مراجعة: ريهام محمد أبو خضرة

صدرت عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع في عمان الطبعة الأولى من مذكرات رجل القانون والخبير النفطي الدكتور محمد خليل خليل التي حملت عنوان { محطات ومواقف على دروب النضال.....من ذكريات الدكتور محمد خليل خليل ....مذكرات لم تكتمل } والتي جاءت في مجلدين كبيرين على مساحة 2000 صفحة بطباعة أنيقة، والتي يقدم فيها الدكتور محمد خليل لمحات مهمة عن محطات حياته على مدى تسعة عقود.
تجارب ومواقف، انهماك في الأفكار، مبادئ وأخلاق، صراحة لا متناهية ، تفاصيل جديرة وصادقة ، فراغات لم تكتمل، أسئلة وتساؤلات، تجسيد للحق والعدل ، أدوار متواضعة ، عبر ودروس ، تمخضات للأفكار ، تبلور وتأصل في الوجدان ، كان ذلك كله عبارة عن وجبة دسمة التهمها كاتبنا ودكتورنا محمد خليل خليل ، الذي هلت تباشير ولادته في {14-12-1925} في قرية الطيبة ، من قضاء طولكرم ، في أواسط فلسطين ، وذلك من أبوين عربيين مسلمين تجمع بينهما درجة من القرابة ، كان كاتبنا أصغر الأنجال الذكور سنا " آخر العنقود" ، كان والده الشيخ خليل إبراهيم جبارة مولعاً باصطحابه معه في العديد من التحركات ، فلابد أنه كان يجد متعة شخصية وراحة نفسية في اصطحاب الطفل الأصغر من العائلة معه ، لم تكن عائلة كاتبنا على أي نحوً وبأي مقياس إقطاعية ، أو في أي وضع يمكن اعتباره قريباً من ذلك الوصف ، فهو ينتمي لعائلة عربية مكافحة حرصت على تعليم أبنائها رغم شظف العيش وقسوة الحياة ، فالقسم الأكبر من عائلته يعملون إما في سلك التعليم أو في سلك القضاء الشرعي ، عائلته تنحدر من قبيلة الجبارات، وهي التي كان مركزها الأول والأهم في بئر السبع ، ومنذ نعومة أظافره وعلى صغر سنه آنذاك ، كانت إحدى أمنيات الوالد العزيزة أن يرى ابنه تلميذاً نظامياً منتظماً ومتأبطا كراسته ودفاتره وأقلامه ذهاباً وإياباً كل يوم من وإلى المدرسة ، فمنذ طفولة الكاتب وعبر فترة زمنية ممتدة بمختلف المدارس والمعاهد التدريسية والمرحلة الإبتدائية ، ومن ثم على الصعيد الثانوي ، وبعد كل ذلك فترة التحصيل الجامعي إبتداءاً في بريطانيا ولاحقاً في هولندا ، على امتداد عمله المهني المكرس طوال خمسة وثلاثين عاماً ، بعد شهادة الدكتوراه عام {1952/1987} ، وبكل ما تطلب هذه الفترة من أنشطة طلابية وعربية واجتماعية وأنشطة رياضية ملحوظة ، وملامسته للسياسة والسياسيين ، ومشاعر متأججة في مسيرته الشخصية والمهنية ، ومقابلته بكل شفافية بفئات بشرية نرجسية غير سوية ، ونقل ثمار التجارب وعلى دروب بين المواجهة والمعاناة ، والصمود والنضال، لقد كان فاعلا مؤثراً لا عابراً عادي ، كان له مكان وموقع محدد تحت الشمس ، فيرى كاتبنا أن هذا هو موقعه الطبيعي ، فكان لكاتبنا أدوار فعالة دفاعاً عن قضايا العرب عامة وقضية فلسطين خاصة، قد جسدها في مذكراته إكراما للأمة التليدة والمخزونة والمظلومة في هذا الوقت كما في كل وقت.
لقد كان صادقاً مع نفسه بإعتناقه فعلا كل تلك المبادئ والطروحات السامية ، لقد حاز على فرص منشودة طرحت نفسها أمامه شخصيا في مناسبات لم تكن قد خطرت على باله مطلقا فلقد كان كاتبنا رجل قانون وخبير نفطي، حيث أنه عمل مستشاراً قانونيا في الديوان الملكي الليبي مطلع خمسينيات القرن الماضي مع الملك إدريس سنوسي، كما عمل بعد ذلك مستشاراً قانونياً لشركات النفط في قطر والعراق والجزائر ، وبين هذه الوظيفة أو تلك افتتح مكتباً استشارياً قانونياً في عمان ، وبعد ذلك افتتح مكتبا استشارياً للنفط في بيروت ثم عاد لدراسته في فقه القانون في الجامعة الأمريكية في بيروت .
كانت صفحات حياته مخملية ، مرحبة ومتقلبة ورافضة متمنعة ، وربما محاذرة أو محايدة غير متورطة ، حيث قام بواجبه كاملا بدراسة جدية وتفكير صائب ، صفحات حياته هي بالفعل مثيرة للدهشة وتصلح لأن تكون مضرب للأمثال ، فلقد حاول كاتبنا جاهدا أن يفهم ويستوعب محتوى ما قرأ وعاش ، لقد كان الأمر بالفعل لديه غاية في الصعوبة ، كما لو كاد يقترب من القناعة شبه التامة بأن هنالك إمكانية الالتقاء بين الفكر والعمل.
فروايته الشخصية للأحداث تمحورت حول ما كان له شخصياً من مواقف وآراء ظلت واضحة وثابتة في مخيلته إما كلاعب أساسي أو كشاهد عيان ، ففي المجلد الأول من مذكراته يتناول على نحو حصري أيامه وبعض جوانب حياته الشخصية والدراسية بالكلية العربية في القدس،وأيامه الليبية في أول عمل رسمي اضطلع به في مسيرته المهنية ، فلم يوفر جهدا ولم يترك سبيلا إلا وطرقه لغرض إرضاء الضمير ، وبالرغم من أنه درس لفترة من الوقت في الجامعة الأمريكية في بيروت ، إلا أننا نرى كثيرا من الملاحظات حول ما دور هذه الجامعة وسياستها ، وهو بالتأكيد موقف ناجم عن قناعته بالدور الأمريكي الداعمي للكيان الصهيوني في احتلال أرض فلسطين وتشريد شعبها ، فاختصر على نفسه وغادر إلى هولندا ليحصل من هناك على درجة الدكتوراة في القانون ، ويذكر لنا كاتبنا سبب ذلك بأن الجامعة عينت له مشرفا على رسالته كان صهيونيا منحازا بكل قوة لدولة الإحتلال على حساب قضية فلسطين فباءت العلاقة بينهما بالفشل .
لقد كان مستعدا لبذل أقصى ما يستطيع من أجل دعم القضية الفلسطينية ،وتقديم كل ما هو ممكن لغرض تقوية وحماية قدرتها ، سلاحا وذخائرا ومعلومات إستخباراتية وسواها .
ظل كاتبنا على مدار صفحات مذكراته يسمي نكبة فلسطين عام 1948 بالنكبة الأولى ، ربما لقناعته بأن التاريخ الفلسطيني الحديث وبعد عام 1948 حمل نكبات عديدة من أبرزها :
{ عدوان / يونيو / حزيران 1967} واحتلال باقي فلسطين وبعض الأراضي العربية الأخرى.
وكان لكاتبنا تجربتين غنيتين في آخر ست سنوات من العمل المهني وأجدر بنا أن نذكرهم ، التجربة الأولى كانت بتعيينه كوكيلا رسميا معتمدا للمؤسسة العامة القطرية للبترول ، وأما التجربة الثانية تمثلت في اختياره من قبل مجلس وزراء منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول " أوابيك" كواحد من تسعة قضاة غير متفرغين من تسعة أقطار عربية مختلفة .
وفي كل التوترات والأجواء وبدون أي تخوف أو توجس انهمك كاتبنا في الإستمرار بكتابة مذكراته بمجلدها الثاني الذي ذكر به مكتبه الاستشاري في بيروت الذي طفق يقارع فكرته جديا مع الشيخ عبد الله الطريقي، وتحدياته لشؤون البترول وتجربته بالتملك في قطر،ودفاعه عن قضية فلسطين ، ولقائه بشخصيات فذة لم تكن وليدة أية صدفة عرضية أو ما شابه ، حيث كان يلتقي الملوك والأمراء والرؤساء ليس بهدف الإستماع أو المجاملة بل كان الهدف النصح والإستشارة الدقيقة من شخص يعتبر نفسه مؤتمنا على وظيفته التي اكتشف من خلالها أسرار كثيرة ، كشخصية عبد الحميد شومان والدكتور محمد مصدق ، وعمر فائق شنيب وغيرهم الكثير ، فمشوار حياته مشوارا نضاليا بأسرار وأحداث وتفاصيل صالحة للتداول في هذا العصر.
وبكل حماس وجهوزية وفي ما يتعلق بالذات تجد مذكراته قريبة إلى القلب وتتغلغل في أعماق جسدك وتلامسه بدهشة ،كالأمطار التي تهطل بغزارة وتشعر بوطأتها على جسدك .
وفي ضوء كل ما سلف من تجارب كاتبنا ، البعض منها كان إيجابيا مثمراً والبعض الآخر كان سلبياً وقاحلاً عقيماً إلا أنه إستطاع التغلب على المصاعب والعراقيل ، والتعاطي مع الأساليب والقيم .
لم تكن هذه المذكرات لمجرد ترف فكري أو إجتماعي ، ولم تكن محطة لتعبئة وقت الفراغ الذي عاشه المؤلف ، بل هي شاهداً على عصر فلسطيني عربي اختلطت فيه الأوراق وغلبت الرؤية الحقيقية للأحداث والوقائع والمؤامرات .
ومصداقية المذكرات تكمن بحجم الوثائق التي احتوتها ، والتي أشار إليها المؤلف وكذلك الأسماء الواردة فيها ، سواء من رحل منهم أو من يزل على قيد الحياة .
لقد كان الكاتب جميل بكل ما بالكلمة من تعبيرات وتصورات ، لقد كان بالفعل مؤمنا وفي قرارة نفسه ملتزما ، بكل ما قد ذكره من مبادئ ومفاهيم وطروحات أخلاقية ووطنية وتعبيرات وصياغات ولكن باغته المرض وثقل على جسده ، لكنه لم ينل من عقله وذاكرته الحديدية.
فلكل من هو عربي ، وبرحابة الفضاء العربي ، وبأواصر العروبة التي تجمعنا ، وبلسان الضاد ونور العربية كما في كل جيل وعمر في المستقبل القريب والمستقبل البعيد وفي جل ما دبجه كاتبنا في كتابه { مذكرات لم تكتمل } تكحلت عيوننا بذات التراب معا ، وستتكحل عيون من يقرأهذا الكتاب ، وسيجد نورا يشع من صفحاته ، أينما نظر وبأي سطر قد بدأ.
فرحل كاتبنا رحمة الله عليه قبل أن يبصر نور كتابه ، وبحب منه قد قدم هذا الكتاب هدية لزوجته ذات الاسم الجميل ورفيقة دربه " ردينة "،وكان رحيله فاجعة لأولاده فانفطرت قلوبهم على فراقه،فقد كان سندهم ومرجعهم وآمانهم والظل الذي يستظلون به ، فهو لم يعد معهم جسداً ، لكنه باق معهم في قلوبهم وعقولهم ووجدانهم.
وعلاوة على ذلك فأنا أنصح بالإستفادة من محتوى الكتاب ومما حمل في ثناياه من تجارب وفوائد وايجابيات ووقائع في أكثر من زمان ومكان ومجال تحت مختلف الظروف ، ومن وجهة نظري فثمة عشرات الأمثلة التي ساقها كاتبنا من سيرته الشخصية والمهنية ،فالتي قد يساء فهمها، فيما لو تركها دون تفصيل أو توضيح .