء. فأنامونا مؤقتا في باحة المديرية قريبا من الباب الخلفي . العصابة لا تزال على عيني، غفوت ثم بحركة غير مقصودة باعدت ما بين يدي فاحكم القيد الجامع ضغطه على معصمي.

„ رجاء ، رجاء .. من هناك؟ " اجابني صوت بطريقة خشنة " نعم ... ماذا تريد؟" „ الكلبجة تضغط على يدي " . انتظر" . سمعته يتحدث مع احدهم . أجابه : "لا … لا يمكن ، عنده محاولات هرب سابقة.“

يئست ثم نسيت قضية القيد و غفوت من جديد و حلمت انني أسير:

„ سرت فوصلت نهر خريسان. الطريق الموازي للنهر تمشينا فيه مرارا. شاهدت سينما اليهودي التي نقش عليها تاريخ بناءها الذي هو نفسه تاريخ مولدي ، صيدلية ، ربما صيدلية طارق ، عيادة الدكتور بشير و محل بيع الكبة الشهير . تمشيت في الفروع المؤدية الى الأسواق المركزية ثم واصلت طريقي الى اليسار فوصلت قلب المدينة و شارع الأطباء الضاج بالناس فسينما النصر، "النصر" هو الاسم الذي منح لها لاننا انتصرنا في 14 تموز على عبد الإله و امثاله فازيل اسم „سينما عبد الأله“ الذي قتل. تجولت في الاسواق و المحلات و استديوهات التصوير و سمعت اصوات المارة. قابلت صباح فسألني : "ها طلعوك؟"

لقد حلمت بالحرية!

صحوت من حلمي على صوت ديك تبعته اصوات ديكة اخرى عرفت ان الفجر قد اطل علينا حاملا نسيمه المنعش . تحركت سعفات النخيل فسمعت حفيفها. الحياة بدأت تدب بطيئا في طرقات المدينة. كان صوت الديك اجمل موسيقى. بقيت معصوب العينين طيلة فترة اعتقالي عدا الفترات التي يتركوني فيها وحيدا في الزنزانة . يعيدون الي عيوني حين لا احتاج اليها و يأخذونها منى حين يقودوني للتحقيق او الى الحمامات. حين تحرم من وسيلة احساس يعوضك جسمك بتقوية وسيلة احساس اخرى . اخذت اذني دور عيني فبدت ارى بها.

كل صوت احوله فورا الى صورة . صوت الديك اصبح عندي ديكا بألوان زاهية في اشعة الشمس. و صوت الحفيف اراني سعفات تتحرك متهادية و المارة و الباعة المتجولون اعطوني صور الشوارع و الازقة و الناس.

عند الضحى اردت ان اذهب الى الحمام. صاحبني واحد من رجال الامن. حتى اذا قضيت حاجتي بادرني بالكلام:

ـ منير ، اين نحن الان؟

ـ في مديرية امن بعقوبة.

قال

ـ ماكو هيج شي.

قالها بصوت فيه نوع من الود. ود جلاد؟ و لم لا . كنت بحاجة الى صوت بشري حتى لو لم يكن ودودا.

ـ هل كنت معنا حين جئنا من بغداد؟

ـ نعم

ـ اذن دعني اقول لك : لقد سافرنا على طريق بغداد ـ بعقوبة القديم و مررنا بمنطقة المعامل و خان بني سعد.

قال لي

ـ خره بعر…….

غاب ثم بعد هنيهة عاد و قال :

ـ خذ، اشرب

وضع في يدي قنية. ترددت. قرأ افكاري فقال :

ـ لا تخف لو اردنا تسميمك لفعلنا منذ وقت طويل .. اشرب

شريت شيئا ما ربما كان مشن اوفانتا و انا اقول لنفسي : „انه على حق"