إذا عشت في السويد ستدرك أن لا مكان للصدفة في هذا البلد، كل شيء مخطط بدءاً من ميزانية الخضروات، العطلات السنوية ووجهاتها، جعل السويد بلدا خاليا من التدخين، زيادة استهلاك العلكة وإنقاص عدد اللاجئين...
وكدارس للصحافة في السويد ستكتشف بسهولة حجم انتهاكات أخلاقيات المهنة في الإعلام السويدي في أعرق الصحف السويدية في القضايا المتعلقة باللاجئين، وفي بلدٍ شديد الصرامة في البناء النظري لقوانين الإعلام والميثاق الأخلاقي، لا يمكن أن يحدث هذا اعتباطاً. إنه انتهاك ممنهج لا يواجه بأي احتجاجات أو اعتراضات من الجمعيات والروابط الصحفية التي تدافع عن حقوق الفيلة المهددة بالانقراض في أفريقيا، وتتبنى قضية الاحتباس الحراري في العالم، للدرجة التي تعتقد فيها إنك ستموت بعد قليل من ارتفاع درجات الحرارة، في بلدٍ يقضي فترات طويلة من سنته الطويلة تحت الصفر.
حسناً ما علاقة ذلك بجائزة نوبل للآداب، التي تمنحها الأكاديمية السويدية، وتعتبر أرفع الجوائز الأدبية في الكرة الأرضية، وهي التي أنشأها ألفرد نوبل تكفيراً عن ذنبه باختراع الديناميت الذي ما زال يحصد ألاف الأرواح سنوياً في بقاع العالم.
ربما لم يهتم كثيرون أن جائزة نوبل حجبت العام الماضي، وتم ترحيل منحها عن تلك السنة إلى هذا العام، بسبب فضيحة هزت أركان الأكاديمية السويدية تتعلق باتهامات اغتصاب وجهت إلى المصور السويدي الفرنسي جان كلود أرنو، صدر حكم بإدانته لاحقاً، وهو متزوج من عضو في الأكاديمية أصبحت عضو سابق بعد استقالتها إثر الفضيحة. ويرتبط المتهم الذي أصبح مداناً بعلاقات شخصية ومهنية مع أعضاء آخرين، بل هناك اتهامات بعلاقات مالية مع الأكاديمية ذاتها، ووجهت له أيضاً اتهامات بتسريب أسماء الفائزين بجائزة نوبل الآداب، وهو ما أدى إلى استقالة رئيسة الأكاديمية وأربعة أعضاء آخرين إضافة لزوجته، فتم ترحيل جائزة العام الماضي لتمنح هذا العام، حيث حصلت عليها عن عام 2018 الكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك، بينما منحت جائزة العام 2019 للكاتب النمساوي بيتر هاندكه.
الغاية من إعادة هذه السردية مسألتين، الأولى، القول أن الأكاديمية السويدية مانحة الجائزة ليست محصنة عن الفساد الفاقع، وهو فساد يتعلق بالأخلاقيات العالمية المستقرة لهكذا مؤسسات، والثانية أن فضيحة بهذا الحجم كشفتها شبكات التواصل الاجتماعية في إطار حملة "مي تو" العالمية، وليس الإعلام السويدي المتكتم على كل ما من شأنه هز صورة البلاد، في إداء يذكر بإعلام النظم الشمولية.
المؤشر الثاني الذي يمكن ربطه بجائزة نوبل للآداب هو نتائج الانتخابات البرلمانية في السويد لعام 2018 التي أعطت حزب ديموقراطيو السويد اليميني المتطرف المعادي للأجانب نسبة 17.6 ٪ حيث حل ثالثا بفارق ضئيل عن حزب المحافظين غير المرحب بالأجانب، وبإضافة الحزب الديموقراطي المسيحي، تشكلت كتلة برلمانية يمينية تمتلك عدد مقاعد أكبر من تحالف "خضر-حمر" الذي يضم أحزاب الاشتراكي الديموقراطي، اليسار والبيئة، ليصبح حزبي الوسط والليبرالي هم بيضة القبان في حسم تشكيل الحكومة.
إذا تعكس الانتخابات الأخيرة مناخاً عاماً في السويد أصبح معادياً للاجئين والأجانب عموماً، والأكاديمية السويدية جزءاً من هذا المناخ العام، فأعضاؤها جزء من المجتمع السويدي وليسوا قادمين من كوكب المريخ. إضافة لذلك، هناك بحث أكاديمي على الأقل، يربط بين صعود العنصرية في السويد في السنوات الأخيرة والنخبة الإعلامية والفكرية السويدية، فبعكس أحزاب أوروبية يمينية، حزب ديموقراطيو السويد اليميني المعادي للأجانب، ذو الطروحات العنصرية هو حزب النخبة الفكرية السويدية وليس حزب العوام الشعبويون.
على هذه الخلفية يمكن فهم وتفسير أسباب منح جائزة نوبل للآداب لكاتب نمساوي كان صديقاً لمجرم الحرب سلوبودان ميلوسيفيتش، وخطيبا مفوها في جنازته، ومنكرا لمجزرة سريبرينيتسا بالغة الوضوح والتوثيق، ومتمنياً لو كان راهباً أرثوذكسيا صربياً يحارب ضد كوسوفو.
لا أريد الخوض في هذا المقال في "مآثر" الكاتب المشينة، ولا في جدل منحه نوبل الذي لخصته لقارئ العربية بعناية الكاتبة أمل عريضة في مقالها المعنون إلى متى يستمر السطو على جائزة نوبل؟ (إيلاف، 28|10|2019). لكني ككاتب يعيش في السويد ويحمل جنسيتها سأحاول تفسير هذا المنح.
فمن وجهة نظري، كان منح نوبل للآداب لصديق مجرمي حرب، أدانتهم محاكم دولية، ومبرر أفعالهم، ومنكر مذابحهم هو قرار ممنهج، لم يأت صدفة، فالأكاديمية السويدية تعرف بدقة شديدة، أكثر من كل ناقديها، وأكثر من كل ناقدي الكاتب النمساوي، كل التفاصيل المتعلقة بهذا الكاتب، ليس بكتبه ومقالاته ومقابلاته وآرائه، بل كل تفاصيل حياته الشخصية. كما أنها تعي مسبقا الجدل الذي سيثيره قراراها، ومع ذلك منحته تلك الجائزة الرفيعة التي تحظى بتغطية إعلامية عالمية هائلة!

إذاً على خلفية صعود العنصرية في السويد التي قادتها النخبة الفكرية السويدية وإعلامها، يأتي هذا المنح مكافأة للتيار العنصري واليميني في السويد أولاً وفي أوروبا ثانيا والعالم ثالثا، ودفعة له للصعود درجات أعلى في خطابه طالما أصبح ذلك ليس مداناً، بل مكافأً من أرفع الجوائز العالمية.

فقد جعلت الأكاديمية السويدية مسألة الابادة الجماعية الموثقة والمثبتة بحكم محكمة دولية، مجرد وجهة نظر قابلة للأخذ والرد والنقاش. إنه دعم لصعود الفاشيات مرة أخرى، ليصبح اليمين الأوربي والعالمي المتطرف مجرد أحزاب تمارس اللعبة الديموقراطية، لا بل انسانية أيضا فهي لا تجرؤ على تبرير الإبادة، أمام مكافأة مروجي الإبادة وجرائم الحرب ومبرريها.
خططت الأكاديمية السويدية عبر نوبل عمداً وبعناية، فلا شيء يحدث صدفة في السويد، لإعادة طرح قضية الإبادة للنقاش والجدل مرة أخرى، وإعادتها من مربع عليه علامة "حسم" لصالح حقوق الانسان وحقوق الشعوب الضعيفة، إلى مجرد جدل بين وجهات نظر مختلفة.
وفي مناخ كهذا، أسندت الأكاديمية السويدية قرارها بذرائع مهنية واهية، ففي الأدب تظل المعايير مطاطة وتخضع لوجهات نظر ومدارس نقدية وهو ما يعفيها من المساءلة القانونية. لكن قرار المنح، تحليلا، ليس متعلقاً بقيمة ما كتبه بيتر هاندكه، فهناك كثيرون حول العالم كتبوا ما هو أكثر قيمة وسمواً مما كتبه، بل للمساهمة في غسل الفاشيات الإجرامية، وإطلاق موجة جديدة من العنصرية ضد اللاجئين أو السويديين من أصول لاجئة الذي يشكل البوسنيون نسبة جيدة منهم.