بقلم د. خالد السلطاني


قد لا أكون وحدي "مغرماً" بالادبيات التى تنزع نحو تحديد "المفاهيم" المعمارية، والتعريف بمصطلحاتها، وحصرها وتسجيلها في مدونات، يمكن للمرء ان يرجع لها بسهولة، ابتغاءً لايضاح معانيها وتيسير مداليل مضامينها. فثمة قراء كثر، كما اعرف، يبادلونني هذا "الغرام"، وهذا الاهتمام. كما اجد، شخصيا، متعة كبيرة واشعر بإبتهاج عميق في مطالعة وقراءة مثل تلك المدونات. ودائما كنت اتساءل مع نفسي، هل ان باعث "غرامي" ذلك مؤداه طبيعة عملي كـ "معلم"، كرست كل سنين حياتي المهنية (وما بعدها..ايضاً!) في التدريس المعماري، ما "صاغ" نوعية اهتماماتي المعرفية وطبعها بطابع خاص؟ هل يمكن ان يكون حافز ذلك وسببه سعيّ المستمر وراء نشر الثقافة المعمارية في اوساط مجتمعية واسعة، مما يستوجب ان استعين بمثل تلك المدونات لجهة تحديد دلالات المعاني والمفاهيم؟ وايا يكن الدافع، فاني اميل الى تلك "الكتابات" والى ما شابهها، واجد لذة حقيقية في قراءتها والاطلاع على جديدها، لجهة التعلم منها، واكتساب معان جديدة فيها. ويبدو ان هذة الحالة، حالة نشر مواد معنيّة بتحديد المفاهيم هي حالة منتشرة، بل واسعة الانتشار في اوساط القراء والمتابعين للشأن الثقافي والمعرفي. وما "ظاهرة" اتساع نشر كتب معيّنة ومدونات تتعاطي مع هذا الشأن تحديدا في الوقت الحاضر، سوى انعكاس لذلك النزوع المعرفي الذي نراه اليوم. وكتاب "الطرز المعمارية: دليل بصري" Architectural Styles A Visual Guide لمؤلفه "اوين هوبكنس" Owen Hopkins، الذي نعرض له الان في هذة المقالة، سوى احد المنشورات العديدة والرائجة في الوسط المهني والمعرفي الآن.
و"اوين هوبكنس"، مؤلف الكتاب، هو كاتب ومؤرخ معماري يسكن في لندن، وهو كبير امناء معارض متحف "السير جون سوان"، وكان سابقا امين برنامج العمارة في الاكاديمية الملكية للفنون. وهو بالاضافة الى تأليفه لكتاب "الطرز المعمارية" (2014) فقد إصدر كتب اخرى تتناول الشأن المعماري، بضمنها كتاب "العمارة المقروءة: معجم مرئي" (2012)، وكتاب "اربع رؤى في مستقبل الاسكان" (2015)، وكتاب "مافريكس: كسر قالب العمارة البريطانية" (2016)، وغير ذلك من الكتب. كما انه كاتب دائم في دوريات معمارية معروفة.

يتناول كتاب "الطرز المعمارية"، الذي جاء بـ (240) صفحة من القطع المتوسط، شرح وتفسير تسعة طُرُزٌ معمارية، مع الاشارة الى (51) عنوان ثانوي فيها، هي، في الواقع، "فروع" لتلك الطرز الرئيسية. وقد نظم المؤلف ظهور تلك الطرز بتسلسل تاريخي، بدأها من الكلاسيكية الاغريقية وختمها عند مابعد الحداثة. والملاحظ ان نماذج تلك الطرز اوحتى فروعها الثانوية، التى اوردها مؤلف الكتاب، تخلو تماما من ذكر اي امثلة معمارية مستلة من خارج القارة الاوربية، اذ اتت جميعها من امثلة مأخوذة من المشهد الاوربي، وهو أمر، نراه، بمثابة خللا شديداً اعترى مضمون الكتاب، وارتقي، كما نظن، ليكون نقيصة بنيوية في نصه المكتوب. وهو بهذا المعنى يذكرنا بتداعيات اطروحة "المركزية الاوربية"، التى أكل الدهر عليها، الآن، وشرب!
لا يكتفي المؤلف في ذكر المواضيع الرئيسية لكتابه، وانما يسعى لتبيان فروع تلك المواضيع، كما اشرنا قبل قليل. وهو في اشارته لها يحرص على تثبيت فوارق اسلوبية خاصة بها، من وجة نظره بالطبع، ما يمنح القارئ تصورا كاملا عن قيمة تلك الموضوعة المعمارية وتجلياتها في صيغ اسلوبية متعددة. فعلى سبيل المثال، عندما يتحدث المؤلف عن "الطراز الغوطي" في العصور الوسطى، كموضوع رئيسي من مواضيع الطرز المعمارية، فانه يتناول اساليب الطراز في "فروعه" المتعددة ايضاً. فيذكر هنا مفاهيم "الغوطي المبكر"، و"الغوطي الناضج"، و"الغوطي المتأخر" وكذلك يتناول "الغوطي الفينيسي" (نسبة الى مدينة فينيسيا/ البندقية)، و"الغوطي الكنسي <الإكليركي> Ecclesiastical" واخيرا "غوطي القلاع والحصون". اما فيما يخص "الطراز التوليفي (الانتقائي) Eclecticism"، كمثال آخر لنوعية الطراز المعماري الرئيسي، فيشير الى فروعه التى يثبتها وهي "الاحياء الغوطي" و "النزعة الاستشراقية" و "البوزار" Beaux-Arts، و"الفنون والحرف" و"الار نوفو" Art Nouveau، و"الار ديكو".
وعند كل طراز، من الطرز الواردة في الكتاب، يذكر المؤلف خصائص هذا الطراز او ذاك، كما يشير الى نقاط اختلافه عن ما سبقه من طراز، ويسرد بعضا من مراحل تطوره ونضوجه والعوامل التى اسهمت في اختفائه. وكل ذلك مثبت في نص مختزل وواضح. وعند الحديث عن "فروع" ذلك الطراز، فانه يحدد المناطق الجغرافية التى شاع فيها ذلك "الفرع"، مع تثبيت الحقبة الزمنية له، بالاضافة الى التنويه لملامح تنويعاته الاساسية. فمثلا فيما يخص فرع "النزعة الاستشراقية" عند الطراز التوليفي، يذكر المؤلف ان مناطق انتشاره هي اوربا والولايات المتحدة، والفترة هي: منتصف القرن الثامن عشر الى بدايات القرن العشرين. وعن تنويعاته يسجل المؤلف ما يلي: الطابع الهندي، المصري القديم، المغربي الصيني والامبراطوري" وفيما يتعلق بفرع "الآر نوفو" من الطراز "التوليفي" نفسه، نقرأ عن مناطق انتشاره: اوربا وخصوصا في بروكسل، وباريس، وفيينا، والفترة الزمنية: نهاية القرن التاسع عشر الى بداية القرن العشرين، والملامح الاساسية: الاشكال العضوية، تنطيق الحداثة، الرمزية، المواد المتناقضة، ضد التاريخانية، وضد الزخرفة والتزيين. وعن فرع "الآر ديكو"، فمناطقه: الولايات المتحدة واوربا، والحقبة الزمنية: العشرينات والثلاثينات. والخصائص: السرعة والحركة، البريق والابهار، الخطوط المستقيمة، الغرائبية، الكلاسيكية المتبقية، والاشكال الهندسية.
يضع "اوين هوبكنس" فرع "التكنولوجيا الفائقة (المتقدمة)" او ما يعرف بـ "الهاي- تك" High- Tech، ضمن فروع "الحداثة" Modernism. في حين، يجد كثر من الدارسيين بان هذا الفرع من المقاربات المعمارية، ينتمي الى طراز "مابعد الحداثة" Post-Modernism . ويرى المؤلف بان "طراز" ما بعد الحداثة، ما هو الا <فرع> من "طراز" آخر، يدعوه بـ "أعقاب الحداثة" او "إثر الحداثة وبعدها" After Modernism؛ والذي في اعتقاده يتجلى في تنويعات اسلوبية متعددة يشير اليها المؤلف في كتابه وهي: "الاقليمية"، او "المناطقية" Regionalism، و"ما بعد الحداثة"، وفرع "التفكيكية"، وفرع "العمارة البيئية <الايكولوجيا>" Eco- Architecture، وفرع "العقلانية التعبيرية" Expressive- Rationalism وفرع "العمارة السياقية" Contextualism. ويجد المؤلف خصائص الفرع الاخير "العمارة السياقية" تنحصر في<الشاعرية>، وفي <الحضرية الجديدة>، وفي <العقلانية الجديدة>، وكذلك في <الطابع العالمي الجديد>، وفي <اعادة التأويل>، وفي <التصفيف او الطبقات> Layering. وفيما يخص الامكنة والانتشار، فيشير المؤلف الى العالم باجمعه ولاسيما اوربا، اما المرحلة فيحددها من منتصف الستينات ولحين الوقت الحاضر.
اما طراز "الحداثة" نفسه، فانه وفقا للمؤلف، بدأ عندما كانت هناك، في القرن التاسع عشر، نقاشات عديدة، عن كيفية عكس مخرجات الثورة الصناعية على المنتج المعماري، والاهم كيف يمكن ان تكون استجابات الناس للمتغيرات الحاصلة حولهم. كما يشير الى قيمة لوكوربوزيه وكتاباته التى كرست اسلوب الحداثة، ذاكرا ايضا مفهوم "الحداثة الدولية"، كتعبير لما حصل من تشابك وتلازم وتشارك في الرؤى والممارسات التى شهدها العالم بدءأ من نهايات القرن التاسع عشر. وبالطبع، ينوه مؤلف الكتاب، الى "فروع" هذا الطراز الاكثر انتشارا والاعمق تأثيرا في عالم العمارة. وهذة الفروع هي: "مدرسة شيكاغو" و"التعبيرية" ," الموضوعية الجديدة" New Objectivity ، و"التيار الدولي"، و"الوظيفية"، و"االانشائية <الكونستروكتفيزم>" Constructivism، و"الاستجابات الشمولية" Totalitarian Reactions ، و"الجوهرية او الماهية" Essentialism ، و"البروتاليزم" و" الميتابوليزم" Metabolism، و"الهاي- تك". وقد تكون بعض "فروع" طراز "الحداثة" مألوفة للكثيرين، لكن ما يورده الكاتب من اساليب مفاهيمية آخرى ضمن رؤاه عن فروع طراز الحداثة، يثير كثيرا من النقاش حولها، وحول صدقية "حدودها" وفوارقها عن مثيلاتها الآخرى. فمثلا فرع "الجوهرية او الماهية"، الذي "يدخل" المؤلف اعمال "فرنك لويد رايت" ونتاج "لويس كان" تحت هذا المفهوم، مبينا بان مفهوم Essentialism، الذي يقصده يتضمن خصائص عديدة منها "الروح"، "والعضوية"، والتاريخ" ، و"التشاركية" ، Communality ، و"التجريد"، و"الرسمانية" Monumentality ؛ وكل تلك السمـات يمكن ان تكون ضمن مقاربة "العضوية’" Organic ، التى عًرف بها نتاج "رايت" وانصاره، على نطاق واسع في ادبيات التنظير المعماري.
جدير بالذكر ان المؤلف اولى اهمية خاصة الى "القسم التصويري" في كتابه، وهو امر متوقع وضروري لكتاب يبحث في الشأن المعماري. فجاء كتابه غنيا باللوحات التصويرية العديدة التى تشير الى نماذج لامثلة معمارية مبنية بمدن مختلفة في اوربا. اذ بدون "الصورة"، وحضورها اللافت، كان من الصعب بمكان اعطاء انطباع تام عن معني الطراز المعماري ومغزى فروعه المتعددة.
ويبقى كتاب "اوين هوبكنس"، يُعد واحداً من الكتب المضافة الى "سردية" الطرز والاساليب المعمارية، ومحاولة فهمها والتعاطي معها "كظواهر" مهنية ومعرفية، يمكن بها ادراك ما تم انجازه في المشهد المعماري وخطابه التنظيري. انه كتاب اراه مهما ومفيداً يقدم عطاءَ معرفيا ليس فقط للمهنيين ولكن للكثير من القراء المهتمين في العمارة وتشعباتها الاسلوبية.

معمار وأكاديمي