الكاتبة زينب عفيفي تكتب في روايتها "أحلم وأنا بجوارك" عن نساء خيب الحب آمالهن، فوجدن أنفسهن في مأزق التساؤلات الوجودية عن معنى السّعادة وخيار العزلة.

إيلاف من بيروت: عن الأحلام والذكريات والحب المفتقد والرغبات المؤجَّلة المقموعة، تدور مناخات رواية "أحلم وأنا بجوارك" للكاتبة زينب عفيفي (الدار المصرية اللبنانية)، مراوحة بين طرف من أدب السيرة الذاتية وطرف آخر من أدب البوح أو الاعتراف.&

بين الطرفين، تبحث الذات الساردة البطلة الكاتبة عن عالم بديل ووجود موازٍ يحققان لها نوعًا من التوازن النفسي، ويخففان من مأزق حياتها في ظل هذه الحيوات المفتقدة الحارقة.&

لكن، لا المأزق الإنساني بمكابداته المأساوية وحده يصنع الدراما فنيًا، ولا السيرة الذاتية وحدها تمنح الأنا نشوة الاعتراف، لتمتلئ بكينونتها، بعيدًا عن محاولة التصالح مع ماضٍ قاسٍ عاشته أم وابنتها ينتميان إلى الطبقة البرجوازية، ولا يزال يلقي بظلاله على حاضر مترع بالأسى والشجن، كأن ذلك الماضي أصبح وصيًّا عليه، وعلى معنى الحياة.

اختباء من الحياة

في مراجعة نشرتها "الشرق الأوسط" للرواية، يأتي أن عقدة ذلك الماضي تتجسد في صورة البطلة التي شارفت على سن الأربعين، ولم تزل عذراء، وفي صورة الأم التي فقدت بصرها وهي في أوج شبابها، ولا تجد عزاء لحياتها الزوجية النمطية الخشنة سوى الرجوع إلى الماضي بكل ذكرياته ومفارقاته المؤلمة، محاولة استعادة صورة حبها الأول وحبيبها الذي تخلى عنها في ظروف ملتبسة وشائكة، وعلى الرغم من ذلك تحتفظ بصوره ورسائله كأنه ومضة الروح الحانية الوحيدة الباقية في جراب الزمن.

يفاقم موت الأب المفاجئ في حادث سير مأزق الأسرة إنسانيًا، مخلّفًا انكسارًا في الروح ومشاعر باليُتم، وتتحول حواسُّ مثل الشم والملمس والسمع والرهافة إلى لغة خاصة غير منطوقة وبديلة بين الأم الكفيفة وابنتها التي تشبهها، بل تكاد تكون صورة طبق الأصل منها. بينما يعزز حبهما المشترك للأدب والقراءة والموسيقى من قدرتهما على الصمود في هذا الوضع المأساوي، ومجابهة وجود ناقص ومشوه، لا يملكان حياله سوى الاختباء من الحياة، ولو في عباءة الماضي والذكريات، وسيلة للخلاص من شبح اليأس الذي أصبح يعشش في الحاضر ويحاصره، كأنه النقطة الوحيدة التي تشكل عمق الصورة وتلون ظلالها.

من إيجابي إلى سلبي

بحسب "الشرق الأوسط"، تتعمد مي، الفتاة الأربعينية بطلة الرواية التي لم تذق طعم الحب الهروب من واقعها الأنثوي ونسيان الحب، لكنه يظل يطاردها بإيقاعاته الناعمة والصاخبة في روايات الحب الكلاسيكية الكبرى التي أدمنت قراءتها، حتى أصبحت تمثل وجودًا موازيًا تجد فيه تعويضًا عن عدم مصادفة الحب وتحققه في الواقع المادي.

هذا ما تصوره الكاتبة في مستهلّ الرواية: "بدأت تتسع دائرة وجود أبطال الروايات في حياتي، صاروا يأتون كل ليلة ليؤنسوا وحدتي في هذا الفراغ الذي تركه أبي بعد رحيله، هم من يستمعون إلى هلاوسي الليلية دون استدعاء، هم من يكتمون أسراري في حالاتي المتناقضة من الحزن والفرح، والضحك والصراخ، والاحتياج والشعور الزائف بالقوة والاحتمال، ونوبات النشوة والرغبات المكبوتة... رأيت فيهم ما رآه بول أوستر في القراءة من أنها الملاذ والعزاء والسلوى والحافز على الاختيار والسكون الجميل الذي يحيط بنا ونحن نُصغي لأصداء كلمات المؤلف وهي تتردد في رؤوسنا".

بيد أن الاختيار المنشود لا يتحقق، بل تتحول القراءة من فعل إيجابي يعين الذات على المعرفة والتزود بالأفكار والرؤى، إلى فعل سلبي، عابر وموقت، يؤدي وظيفة محددة وهي هدهدة مشاعر البطلة وأحلامها في الحب والحياة.

الكتابة خلاص

بين العيش في قصص الحب وأزمنته المنقضية روائيًا، وعزف الأم لحنها الشجيّ الحزين كل ليلة، يتحدد عالم ممعن في الواقعية، سقفه جامد وبارد، لا يعرف الخيال، يكرس للعزلة ويصبح منتجًا لها، بشكل لا إنساني، وتختلط فيه الأشياء، بلا منطق أو معنى، مخلّفة هوّة في الروح والجسد يصعب ردمها.

إنها حالة تتحول فيها معايشة الكتابة والاستغراق فيها إلى وسيلة للخلاص من الحب، يمثلها على النقيض سليم علوان، الكاتب الروائي الشهير الذي سعى عمدًا إلى قتل الحب الذي جمعه بأمّ البطلة في أثناء دارستيهما الجامعية، حتى يخلص إلى الكتابة بحرّية، عن الحب نفسه.

تجمع المصادفة البطلة الابنة بسليم علوان، فتقدمة للجمهور في ندوة أدبية بإحدى المكتبات، تقرأ خلالها بعضًا من كتاباته، كما يتحدث عن روايته الجديدة "أحبك إلى الأبد" التي كتبها عن قصة حبه الأول للأم. تنكشف حقيقته أمام البطلة وتروي لها الأم حكايته معها، وكيف قمع فيها طموحها في أن تصبح كاتبة.

وبدافع من الواجب العائلي تغلق البطلة صفحة وقوعها في حب الروائي العاشق، مستثمرة رذاذها الموجع في استعادة نقطة التوازن لحياتها وحياة الأم معًا، وعودة الدفء المفقود إلى البيت، حيث تُقنع الأم بكتابة حكاية حبها مع سليم علوان في صورة معارضة قصصية، ونشرها في كتاب، لتحقق بذلك حلمها القديم أن تصبح كاتبة، ويصبح التسامي عن الانتقام واجبًا إنسانيًا، للدفاع عن الكرامة الإنسانية المجروحة.

بذرة روائية خصبة

يقول التقرير إن عفيفي وضعت يدها بقوة في هذا الكتاب على بذرة روائية خصبة، "لكنها لم تستطع أن تنضجها، وتبني عليها مفارقات عالم بطلتها الإنساني الخاص المليء بشقوق الأسى والحرمان. فأصبحنا أمام نص يلعب على سطح الصورة، وبضمير أحادي رخو، تنتجه طبيعة السيرة الذاتية وأنا المتكلم، وفي فضاء مغرق في الرومانسية يقيس كل شيء بمدى التصاقه بها، والعيش في ظلالها".

فوق سطح هذه الصورة اكتفت الذات الساردة أيضًا بلجوء بطلتها إلى عالم الروايات، حتى أصبح الوجود الموازي الأسير لديها، فلم تتوغل داخله وتُخرجه إلى فضاء صورتها هي، بما تمثله من مساقط شحيحة للنور، يتجاور فيها البياض والسواد، كأنهما يبحثان عن لون آخر مغاير في الصورة. هنا كان يمكن تقنية التقمص أن تلعب هذا الدور بامتياز، لو فكرت الذات الساردة أن تتخذ منها سلاحًا لتوسيع وتكثيف مناورة الحكي، وكسر هيمنة الضمير الواحد، وذلك بتقمص دور إحدى بطلات هذه الروايات، ومعايشته إلى حد التوحد والذوبان في فضائه وأَقْنِعَته المستدعاة المتوهَّمة، كأنه حقيقة حية معيشة بالفعل على مسرح النص.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "الشرق الأوسط".