"اذهب حيث تشاء وأذهب أنا حيث أشاء، فالحياة الآن قابلةٌ للتشكيل في شتَّى الصور" .


ربما تقرر الشاعرة هالة نهرا في قصيدتها " هكذا تشعلُ وردتين" هذه العبارة الشعرية الدالة، تقررها لابتكار حالاتها وأجواء نصوصها التي تشكلت برؤيتها في تقديم نصوصها بشكل طباعي سردي لا على شكل أسطر شعرية على الأغلب، كأنها تمزج ما بين عالمي الشعر والسرد، وهي طريقة باتت مألوفة في اللحظة الشعرية العربية الحداثية وما بعدها.
لكن لا يعنينا هنا الشكل قدر ما يعنينا ما تبوح به الكلمات وتومئ، من البحث عن الطرف الآخر، والتماهي معه، ليصبح الصوت واحدا، أو متعددا في واحد، هو صوت الأنا الشاعرة التي باتت في شعرية اليوم أكثر اكتنازا وكثافة وتنوعا، فهي " أنا" تحمل ضغوط العالم الموارة حيث لم يعد العالم بسيطا بأي حال من الأحوال، ولكنه عالم متسارع راكض درامي متصارع تُشحن اللحظة فيه بآلاف الأحداث والأخبار :
ردِّد معي: "أنا مدارك، دارك، سهولك الغريبة المعبدة بأعجوبةِ قهقهاتي، صخورك في الجرود والطريق الوعرة، أنا ازدحامك في حياتك، أنا مماتك..."./ ص.ص 16-17
ثم تقول:
اذهب كي ترجع كالأطفال الذين يحبون أن يلوّنوا كل يوم بيوتاً داخل دفاتر مدرسية
اذهب كي تهبط كجنود المظلات إلى حدائقي الخفية
إلى العاديّ في العاديّ
إلى اليوميّ في الدهريّ
إلى الرقة القاتلة ببداهة، إلى الخشونة المحيية كخبز نخالة القمح،
اذهب كي تلمس الكواكب المسترخية في مزاحي
اذهب كي تطأ جدية خرير الأنهار في يدي...
إما أن تكون أبداً بقرار أرعن أو لا تكون إطلاقاً
هكذا هي حقيقة الذي طار من الفرح حين غمزته الصدفة
فتحركت عقارب ساعته وحفر سماءه./ ص 17

المشهد مزدحم بالدلالات. لم تعد اللحظة القديمة هي نفسها اليوم، والشاعرة تتنقل من أجواء مشحونة إلى أجواء أخرى مشحونة مزدحمة، في مشاهد تجمع بين الكبير والمتناهي في الصغر، ما بين الكواكب ونخالة القمح، بين عقارب الساعة والدهريّ، السهول والجرود والطريق الوعرة، الرقة والخشونة، وخرير الأنهار والسماء. هكذا المشهد يتأدى في أفقه المفارق المتضاد الكبير الصغير معا. وهنا تتسلل رؤى سوريالية ربما، بسبب هذا التجاور الدلالي بين كلمات متباعدة ، فيما توسع من جهة ثانية من رحابة المشهد، ورحابة تلقي الكلمات في سياقاتها المتعددة.

تشكيل نسقي:

يتشكل ديوان:" الفرح عنوان الأبد " ( دار الفارابي، بيروت الطبعة الأولى 2019) من ( 32) قصيدة ، وهي قصائد تموجُ في فضاء متعدد رحب، لا يكتفي بإشراقات الرؤى الرومانسية التي تزين عادة رؤى الشاعرات في دواوينهن الأولى، لكن الشاعرة تشهر كلماتها في مواجهة قبح الواقع، والبحث عن نموذج آخر عبر التصوير عبر إماطة اللثام عن الكلمات المخبوءة المكتنزة بالدلالات . إنه تشكيل نسقي يتمظهر في قصد النصوص وقصد الشاعرة معا.
نجد ذلك في هذه النصوص العرمة بالمغايرة والمخالفة التي تستهلها بجملة من الشذرات التعريفية في نص بعنوان:" شرارات" وفيه تعرف الفن بالقول:" هو أن يأتيك الشجرُ عن طيب خاطر حين يتصحر البصر في العقل والقلب ويلبس الأفق الشجر " / ص 11

وفي نص:" نخب أول الأشياء" تبحث عن لحظة آنية مختلفة:" الآن أوقن بأن الأمور ستجري على ما يرام، بأنك مثلي يا فجرنا الغريب كثير ربما دفعة واحدة" / ص 13

إن الشاعرة تنسق نصوصها بشكل متتابع متشوف، راء، لأنها تفكر في المغاير دائما حتى في مخاطبة الآخر، كما في نصي :" يا ..." و" هكذا تشعل وردتين" .
وفي هذه النصوص تتوجه دائما بالخطاب إلى " أناها" تارة، وإلى الآخر تارة أخرى، وتوجيه الخطاب لا يتأدى بوصفه خطابا وجدانيا، أو كلاما عاطفيا يؤكد على يقينية الأشياء، ولكنه خطاب متمرد، رافض للمسلمات، ينطوي في أعماقه ومضامينه التعبيرية على أسئلة وهواجس، وعلى بنى عبارية تتحسس الأعمق، وتخاصم السطحي البسيط، وتنفر من العادي المألوف.
حيث تتسع حدقة الشعر لتبصر أكثر مجاوزة هذه الدعاوى التي ظللت قصيدة النثر لفترات وأغوتها بالانغماس في العابر والمؤقت، وفي التفاصيل البسيطة اليومية، وهي بكل حال تفاصيل عابرة لا تصمد كثيرا للرؤية الشعرية العميقة المكثفة، لنصغ للشاعرة تبوح :

"هَوِّنْ عليك؛ هَوِّنْ عليك وغضّ النظر عن كل ما يعكّر مزاجك وماء نهرك:
المعتقدات الراسخة، التقاليد الجامدة، الأفكار الموروثة منذ أكثر من ألف سنة، الطقوس، الوثنيات الجديدة، الشعوذة العصرية، الموضة...
دعك من كل ذلك أو من بعضه في الحد الأدنى، فأنت لستَ من هواة رياضة رفع الأثقال
وحلمك أن تصبح أخفّ من الريشة...
أنت أساساً غزالٌ دوّخَ الشجر بجماله
وذابَ في المدى حُبّاً
كيف يرويك عالم الأسمنت والأسفلت؟ هكذا تُوشوشك ظلالك آمِرةً:
"عُد إلى ما يفتنك وتجاهل كلام الأقارب والعقارب الذين باسم المحبة يجرحونك لأنهم مجبولون على سواد القوالب والقلب!
اللعنة على كل ما يزعجك
سيشفع لك عمقك
سيشفع لك غَوْرك وبرّك
وكل حرفٍ تحفره بروحك سيشفع لك
وأنت كالمعجزة والكرامة، خارقٌ للعادة
صمتُكَ ندى الزنابق
وصلاتك مخابز للسلام"./ ص . ص 46-48
إنه البحث الدائم عن العمق، عن الجوهر، غواية الداخلي الذي هو من ينسّجُ الأشياء ويجوهرها، ويعطيها هالاتها الدلالية الحقيقية، من هنا تذهب الشاعرة إلى مخاطبة الآخر ليكتشف ذاته الحقيقية، البعيدة عن التقاليد، وعن ذهنية الإسفلت والأسمنت، تلك التقاليد الجامدة التي تقيد المطلق وتوقف الحركة، وتعطل الحواس.
الشاعرة تتحدث بلغة شعرية مبسطة، لكنها تكتنز دلالاتها العميقة القائمة على مراودة الجماليّ، فالشاعرة لها خلفياتها النقدية الفنية، التي تصغي فيها للفنون الأخرى وتطارحها فضاءات السؤال. من هنا فإن هالة نهرا تعني ما تقصده في الإصغاء للأعماق، كما تصور في نهاية المشهد الشعري السابق:
سيشفع لك غَوْرك وبرّك
وكل حرفٍ تحفره بروحك سيشفع لك
وأنت كالمعجزة والكرامة، خارقٌ للعادة
صمتُكَ ندى الزنابق
وصلاتك مخابز للسلام".
إن كسر الاعتيادي ومشارفة اللا مألوف هو إحدى الدلالات الباذخة في ديوان هالة نهرا، الذي وسمته بالفرح، مهما كانت تجارب الحياة والواقع فلابد من فرح أبدي ودائم وموار بين جمال الكلمات من جهة، وجمال أشياء الوجود والكون من جهة ثانية. إنه التلقي الشاعري للحياة وهو تلقّ لا ينكسر ولا يحبط بل يُشعّ ويعطي دلالاته الفارهة.

رؤية للتغيير:
لا تتوقف نصوص هالة نهرا عند حدود التعبير عن الأنا والآخر، ولكنها تنطوي في داخلها على جملة من الرؤى التي تصبو إلى التغيير، ومجاوزة بديهيات الواقع المستنسخة التي لا تفضي إلى شيء جوهري .ولعل البحث عن التغيير يدفعها دائما إلى إقامة قدر من الصور الحركية الحيوية التي تكسر حدة سكون الأشياء، الشاعرة تجعل من التغير دلالة وتقنية معا، دلالة بكسر جمود الألفاظ والعلاقات السياقية الشعرية المعهودة، وتقنية بإقامة جملة من البنى الشعرية المعمقة التي تلوذ بالداخلي أكثر مما تفيض بيوميات الحياة وتفاصيلها. في نص بعنوان:" لهذا أمشي" تبحث عن هذه الرؤية التغييرية التي تصبو لتجاوز العابر:
أمشي فيثرثر قوس القزح في دمي.
أمشي فأرى بياضاً ناصعاً،
وعنباً لا ينضب، ومانغا ودجاجاً مشوياً،
تحت قناطر ثلاث متجاورة.
أمشي فيكسوني لونٌ من مشتقّات الأخضر.
عندما أمشي أتمرأى وأنتبهُ لمروجٍ لمّاعة على الطرف الآخر...
أرى نبعاً يترقرق ويظلّ يترقرق على بُعد مئة متر، موصولاً بالنهر المتدفّق
وأبصر ابتسامةً مزمنة وفرحاً لا يغادر، كأنّهما عنوان الأبد. / ص 38
هي عودة بالتأكيد للطبيعة، التغيير هنا يفارق عالم المدينة وصخبه، يوميات الحياة العادية، نزوعا للوصول إلى المروج الخضراء، وإلى النبع المترقرق والنهر المتدفق بحثا عن الفرح الأبدي الذي يعنون الديوان.
إن تكرار الأفعال ونسبتها للذات هو نسبة الفعل إلى هوية وإلى روح تصبو لكسر الجمود:" أمشي ، أتمرأى، أرى، أنتبه، أبصر" هذه الذاتية عنوان تمرد على العادي من جانب آخر، وعنوان بحث فردي عما يعيد للفرح أرومته ومواقيته ومطارحه.
وهناك نصوص تصبو الذات الشاعرة فيها إلى التوحد مع الأشياء ، والتماهي مع دلالتها كاستعارة كلية بين الذات والكلمات ، فيما تذهب للمقدس وتناجي الإله، وتبحث في حضوره الميتافيزيقي عن كنه الذات والروح والوجود:

أن أتخلّص من حساسية أنهكتني
أن تشرق يداك عليّ إلهي
أن أعيد ترتيب الزمان حين أدخل دار عينيك
أن أشعر بأن لا أبٌ لنا جميعاً إلاّكَ
سَلِسٌ كبشاشة البحيرات المتلألئة في قلبي
أن يتأنّث المرْجُ والفرح
ذلك مما فيك ولك / ص 59

إن هالة نهرا تسبح في فضاءات الذات، وتطلق الروح لمعانقة المطلق الكوني تكاشفه، وتبتكره وتستعيد خيالات الطبيعة ، وتكسر اليومي والمألوف والعادي وهي الأمور التي هيمنت على قصيدة النثر العربية لفترة طويلة. هنا في ديوان:" الفرح عنوان الأبد" نحن حيال رؤية أخرى تستعيد صوت الشعري من ربكة الأشياء وضمورها، إلى روحانية متسامية وإلى فرح بالجمال على مستوى الكون المتخيل وعلى مستوى الطبيعة المنظورة.