يخطر في البال، دوماً، الكثير من الأسئلة التي تدور في فلك مسألة واحدة:

هل حياتي تسير بملء إرادتي، أم أنني مسيَّر؟

هل أنا صاحب القرار الأوحد في حياتي، أم أنه ثمَّة من قرَّر عني مصيري مسبقاً؟ هل أدرس أو أعمل في المجال الذي اخترتُه لنفسي أم لا؟ وبالمختصر: هل "أناي" حرَّةٌ بما يكفي لكي أفعل ما أريد؟ وللإجابة عن جميع هذه الأسئلة، يكفي أن نعرف ما هي صلاحيات هذه الأنا في الهيمنة على أفكار الإنسان ورغباته وأفعاله.

عندما قدَّم فرويد اكتشافه العظيم (اللاشعور) إلى العالم، استخدم في حينها مثالاً توضيحياً هو جبل الجليد المغروس في قاع البحر، والذي تظهر منه قمَّته التي لا تساوي شيئاً إذا ما قُورنت بالجزء الأعظميّ المطمور تحت الماء. وهذا هو بالضبط حال الأنا في مثاله قياساً بضخامة اللاشعور. ومن باب التوضيح، فإننا نقصد بالأنا وظيفةً عقليةً واعيةً ناتجةً عن قشرة المخّ، تجمع ضمن صلاحياتها الكثير من العمليات الشعورية: المحاكمة والقرار وغير ذلك. وبالتالي فإنَّ فرويد قد قلَّص من مساحة الرقعة القديمة المفترضة للأنا المسيطرة على الإنسان، من خلال مفهومه الجديد: اللاشعور.

فبعد فرويد باتت قبضة الأنا صغيرةً جداً على الإمساك بزمام السلوك الفردي أمام سيلٍ جارفٍ من الرغبات مصدرها اللاشعور، وباتت كذلك محاصرةً كجزيرة صغيرة تتوسَّط محيطَ اللاشعور العملاق، تتلاطمها أمواجُه ليل نهار.

وسواء اعتمدنا مفهوم فرويد حول اللاوعي السلالي، الذي يكون الإنسان من خلاله ليس إلا صيرورةً وامتداداً لعشيرته الأقدم بتوارث انفعالي وسلوكي نفسي، أو مفهوم يونغ حول تأثير اللاوعي الجمعي/ التشاركي على اللاوعي الشخصي لكل فرد، فإننا سوف نرى ما مدى محدودية أفق الأنا، وإلى أيّ حدّ هي استمرارية لما قبلها، لأنها باختصار ابنة اللاشعور الفردي وحفيدة اللاشعور الجمعي. وبالنتيجة نستطيع القول بأنَّ الأنا ليست حرَّةً لا في قراراتها ولا في خياراتها مهما حاولت التفرُّد والاستقلالية، ومهما غرَّدت خارج السرب؛ ما دامت تنبت وتتجذَّر في تربة أسرة معيَّنة أو عشيرة أو وطن. ناهيك عن كون الأنا، أيضاً، محاصرةً من الجانبين، لأن عليها ترويض ما يجتاحها من الداخل اللاشعوري (كرغبات)، وتجميل ما يُفرض عليها من الخارج (كمنبّهات). وعليها الإمساك بالعصا من المنتصف بشكل فريد، وإلا وقعت فريسةً للحصر الذي يخلقه ازدحام المجتمع. وعلى "سنَّارتَي" الأنا أن تحيكا، كلَّ يوم، عشرات الملابس لتكسوَ بها عشرات المواقف التي تتعرَّض لها يومياً تحت عنوان عريض اسمه "التكيُّف".

وإذا حصل أن تراكمت التوابع النفسية يوماً بعد يوم - وذلك نتيجة عجز الأنا عن تكيُّف كامل ومستمرّ – فإنها ستُضعِف من قوَّة الأنا واستقلالية قرارها.

أمَّا إذا قويت هذه التوابع وأصبحت "أنواتٍ" متعدّدةً، وباتت تصرف من ميزانية الأنا لحسابها الخاص، فستزيد من إفقار الأنا ومن معاناتها. والأنا فوق ذلك كلّه مقيَّدةٌ، ليس فقط بالنمط والعرق والثقافة والحاجة والحصر، بل وبالعجز والاغتراب والمرض والزمن المحدود. وخير من تحدَّث عن هذه النقطة كان فرويد نفسه عندما قال محتجَّاً على وضعه بعدما داهمه المرض في نهاية حياته: "إن لم تقضِ الكوارث والحروب والأوبئة على الإنسان، يجلس هذا الإنسان على كرسيّه مراقباً جسده كيف ينهار أمام عينيه رويداً رويداً". بعد ذلك سنصل إلى قناعة مفادها أنَّ نصيب الأنا الفردية في هذه الحياة بخسٌ إلى درجة كبيرة، وأصغر بكثير من قدرة الإنسان على تغيير الواقع وتصحيح الأخطاء. فالأنا الفردية للإنسان لم تستطع أن تقدّم للإنسانية الشيء الكثير، حيث لا يختلف كثيراً إنسان الكهف عن إنسان ناطحات السحاب إلا من خلال المظهر وشكل المعيشة. حتى العباقرة، أصحاب أعظم "الأنوات"، والذين تخلَّدتْ أسماؤهم، يبقى خلودهم مرهوناً ببقاء الإنسان فقط، لأنهم أساساً أصدقاء وظيفيون للطبيعة ليس إلا، حيث إنهم لم ينجحوا إلا بإطالة أعمار أسمائهم أكثر، بينما كانوا يدورون في فلك تمجيد أناهم الخاصة.

&باحث سوري في علم النفس التحليلي.