تصبو الشاعرة السعودية فاطمة سليمان المرواني في نسج قصيدتها إلى المواءمة بين فعل الكلام والبوح والتعبير من جهة، وآلية تقديم الجملة الشعرية التي تتضمن هذا الفعل من جهة ثانية. هي على اليقين توجه كل رؤية شعرية، كيف يمكن لنا أن نوائم ما بين القول والتقنية، بين أن نبوح وأن نشكّلَ في النص الشعري؟
هنا يتواردُ سؤال مهم: هل تحد التقنيات الشعرية من فعل البوح والقول في القصيدة؟
إن قصيدة النثر ربما تكون قد كسرت إلى حد بعيد هذه الإشكالية، فمساحة البوح والتعبير غير مقيدة تماما إلا بما تثيره الجمل الشعرية من مشاهد جديدة وصور ومعان تحقق ابتكارها وفرادتها أو تصبو إلى ذلك.
في ظل هذا الوعي نحن حيال رؤية شعرية موجّهة دلاليا من لدن الشاعرة في ديوانها :" متكأ مباح" ( المؤلفة. جدة، الطبعة الأولى 2019) حيث تتوجه الشاعرة ببوح نصوصها إلى ثلاثة مجالات، تكثر أو تقل من وجهة كمية نصية، لكنها تركز على : الأنا، والآخر، والتجريد الوصفي المتأمل.
فمن المستهل تبدأ الشاعرة بتوجيه الخطاب إلى الآخر بنص:" راهب" الذي تتواتر فيه الأسطر الشعرية موجهة إلى مخاطب عبر إسناد الكلمات لكاف المخاطب، وهنا تصبح هذه الكلمات لصيقة بما يوطده الآخر من معان متخيلة أو مجازية . الآخر سيفرض سطوته في حضوره بالنص، على الرغم من أن من يخاطبه هي الأنا الشاعرة .
هنا تقدم لنا الشاعرة تفاصيل حضور الآخر الضمنية عبر جمل النص القصير ، وتدخل في نطاق التداعي الذي ينسرب في رصد الآخر وأوصافه الوجدانية:
يضحكُ ولا يكف عنه الحزنُ
في أعماقه جرح محزون وجهك
مزيج من أرق وألم أرهقك
مشاعر يلفها غموضك
أحلام أفكارك ودهشة واقعك
جميعها تلازمك كراهب في محراب جنونك. / ص 7

هي تواترات بين مواقف متعددة من أرق وألم وغموض وحلم وواقع وجنون، وهي كما نرى توصيفات مباشرة، فالشاعرة لا تسعى هنا إلى تركيب صور معقدة أو مبهمة، لكنها تسمي وتصف بشكل مباشر، وهذه التوصيفات المباشرة تعزز الاقتراب من القارئ العام الذي لا يبحث كثيرا عن التقنية قدر ما يبحث عن الوضوح البين والتلقي المباشر.
وتستمر الشاعرة في هذه التوصيفات المباشرة في النص حتى تصل إلى تقديم جمل مبدوءة بأفعال الأمر بنوعيه الرجائي والطلبي، في تتابع تكراري يشي ضمنيا باستحضار المستقبل على اعتبار أن الأمر لم يتحقق بعد:
مد كف شمسك، اكسرْ خوفكَ
انسجْ بدفء النبض حبك
افتح عينيك للمطر واغسلْ غباركَ
إنسان نطفتك ضوء ونقاء ماء بداخلك
سلاف ليلي الأخير انتظرك
أنا سيدة ترقص بصوت غناء جنونك
كمسائي الحائر بدونك
النسيان مفردة مفقودة معك . / ص.ص 7-8

هي تتذكر كل شيء على ما يبدو ، هذه الذات المهمومة بالآخر الوجداني، فبعد أفعال الأمر المتتابعة، تضيء جانبا من نفسها، وتحدد لماذا هي تأمر أو ترجو أو تطلب هكذا، تبين ذلك في عبارتين:
- أنا سيدة ترقص بصوت غناء جنونك
- النسيان مفردة مفقودة معك .
هاتان الجملتان تصوغان الرؤية الشعرية هنا ، فالذات الشاعرة تحدد عبر ضمير الأنا أنها مرتبطة بهذا الغناء وهذا الجنون الذي يفيض من لدن الآخر الوجداني، متوهما أم حقيقيا واقعيا، لكن ثمة حضور طاغ له، ثمة خطابات ترسل إليه شعريا عبر الدوال المتنوعة، ثمة رؤية حالمة يكتنفها الحنين، وتكتنفها عبارات الطلب والرجاء، وهذه الرؤية هي التي تسعى عبرها الشاعرة، أو بالأحرى الذات الشاعرة داخل النص إلى تحقيقها بالبحث عن الحب الصادق.
وفي الجملة الثانية إيماء إلى تذكر كل شيء، فمعه لا شيء يُنسى، كل شيء حاضر ومتحقق وموصوف.

حوارية الضمائر:
ينهض ديوان:" متكأ مباح" على حوارية ضمنية ما بين الأنا التي تصوغ ذاتها الشاعرة داخل النصوص، والآخر الذي تتوجه له الأنا بمعظم الخطابات النصية في الديوان عبر ضميرين:
- ضمير المخاطب.
- ضمير الغياب.
الضمير الأول هو ضمير مباشر تتوجه له الأنا وتخاطبه، وتصبح:" أنت" هو ما يمثل حركة وجود المخاطب في النص الذي تديره :" الأنا" ، والضمير الثاني :" هو" تقوم الأنا بتجريد حضور الآخر إلى " هو" لتمدد وتوسع طريقتها في البوح والتعبير . نحن إذن حيال وجود ضمائر ثلاثة في النصوص هي: ( الأنا) التي توجه دفة الكلام، و( أنت) الذي يتوجه له الخطاب مباشرة، و(هو) الذي يتوجه إليه الكلام بشكل تجريدي. وما بين هذه الضمائر الثلاثة تقع الحوارية الضمنية بين الأطراف الثلاثة، لكنها في التحليل الأخير تنتمي إلى الذات الشاعرة التي تنتج دلالاتها وتؤلفها وتعبر عنها.
وتكثر النصوص الموجهة للمخاطب بشكل ملفت في الديوان، فالآخر حاضر بشكل كثيف، واستحضار الآخر نوع من الحوار الضمني الذي تقدمه الشاعرة في نصوصها، فهي لم تتكئ على استحضار الذات الشاعرة وحدها والتعبير عن أناها، ولكن جعلت للآخر حضوره حيث تنتمي جملة من القيم المعنوية إليه، وهي قيم تنطلق من الحب لتصل إلى مشارفة الوجود.
وتبلغ النصوص الموجهة للآخر ( 33) نصًّا، منها: راهب/ اشتياق/ دانة/ مخاض/ خسران/ عصيان/ لجة/ عبث/ حزن/ قيود/ لقاء وغيرها من النصوص.
أما النصوص التي تعبر عن الذات الشاعرة وتلك التي تعبر عن الواقع أو التأمل في الحياة والوجود فتبلغ ( 13 ) نصًّا، هي: تعب/ رعشة/ مشهد/ دفء/ جدة/ انتظار/ حلم/ قِبلة/ ألم/ وجع/ نجمة/ تغرد/ عمق .
وبهذا يستحوذ حضور الآخر على معظم نصوص الديوان مشكلا – هذا الحضور – قيمها الدلالية وأسئلتها ورؤاها.
إن الآخر الوجداني يهيمن بشكل كبير على توجهات النصوص، وهو يشكل كل شيء في أفق الحب حسيا ومعنويا، تقول الشاعرة في نص :"نقوش" مخاطبة الآخر :
لحظاتُ قربكَ ليل متوهج بإكليل النجوم
ولحظاتُ بعدكَ نهارٌ ضرير
لا تقس على قلبكَ وتقفل أبوابكَ
اسمع الذي لا يهدأ نبضه
تنهيدتك دخان يتصاعد من نار
حروفك عاجزة عن قراءتي
ليلك نقش على جسدي
ضوء يجفف ريشتي
ليلا كبياض الفجر / ص 76
الصورُ والتشبيهات بسيطة لكنها تعبر بشكل أو بآخر عن هذه العلاقة الحميمة الموجهة شعرًا التي تريد الشاعرة أن تنقلها للقارئ، هي علاقة احتواء وحنين في الوقت نفسه، وهي علاقة حب يتجاوز السطحي لينفذ إلى أعماق الروح والكلمات، وهكذا تبث معظم النصوص في خطاب شعري حميمي لا يترك مسافات بعيدة بين الأنا والآخر، ولكن يقربها بلغة شفيفة، وصور ليست بعيدة عن مدارك الحواس.
وفي مشهد من " اشتياق" يصبح الآخر هو كل الأمكنة، وهو الروح ، لكنها تغريه بروحها واحتوائها:
أبحثُ عن ملامح الأمكنة في غربتكَ
الحب نخلا مات بقسوتكَ
سأحتلُّ ركن قلبك . أجمع أشلاء روحكَ
أحتوي ألمك . حيرتك. ضياعكَ
اتركني فراقًا كما أنا في شرايينكَ
مسحت ملامحي وبقيتُ ظلكَ
واملأ بما تشاء في عالمكَ
أنا امرأة أحب ولا أغار ولا أتلاشى. / ص.ص 10-11

هكذا تبحث الأنا الشاعرة عن الاحتواء مع الآخر لغة وأمكنة، وتبقى الصور الشعرية الرهيفة هي الأكثر تعبيرًا عن هذا البحث، تبقى مبثوثة بنصوص الديوان، وتشكلاتها المتعددة.
وتعبر الشاعرة في هذه النصوص عن دلالات ثلاث هي أبرز ما تكنه نصوص الديوان وهي: الحب والألم والضياع ، ويأتي الحب بصوره المتعددة سواء تذكرا أم تخيلا أم واقعا، يأتي ليرسم الصورة الوجدانية التي تكتسي بها نصوص الديوان ، مشكلة نوعا من الوحدة المضمونية الدلالية التي تتوجه بها الشاعرة إلى القارئ، فيما تصوغ نصوصها الشعرية بها. كأن النصوص جميعا بمثابة مقاطع متنوعة تعبر عن هذا المتكأ العاطفي الوجداني المباح، المفتوح على مختلف صور الحب، فيما تعبر في جانب آخر- خاصة في النصوص التي تعبر عن الذات الشاعرة أو التأمل في الواقع والحياة والوجود – عن الفقد والألم والضياع وضراوة الحياة ، بيد أن الحب يظل هو المهيمن على الصورة الوجدانية نهاية الأمر.

هالات من الكثافة:
كل عناوين نصوص الديوان التي تبلغ (46) نصًّا جاءت في كلمة واحدة مثل: راهب، اشتياق، دانة، رحيل، شامة، طين، غياب ، تعب ، مخاض، رعشة ... وهكذا لا يوجد نص معنون بكلمات مركبة أو بجملة، هل هو البحث عن كثافة عنوانية؟ أو البحث عن تقديم لقطة شعرية فحسب، يعبر عنها هذا العنوان الفردي ؟
بلى ربما تكون هي الكثافة هي التي تصنع النصوص وتميزها، وتعطيها قدرا من الترائي القارئ الذي يبحث فيما وراء بساطتها عن الآفاق المعنوية البعيدة.
في نص :" شامة" تخبرنا الشاعرة عن تسمية ديوانها:" متكأ مباح" هذا المتكأ المباح هو القلب:
القلبُ متّكأ مباحٌ للجنون
بغياب دم حروف القلب المشتهاة
القارات كلها كهوف . / ص 20
إذن هو جنون الكلمات، وجنون التواصل مع الآخر، على الرغم من أن هذا الجنون لا يبعد كثيرا عن الأفق الرومانسي ولا يتسلل مثلا إلى ما هو خرافي وأسطوري وسوريالي، لكن الوحدة الدلالية للديوان تصب في مخاطبة الآخر الوجداني، وتشكل بمختلف النصوص الوارد بالديوان صورة آخر رومانسي يتوجه إليه لخطاب ويبدي ما في قسماته التي يلعب فيها التذكر حينًا دورًا في صناعة الصورة وصناعة المشهدية الشعرية، فيما يكمل التخيل دورًا آخر في استشفاف الصور ورسم الأبعاد العميقة الكامنة في العلاقة الوجدانية بين الأنا والآخر.