بقلم أسامة سليمان

السؤال الذي يتعثر فيه من يلج عوالم رواية تاريخية أو لنقل رواية تتحرك في فضاءات التاريخ هو: ما الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال؟ يشخص هذا السؤال عند كل تطور في الأحداث ويكمن في تفاصيل كل قفزة جمالية ، لكن الدكتور عمر فضل الله في رائعتيه " ترجمان الملك " - دار نهضة مصر ٢٠١٣ و" أنفاس صليحة" مدارات ٢٠١٧ ( الحائزة على كتارا ٢٠١٨؛ لايعمل فقط على تجريد قارئه من هذا السؤال وإنما يذهب أبعد من ذلك فما أن تدخل سوبا العامرة ( في ترجمان الملك) والمتهاوية في ( أنفاس صليحة ) حتى تندمج في حيوات أبطال الروايتين غير آبه بمدى الصحة التاريخية للعلاقة بين الترجمان الراوي وبين الزبير بن العوام في (ترجمان الملك)والحقيقة التاريخية ل( صليحة ) نفسها في ( أنفاس صليحة) حيث تمكن الكاتب وبمهارة من تجريد الحقائق التاريخية من سطوتها ، والوثيقة من صلفها منتصراً للتخييل في سبيل بناء روايته .
وإن كانت سوبا هي مسرح الأحداث لكامل أحداث ( الترجمان) وأغلب ( الأنفاس) فإن الزمن هو الفارق إذ يفصل بين الروايتين ما لايقل عن الخمسمائة عام ، بين سوبا القوية المزدهرة في عهد النجاشي وسوبا التي تتهاوى في (الأنفاس).
وبينما تعتمد الترجمان أسلوباً سردياً أقرب إلى التقليدي تتابع فيه الأحداث طبقاً لتسلسلها الزماني الواقعي ، فقد توسلت أنفاس صليحة طرائق مختلفة في السرد ؛ بل هي جديدة يسافر فيها الراوي من خلال ( أنفاس جدته صليحة / البطلة) إلى أزمان متعددة، والبطلة هي التي تسمع حكايتها من حفيدها الذي لم يشهدها وقد وقعت قبل مولده، وفي رأيي أن هذه مغامرة سردية متجاوزة.
ونحن إزاء هجرتين - على مستوى الأحداث- في زمنين مختلفين إلى سوبا حاضرة علوة المسيحية ؛ الأولى : هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة؛ وهنا نعود لنؤكد أن الكاتب لم يدع مجالاً للتساؤل حول محط الهجرة وما إذا كان لسوبا أو غيرها فقد نجح في سوقنا إلى مغامرته الجمالية التي يتضاءل أمامها السؤال ، والثانية: هجرة صليحة من المغرب ، واللافت أن الكاتب في هذه الأخيرة أوغل في التفاصيل والحياة في المغرب قبل الهجرة ، مستخدماً لهجة مغاربية في حواراته وإن لم يكثر منها فإنها أدت مقاصدها ، كما أورد تفاصيل رحلات الصحراء بدقة.
وظنّي - وليس كل الظن إثماً- أن الكاتب عمد إلى مستوى من اللغة أسميه اللغة الفارهة ذات البناء المعماري الشاهق الذي لايعمد إلى الجنوح وكثرة التجاوزات ليتناسب مع فخامة التاريخ والأحداث التي يرويها.
وبالنظر إلى الشخصيات نجد أن شخصيات ( أنفاس صليحة) على كثرتها فإنها تؤدي أدوراً مساندة ثم لاتلبث أن تختفي حتى الجد الذي تدور الأحداث بحثاً عنه يختفي منذ الصفحات الأولى ليظهر في النهاية ، وهذا يكاد ينطبق على شخصية رئيسية أخرى وهي دوانة ( عجوبة) فعلى الرغم من خطورة دورها في الرواية وفي خراب سوبا فإنها لم تشغل مساحة واسعة واستعاض الكاتب عن ذلك بتحريك الأحداث بسرعة منذ ظهورها حتى مغادرتها سوبا المحطمة ، في مقابل ذلك تعج ( ترجمان الملك ) بعدد كبير من الشخصيات الرئيسية ، وهنا أحب التوقف قليلاً عند شخصية الزبير بن العوام التي كانت أكثر شخصيات الصحابة المهاجرين بروزاً ما أعتقده دليلاً على أن الكاتب تخلص من سطوة الحدث لصالح خلق شخصياته بما يخدم عمله .
وعلى الرغم من أن العملين تفصل بينهما فترة معتبرة تاريخياً، والأغلب أن فضل الله أنتجهما في أزمان متباعدة إلا أن هناك سمات مشتركة وخيوطاً غير مرئية تربط بينهما غير المكان سوبا والحدث الرئيسي الهجرة في كليهما ؛ وأعني الشخصيات أو سماتها فهناك الكنيسة التي يمكننا تصنيفها من ضمن شخصيات العمل بما تحويه من مؤثرين في صنع القرار والدور التخريبي الذي قامت به في العملين ، كذلك دوانة/عجوبة في الأنفاس والساحرة سيمونة في الترجمان، ولا أظن أننا سنتعسف إذا قارنا بين هاتين الطفلتين صليحة في الأنفاس وسنجاتا في الترجمان : "وانطلقت تجري نحو بيتها، وكانت قد ربطت شعرها ضفيرتين، وكانتا تتقلبان بالتبادل بين كتفيها الأيمن والأيسر، وهي تجري تهز رأسها يميناً وشمالاً ، وترفع عقبيها بتكلف فيضربان على ردفيها برفق وهي تجري" ( ترجمان الملك ٤٣-٤٤) و &"تركضين في جنون صوب ذراعيه المشرعتين لاحتضانك، فردة السباط تطير منفلتة من قدمك اليمنى وتتقلب في الهواء قبل أن تسقط على رمل الساحة، بينما تبقى اليسرى متشبثة برجلك تأبى أن تفارقها، لتجعلك تتعثرين فتسقطين ويمتليء فمك بالرمل لكنك لاتأبهين" ( أنفاس صليحة ٤٣).

كاتب سوداني
&