اجرى الحوار. توفيق التونجي

الاديب ابراهيم احمد من ادباء العراق الذين تركوا اثرا في الحياة الثقافية. الاديب من مواليد مدينة الهيت التاريخية والمعروفة ب نواعيرها وبطقسها الجميل وبساتينها الخلابة. التقيت (ابو عادل) لنتحاور حول سفر المنى الذي طال وهموم الثقافة العراقية

- اتساءل للمنفى وكما تذكرنا دوما لغته الخاصة ومفرداته المليئة بالحزن تارة وبلحظات الفرح احيانا، حدثنا عن تلك اللغة الانسانية الفريدة؟
- نعم قلتها منذ زمن طويل؛ للمنفى لغته الخاصة، من أراد أن يتناول المنفى بلغته السابقة التي جاء بها من الوطن لم يستطع الوصول إلى شيء،أو إنه وصل إلى ما هو قليل لا يتناسب وطموحه! بعضهم اعتقد أن لغة المنفى هي لغة البلد الذي يعيش فيه انجليزية أو ألمانية أو فرنسية فحاول أن يكتب بها، وبذلك زاد ابتعادا عن لغة المنفى والتي لا يمكن تعريفها أو حصرها بمصطلحات معقدة، فهي لغة الروح التي تكونت في محاولة التعرف على الأشياء والعلاقات والأفكار في متاهات الغربة، وآلامها القاسية! بذلك فقدت الكثير من الحالات والأوضاع أسماءها القديمة وصارت بأسماء أخرى! واختلفت الوقائع في انعكاساتها وردود أفعالها عن ذي قبل حتى لم يعد الماء هو الماء، ولا النور هو النور ولا الظلام ولا الحب ولا كل شيء هو كما عهدناه قديما، وهذا سر أننا في كثير من الأحيان لم نعد نفهم على بعضنا في المنفى نفسه أو بين المنفى والوطن! لغة المنفى هي لغة الأحلام وقد صارت تقارب الكوابيس، ولغة الرؤية التي جعلت الوطن أقرب إلينا
في المنفى عما كان عليه ونحن فيه! الموت الذي صار قريبا وأليفا مقبولا ومستنكرا بنفس الوقت ، لغة يحاول من يصل إليها أن يجعلها مفهومة لا بتبسيطها أو شرح مفردتها في قاموس ، بل بتجسيدها كل حسب قدراته ومزاجه ونضجه الروحي في إبداع دقيق محكم صادق يحمل في جاذبيته قوة الترجمة الصحيحة لهذه اللغة!

- شاركتم في الحياة الثقافية وبنشاط خلال عقود طويلة ولك الكثير من الأصدقاء فيها، كيف ترى تطور الحياة الثقافية العراقية في مرحلة ما بعد ٢٠٠٣؟
- بدأت النشر في أواسط الستينات،عندما كنت لا أزال طالبا في كلية الحقوق، نشرت قصائد نثر، ونقد أدبي ومقالات سياسية. وأوائل السبعينات بدأت بنشر قصصي القصيرة والقصيرة جدا، وكنت على تماس مع التجمعات الأدبية والمقاهي التي يلتقي فيها مثقفون ومبدعون شعراء وقصاصون، وحاولت بهذا القدر أو ذاك أن أرصد وأختزن ما أرى واسمع في هذه المجالات والأمكنة وكأنني مسكون بهاجس أن هذ الواحات المتناثرة آيلة ذات يوم إلى زوال مفاجئ وعلي أن أحفظها في ذاكرتي ووجداني لا لكي أكون شاهدا عليها بل أحولها إلى غذاء روحي يمدني بالطاقة للمواصلة ولم الشتات ولو في المخيلة إذا تحطمت وتلاشت! وفعلا حدث ما توقعته فتلك التجمعات التي كانت كبيرة تضم مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية والجمالية قد تمزقت بقوة الضغط السياسي والقمعي للسلطة ،ولم تلبث أن تحولت إلى تجمع من نوع واحد يصطف راضيا أو مرغما في تشكيل من نمط واحد هو نهج السلطة ونظامها الدكتاتوري!
بنفس الوقت لا أريد أن أبرئ نهجنا ومنطلقاتنا نحن الحزبيين المؤدلجين وفق نظرية سياسية جامدة من أخطاء كثيرة بينها نزعة انعزالية طهرانية ترى أنها تمتلك الحقيقة وحدها والآخر سادر في الضلال. لابد من التأكيد أن حياتنا الثقافية والإبداعية آنذاك كانت تطغى عليها الأنشطة الحزبية والاجتماعية أكثر بكثير من نزعة الصراع الفكري والعناية بحوارات الإبداع والجمال وقيمه الفلسفية. كانت الأحزاب القائمة آنذاك تفخر بمن لديها من ثوريين عتاة جابوا السجون وصمدوا تحت التعذيب، أو شهداء كثر كان يمكن أن لا يموتوا، وقلما يتحدثون عن مفكر أو مبدع بينهم ، أو قلما يتحدثوا بلغة الفكر !
أكثر القصائد المتداولة لشعراء فصحى أو شعبيين تتناول مواضيع سياسية وحزبية ساذجة مفعمة بالزيف والادعاء والتهويل! كان هذا الحصاد الثقافي هو الهشيم الذي تهاوى رمادا أمام الصراعات التاريخية الكبيرة التي دخلتها البلاد فيما بعد! لقد تعرضت الثقافة العراقية لامتحانات عسيرة عبر مسارها في العراق الحديث، وليس من الصعب رصد إخفاقاتها في الوقوف إلى جانب قيم الحرية والحق والجمال ربما كان ذلك فوق طاقتها حيث كانت الأنظمة المتعاقبة تفرض عليها بقوتها البوليسية أو العسكرية شعاراتها وتوجهاتها وأهدافها . يمكن ملاحظة أنها في الحرب العراقية الإيرانية كان موقفها صحيحا حين وقفت إلى جانب الوطن لردع العدوان الإيراني على العراق والذي تكشفت حقيقته في هذه الحقبة لكنها لم تكن تستطيع أن تفصل بين صواب موقفها في مجابهة العدوان الإيراني التوسعي ورفض دكتاتورية نظام صدام بنفس الوقت ! وبالطبع كان هذا كان فوق طاقتها في داخل العراق بسبب التعامل الهمجي للسلطة ولكن مثقفي الخارج تطابقت مواقفهم عموما مع مواقف أحزابهم ولم ينتصروا لحسهم الخاص إلا ما ندر!

- أدب المنفى اخذ حيزا كبيرا من نتاجك الإبداعي الأدبي وقدمت إلى المكتبة الأدبية أدبا رفيعا تدور أحداثه في المنفى القسري أو الطوعي لإنسان المهاجر كيف ترى تأثير أدب المنفى على مجمل الحركة الأدبية وهل يمكن الحديث عن أدب متكامل على غرار ما أنتجه الأدباء العرب في أمريكا اللاتينية؟
- شغلت بوضع المنفى مذ حللت به في أوائل تموز من عام 1979، ثمة مؤشرات رصدتها آنذاك جعلتني أرى أن المنفى سيطول كثيرا، بل سيصير مثوانا الأبدي بعد أن نكون نحن قد تغيرنا كثيرا إزاء طبيعة الوطن وبعد أن تكون طبيعة الوطن قد تغيرت كثيرا عن طبيعتنا لكن ما سيبقى يشدنا للوطن هو نواتنا الأولى، جوهرنا! وهذه ستكون آصرة قوية جدا سواء كنا في الوطن أو في منافينا. لكل ذلك كتبت قصصا كثيرة عن وقائع وتداعيات المنفى نشرت في مجموعات مختلفة خاصة مجموعتي (بعد مجيء الطير) التي تكاد كلها تدور حول معاناتنا في المنافي!
استوعب المنفى كتابا وشعراء على موجتين رئيسيتين الأولى بعد انهيار تحالف الشيوعيين مع حزب البعث وشن السلطة حملة إعدامات وسجن وملاحقات ضد الشيوعيين وأصدقائهم أو الديمقراطيين المستقلين، والثانية بعد هزيمة نظام صدام إثر حرب الخليج الثاني وضرب أمريكا وحلفاؤها حصارا على العراق ما جعل المئات من المثقفين والكتاب يغادرون الوطن إلى المنافي طلبا لحياة أفضل، وقد واصل هؤلاء نتاجهم الإبداعي معبرين عن معاناتهم المختلفة سواء في الوطن أو عن رحلة المنفى الاختياري أو الاضطراري،وأدب المنفى أو المهجر أو الخارج مفهوم يحتاج التوقف عنده طويلا .حتى اليوم تكون نتاج إبداعي كبير جدا يفوق ما كتبه الأدباء العرب في أمريكا الجنوبية لا أقصد من حيث النوع بل من حيث السعة والحجم وإلحاح التجربة وضروراتها، لكنه للأسف قوبل من قبل المؤسسات والمراجع الثقافية والأجنبية بالتجاهل وأحيانا بحصار وإهمال مقصود لأسباب يطول شرحها تفصيلا لكن في جوهرها أنها ذات دوافع سياسية ومصلحية ضيقة!

- تجربتك في الحياة الأدبية في العراق دخلت عدة مراحل ما قبل المنفى، وما بعده، ثم كانت لكم تجربة في سنوات ما بعد سقوط النظام في ٢٠٠٣ . وهذه التجربة أنتجت أدبا مغايرا لم يعتده القارئ العربي، وربما يمكن وصفها أنها كانت أكثر واقعية وارتباطا بهموم المواطن العراقي كيف تقيمون تلك المراحل الثلاث؟
- ما كتبته في الوطن ولم أكن أفكر بمغادرته كان مستمدا من واقع صلب متفجر سواء أحببته أو كرهته ورفضته ، من حيث المضمون كان مأخوذا من تقلبات الواقع وصراعاته العميقة في جوهرها وصلبها لا في شكلها وحسب، وفي تلك الحقبة التأسيسية استطعت أن أؤكد على كتابة القصة القصيرة جدا، وقد أصدرت فيها أول مجموعة تصدر في العراق تحمل على غلافها اسم " قصص قصيرة جد" كما كنت قدمت إلى وزارة الثقافة والإعلام العراقية مجموعتي القصصية (صفارات الإنذار في مدينة قابيش) لكنهم ماطلوا في موضوع نشرها ، ثم بعد أن غادرت الوطن نشروها بعد أن حذفوا منها قصصا وجملا وكلمات كثيرة صارت بعنوان إحدى قصصها " زهور في يد المومياء" ، في المنفى عكفت على استبطان وضعي الجديد ووضع عشرات آلاف العراقيين الذين عليهم أن يعانوا هموم المنفى ومتاعبه وآلامه!
بعد سقوط النظام حدثت صدمة كبرى، برزت فيها فجأة قضايا معقدة كثيرة! على صعد اجتماعية و ثقافية وروحية محدثة شروخا وتصدعات في الشخصية العراقية! المعارضة التي تسلمت السلطة لم تستطع إدارة الأزمات القائمة بل أضحت تدريجيا جزءا من الأزمة ومكرسة لها بل ومنتجة لها! بذلك لم تستطع أن تكون بديلا مقنعا عن النظام السابق بل بدت بتشوهاتها وبشاعتها مبررا للكثير من سيئاته القديمة! فهم قد ساهموا بتفجير حرب طائفية ومذهبية وبروز منظمات
إرهابية ومليشيات لهم موازية في الإرهاب والعنف والفساد للطرف الآخر ، كل ذلك ألقى على الثقافة والمثقفين والمبدعين خاصة مهمة مواجهتها سواء على مستوى التجسيد والشهادة أو التحليل وبطرق إبداعية مقنعة ومؤثرة! وهكذا كما ترى لم يستطع المبدع العراقي على مدى نصف قرن مضى وثلاث مراحل صاخبة أن يلتقط أنفاسه ليقف متأملا هذه التجارب بهدوء وعمق فيضع يده على كنهها وتقصي تلافيفها وشعابها بعمق وروية ليقدم أدبا أو فنا موازيا يليق بعمق الآلام التي عانها الناس لاجتيازها أو الذهاب ضحايا لها! لقد كتب المبدعون العراقيون الكثير ، قيل أن أكثر من 700 رواية أنتجت في هذه الحقب، وهذا إبداع ضخم لم يحققه أي شعب آخر إزاء نكباته وكوارثه، ولكن ما يبقى وما يؤثر في الوجدان الإنساني في النهاية هو ما حقق شروطه الإبداعية والفنية، وهذا يقتضي تفحصا نقديا واسعا ، ولكن يبدو لي إن إمكانات النقد في العراق لا تزال قاصرة أو غير كافية لاستيعاب هذا الكم الهائل من العطاء الإبداعي وحبذا لو تساهم الجهات الأكاديمية في البلاد بجانب أساسي في هذا النشاط الضروري ، إذ ثمة قاعدة أساسية لا فنَ ولا إبداعَ دون نقد صحيح، ناضج وجاد!

- كيف ترون مستقبل الثقافة العراقية وما مشاريعكم المستقبلية وهل سنرى سيرتكم الذاتية قريبا في كتاب تتناولون فيها أمورا أصبحت جزء من تاريخ العراق خاصة وانتم عاصرتم جميع تحولات السياسية والاجتماعية في العراق الحديث من أنظمة ملكية وجمهورية؟
- لا شيء يتأثر بالأوضاع السياسية والاجتماعية أكثر من الثقافة، فهي شاشة مرهفة حساسة لما يحدث، ولما يكون قد حدث وهدأ في كل مكان إلا في ساحة الثقافة خاصة جانبها الإبداعي،وبلادنا التي شهدت كوارث ونكبات وتحولات عميقة هائلة لا تزال ثقافتها تعاني وتلهث لتستطيع إدراكها وفهمها وتحويلها إلى وعي إنساني وجمالي خلاق يساعد في بناء الحياة من جديد وصياغة مستقبل أفضل! يصعب التكهن بمستقبل ثقافتنا في ظل الأوضاع القائمة والزاخرة بشتى صنوف الضعف والتخلخل والتداعي عبر شبكات الفساد والعنف الضاربة في أعماق الدولة والمجتمع! لكن الأمل هو صنو الإبداع يتبادل معه الوجود والتأثير! والمأساة عموما تصنع الروح المبدعة كما تساهم في تحطيمها!
لدى العراقيين مثقفون ومبدعون شجعان عركتهم المحن ومارسوا التحدي لصنع أدب وثقافة جادة أصيلة ومتميزة على مستوى المنطقة والعالم أيضاً.
لم أفكر بكتابة سيرة ذاتية موسعة متكاملة لي ربما لتصوري أنها ترتبط بنرجسية بشكل ما! لكنني كنت أسرب الكثير مما عشتها أو عانيته في ثنايا ما اكتب من قصص أو قصائد نثر أو روايات طويلة! الإبداع في النهاية هو خلاصة لمعاناة طويلة وهو خبرة الروح حين تخرج من خضم طويل من الأحداث والحقب وربما العمر كله. أكتب الآن رواية فيها الكثير من جوانب حياتي الماضية لم انته منها بعد ربما تكون تعويضا عن سيرة ذاتية!ومن يدري لو يمتد بي العمر سنوات أخرى قد أكتب سيرة ذاتية مباشرة!

ونحن نودع كاتبنا الكبير ابراهيم احمد نشكره على اجوبته على اسالتنا متمنين له الصحة والعافية.
الكاتب ابراهيم احمد:
بدأ النشر في الصحف العراقية عام 1965 وكتب الكثير من المقالات والتحقيقات الصحفية والإذاعية .نشر مجموعته القصصية الأولى (عشرون قصة قصيرة جداً )عام 1976 نشرت وزارة الإعلام العراقية مجموعته القصصية ( زهور في يد المومياء ) بعد مغادرته البلاد وقد حذفت منها عدداً من القصص والفقرات . أصدر في المنفي الكتب التالية:

صفارات الإنذار، مجموعة قصص بعد مجيء الطير، مجموعة قصص.
المرآة مجموعة قصص. طفل السي إن إن رواية ( صدرت في بيروت عن دار الكنوز الأدبية بتقديم عبد الرحمن منيف). وقد أحدثت أصداءً طيبة.
التيه في أيس مجموعة قصص.
لارا زهرة البراري، مجموعة قصص الانحدار رواية،
قصة حب لزهرة الأوركيديا، مجموعة قصص
ليلة الهدهد، رواية أنت تشبه السيد المسيح، ترجمت له العديد من القصص إلى لغات مختلفة كالإنجليزية والألمانية والسويدية والروسية والنرويجية والدنماركية وغيرها وبعض قصصه نشرت ضمن كتاب مدرسي مقرر على طلاب المدارس الثانوية في السويد عن أدب الشرق الأوسط.

صدرت له مجموعة قصص مترجمة إلى السويدية بعنوان( أنت تشبه السيد المسيح) كتاب (محاولة في تحليل المسألة الطائفية في العراق) مجموعة مقالات. لديه العديد من الروايات والمجموعات القصصية وكتب المقالات الثقافية والسياسية والتحقيقات الصحفية المعدة للنشر.عضو اتحاد الأدباء العراقيين منذ عام ،1970، عضو اتحاد الكتاب السويديين.عضو نادي القلم العالمي. مارس العمل السياسي والثقافي المباشر لعقود طويلة. واضطر تحت الملاحقة لمغادرة العراق عام ، 1979 تنقل في المنافى بين الجزائر وهنغاريا واستقر منذ عام 1989 في السويد .نشر مقالاته في العديد من صحف العراقية والعربية التي تصدر في لندن وغيرها من البلدان. كتبت الرواية في السويد، بغداد، القاهرة. الفترة بين آب 2000 نيسان 2013