حاورهُ : الدكتور توفيق آلتونجي – 17-3-2019 .

كركوك مدينة الابداع والتعددية الثقافية التي أفرزت أدباء وفنانين متميزين. كانت نهايات الحرب العالمية الأولى ، وانهيار الدولة العثمانية ، وتأسيس الكيانات السياسية في المنطقة تحت الإنتداب البريطاني والفرنسي ، ومن ثم تأسيس الكيان الوطني العراقي أي دولة " العراق " ذو النظام الملكي ، عاملا أساسيا في انطلاق العراقيين في مجمل مجالات الحياة. وبعد 1958 واعلان الجمهورية تحول العراق الى مرحلة جديدة اهم سماتها الصراع الفكري بين اليسار واليمين. الطبقة المثقفة بات بنشر انتاجها الابداعي من ناحية ومن ناحية اخرى ، زاد عدد القراء وكان القارئ العراقي من ابرز مستهلكي انتاج مطابع بيروت والقاهرة. في هذه البيئة بدا الاديب والناقد " عدنان أبو أندلس " حياته الأدبية سألته عن طفولته فاجاب قائلا:
طفولتي وما أحلاها عشتها في القرية بهدوئها وعفويتها وبراءتها دون تصنع ، عشتها بعبثية باذخة وأريحية باهرة في الإنفلات ، كنتُ متمرداً ، جدلياً ، نزقاً ، مشاكساً ، طليقاً حدَ القرف الذي يُحسد عليهِ ، وقبل أن أعرف ما يحيط بي
أُركز على الأشياء التي تبهرني ، وما قالتهُ لي أُمي لاحقاً : كنتُ أتحسس الجمال وأُشر بإصبعي الصغير عما أُلاحظهُ وأُعجب بهِ من النظرة الأولى ، كانت أسئلتي كثيرة ولحوحة ، ومحرجة قدْ لا أجدَ جواباً لها عند الأهل أو الأقارب ، مرةً وأنا في الصف الأول الإبتدائي ؛ سألتُ معلم القِراءة الخلدونية عن معنى إسم " نازدار " وهو موضوع درسنا فيها ، لكنهُ نهرني قائلاً : " اسكتْ " !..حينها عرفتُ بأنهُ لا يعي أو يعرف المعنى ، وتكرر الحال في الصف الرابع الإبتدائي بنفس السيَاق عن إسم " كروباتكين وأوياما " في موضوع " الحلاق الثرثار " في درس القراءة غير أنهُ أجل الإجابة لدرس آخر ، ولم يجاوبني أبداً .

- نعم عزيزي وانا اتذكر معك ذلك ، لان بيئة مدينة كركوك كانت مغايرة بالمقارنة مع بيئة المدن العراقية الأُخرى وعدم فهم لغات أهل المدينة كانت واردة انذاك .لكن حدثنا شيئاً عن بداياتك مع الادب ، وما انتجته قريحتك فيما بعد.
بداياتي كما تعرف مثلها مثل أيُ شخص يمارس طقوس لا يعرفها بل لأجل أن يؤديها فقط ، كنتُ كذلك لتسقيط فرض بأني شاعر ، إلا أن وصلت" الرابع العام " لم أقرأ أيةِ رواية أو قصة أو جنس أدبي آخر ، بل فقط قراءة الدروس المنهجية الإجبارية ، لكن في منتصف العام 1974 تغير كل شيء حين أشتريتُ رواية " طبيب الشَمال " للكاتب الإنكليزي " والاس . ك . ريد " من بسطية الرصيف لبائع أسترعاني " العنوان " حسبتهُ يتحدث أولاً عن مهنة طبيب في شمالنا الحبيب ، وحين إسترسلتُ بالقراءة تبين غير ذلك ، ومنها بدأ إهتمامي بالأدب ينمو تدريجياً ، كتبتُ في تلك السنة قصائداً وشخابيطاً سطحية أقنع بها نفسي ، شكلاً وتنضيداً بما يشبه الشعر العمودي " تارةً " ثم أمضي إلى غيرها في قالب " النثر " ثم تتلقفني القصة تارةً أُخرى ، وهكذا تحسستُ هذه المصارعة في الكتابة بأنها لا تجدي نفعاً ، وتركتُ الأمر حتى تم نضوجي القرائي بحدود العام 1978 ، وكتبتُ حينها قصيدة " نثر" عنوانها " قطراتُ عذاب " وأرسلتها بريدياً إلى صحيفة الراصد " البغدادية " وفي غضون الشهر نُشرت بأكملها وكان فرحي كبيراً حتى تحسستُ بأن الأشخاص الذين يمرون من أمام المكتبة ينظرون عليَ ، وكأنهم يعلمون بنشرها . لكن مع أسفي الشديد ظلت قصائدي تُنشر في بريد القراء لعدة سنوات وكأنه طابعاً إلتصق بي . رغم أن قصائدي وحسب قول النقاد كانت ترتقي إلى الصفحة الثقافية في أية صحيفة معتبرة آنذاك .

- ذكرت في مستهل حديثك بأنك تتحسس الجمال ، هل بقي من ذاك الجمال عندك وقد وظفتهُ في نصوصك فيما بعد ؟
نعم أستمر معي إلى الآن ، وقد غرفتُ منهُ جرعات نصوصية تكفي لإنتعاشي والقارئ معاً ، إستمديتها منهُ ؛ مثلاً كتبتُ قصيدة عن ضحكة المطربة " طروب " وإبتسامة الفنانة " شمس البارودي " وعينا الرسامة " ليلى العطار " وإسم الطالبة " نازدار " الذي ظل يرافق جماليات العنونة حتى كتابة أية قصيدة أختار ذلك يشًدني إليهِ .

- التمرد صفة الشباب واني وبحق أرى وأتحسس تمردك الحياتي منذُ طفولتك ، لهذا كان تعاطيك لقصيدة النثر لم يأتِ من فراغ اليس كذلك ؟
حقيقةً إنطباعك رصدتهُ في قصائدي من تمردي ، فقصيدة النثر تلاءم ذلك كونها مشاكسة ومتمردة ومراوغة الواقع بحد ذاته ، ومن طفولتي كما سردتها لك كنتُ كذلك حتى حين كنتُ صغيراً صعدتُ " رابية " مع أبي الذي يحرس بئراً نفطياً في منطقتنا ، وقد رأيتُ مدفعاً منصوباً في خندق ، سألتُ الجندي عن إسم هذا ، نهرني أولاً ثم قال لي : هذا مدفع ضد الجو ، رفعتُ رأسي إلى الفضاء وكأني أرقب القذيفة ستشق السماء بإندفاعها الصوتي ، من يومها

- عرفتُ الإختراق المستحيل لقصيدة النثر . كذلك حين أمرُ من أمام إعدادية كركوك وأنا بسن الفتوة أتفحص " صافرة الأنذار " التي تعلو بنايتها كونها ضد الصاعقة ، منها عرفتُ كل التضاد الذي يليق برؤى قصيدة النثر .
على علمي أبو الأندلس قمتم بتوثيق أبداع للقدر الأكبر من أدباء المدينة وشخصياتها على مدى النصف الثاني من القرن الماضي ... هل تنوون نشرها لاحقا على هيئة كتاب ؟

- كتبتُ ووثقتُ الكثير عن أدباء مدينتي في الوقت الحاضر من دراسات نقدية لمجاميعهم التي تُهدى لي ، ومن ثم إستذكار الرواد عن منجزاتهم الإبداعية بدراسة نقدية أيضاً ، كتبتُ عن أغلب جماعة كركوك بشطريها – الأولى والثانية ، وعرجتُ إلى الثالثة بتسميتها اللاحقة أيضاً . ومن طبعي بأن أكتب للنص الذي يعجبني وليس للشاعر فيهِ نصيب حتى الإنطباعية التي تأخذني ربما للشخصية ، لكن بشرط تحسس مواضع الجمال فيهِ ، وأُفاجئ ذلك دون التكليف منهُ . والشطر الثاني من سؤالك ؟.. نعم دونتُ ونشرت ذلك في عدة كُتب صدرت لي نقدياً .
بيئة كركوك وعلى شاكلة مدن العراق الأُخرى، كانت وما تزال مصدراً ملهماً لأؤد بائها ، وقدْ لا تجد أحداً لم يتغنَ بها وبقلعتها وأنسانها المكافح ، ماذا قدمتم لها ؟

- ما تزال " كركوك " مصدر إلهام للأُدباء قديماً وحديثاً ، حاضراً ومستقبلاً، فها نحنُ الأدباء المعاصرون نهيمُ بهامة قلعتها إيحائياً لتضخ علينا يومياً فيوضات من الرؤى الباذخة في التزود من قوتها كـ قوة دافعة لتنشيط ما نرجوهُ منها ، نطوف حول قلعتها نستجدي الصدى القابع في زوايا أمكنتها ، وشكل الأخاديد القابعة في جوانبها ومقرنصات أبنيتها وروائح خاناتها ولمعة قبابها ، وستبقى في ذاكرتنا كـ أيقونة رهيبة في التطلع إليها رغم الإهمال الذي أطالها ردحاً من الزمن ، نشم منها عبق التاريخ ومسبار الحضارة الذي يقودنا إلى مدرجاتها دون دراية مثل " الهيام " فـ كركوك هي المدينة الضوئية كما وصفها الشاعر الأب " يوسف سعيد " كتبتُ مجموعة شعرية كاملةً عنها عنوانها " مسارات كيرخو " هي كركوك باللغة الآرامية القديمة ، فأضحت نصوصها تربو على " 71 " نصاً يحيطً بدروبها وساحاتها وشوارعها وحدائقه وناسها ,.و.و. حتى كأنها دليلا سياحياً" فولدر " لا يجد الزائر سؤالاً عن الإستدلال من أحدٍ لمشاهداتها . النشر كان دائماً يشكل صعوبة لكتابنا وادبائنا، في حين هناك كُتبٌ تنشر لكتاب لا يقدمون أي نص إبداعي بالمعنى الحقيقي ، وقد كُنا قي العهود الماضية نعاني من مقص الرقيب ، كيف تقيمون الزمن الحاضر؟ وما هي الأسباب الحقيقية برأيكم في عزوف دور النشر من تبني النشر الجيد ؟
صراحةً مابرح ذاك العبء الذي ذكرتهُ يفارق مخيلتنا ، فأكثر النشر يأخذُ طريقهُ من باب المجاملات والأخوانيات وخاصةً في الصحف الرسمية " المسنودة " التي تعتلي الواجهة الرئيسية للمشهد الثقافي والمعرفي خصوصاً ، بغض النظر عما تكتبهُ من إبداع لا يوازي ولن يؤخذ في حسبان الإبداع ، حتى دور النشر أضحت تجارة رائجة على حساب الإبداع ، كُنا نخشى الرقيب الذي كان مثل " الكونترول " السيطرة النوعية ، ليت كان الرقيب باقياً كي يشطب ويقيم ويقوم ويمنع لئلا يختلط الغث من السمين ، حقيقةً شيءٌ يحُز بالنفس وأنت ترى كل هذا التراكم الكمي من الإصدارات والتي تتبناها دور النشر الغير المبرر ، أي يعني الكتابة للنشر والرواج فقط ليس إلا .

- في البدء اريد استضياح حقيقة وهي ،انه ليس هُناك قُراء للكتابة الورقية من صحف ودوريات وإصدارات وغيرها ، حيثُ إجتاحتها بدائلها من النسخ الإلكترونية في شبكة التواصل الإجتماعي والمواقع بتعدديتها ، والتي قلصت الفارق إلى أكثر من النصف تقريباً ، مثلها مثل دور السينما التي انقرضت وحُولت إلى " كراجات ومولات و.و. وكذلك الراديو الذي اخذ نصيبهُ من الإضمحلال المؤسف حتى كاد أن نراهُ في محلات بيع " الأنتيكات "
وعودة لتكملة الإجابة وكما قلتُ دور النشر تُمثل الجانب التجاري مع تجهيز مستلزمات رقم الإيداع الجاهز ، فأعتقد الإستفادة مشتركة بين الناشر والأديب ، هو ينشر وهم يوزعون بإعتماد الصيغة المنوه عنها ، كذلك الطبع ربما لا يوازي التوزيع ولا حتى قيمته في المعارض التي تُقام هُنا وهُناك .

- هل تعتقد بأن مقولة : هم يطبعون والعِراق يقرأ ، تراها لا تزال صحيحة ؟
أعتقد هذهِ المقولة كما أسميتها للأديب المصري " جرجي زيدان " حين زار العراق ورأى بأُم عينيهِ ثورة معرفية هائلة ، من أن أهل العراق منكبين يقرؤون الصحف في المقاهي والمدارس والجامعات والشارع والمنتديات والمكتبات لذا أطلق عبارتهِ تلك" القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ " وأصبحت سمة خالدة لنا يعرفها الجميع في بلاد العرب ، هي صحيحة لكن في وقتها كما ذكرت قبل غزو الأنترنت بسنيين ، لكن ليس من كوني عراقي تأخذني العاطفة لبلدي ، رأيتها ولمستها في أكثر المحافل من أن العراقيين أعلى صوتاً من بين أبناء الشرق الأوسط قاطبة تليقُ بهم هذه المقولة .

- حسب علمي لك متابعة جيدة عن منجزات جماعة كركوك الأدبية من خلال تناولك لهم بإستذكارات ودراسات وغيرها ، هل تعرفت عليهم قبل تلاشيهم في الشًتات ، ومن هو الذي تأثرت بهُ وصاحبتهُ في حياتهِ ، وقد كان لهُ الفضل في تأثرك بهِ معرفياً ؟
صراحةً لم أتقرب منهم أو ألتقي بأحدٍ منهم كون أصغرهم يكبرني بعقد أو أكثر من السنين ، غادرونا قبل أن أبدأ بهذا التفاعل الذي ذكرتهُ بإستثناء القاص " جليل القيسي " الذي كانت تربطني معهُ صداقة متينة ، والشاعر الذي أسميه ماركة " صلاح فائق " تلك الماركة هي البصمة التي خُتمت لهُ بقصائدهِ الحداثوية تعرفتُ عليهِ في شبكة التواصل وأصبح صديقاً عن بًعد والشاعر " قحطان الهُرمزي " صديقاً رائعاً بحق، و" فاروق مصطفى " آخر من تبقى من الجماعة في المدينة حيثُ لهُ الأثر الأكبر في استدلالي لبؤرة التأصيل الأدبي ، وهو صديق وأستاذ نتواصل في الأسبوع على الأغلب ثلاث مرات وبإستمرار .

- حسب علمي وما أقرأ لك في المواقع وشبكة التَواصل من منشوراتك في النقد والتحليل ، متى بدأت ذلك ، قبل الشعر أم بعدهُ ؟
لا طبعاً بعد ممارسة الشعر بسنينٍ طوال ، كانت البداية في أواخر تسعينات القرن الماضي بدأ التحسس النقدي عندي من كُثرة القِراءات للقصائد وخاصة " قصيدة النثر " ومشاكسة رؤاها لأني شاعر نثري بالذات ، لذا ولد لي هذا التحسس حين أُقوم لأصدقائي بعض النصوص ومنها سرتُ بهذا المسار وحتى اللحظة بشكل ذائقو وهواية ليس تخصصية في مجال النقد ، وقد صدرت لي حتى الآن " 6 " إصدارات نقدية مختلفة ، وأكثر تناولها عن شعراء الصعاليك والمهمشين أصحاب قصيدة " النثر " لأكثر دول العالم من المكسيك وحتى اليابان شرقاً ، ومن السويد حتى جنوب أفريقيا ، يعني يشكل علامة + في الخارطة الكونية للأدب . ومن مجاميعي الشعرية التي تربو على " 9 " إضافة ‘إلى كتاب سيرة يحكي قصة حياتي الكاملة " زوايا الضباب ".

في ختام لقائي هذا أود أن أوجه لكم عزيزي الشكر الجزيل على إستمرارك معي بهذهِ الأسئلة المُثيرة والشاملة لدورة حياتك الأدبية .