أهداني الصديق الروائي المصري ممدوح عبد الستار مشكورا نسخة إلكترونية من روايته الجديدة "فتنة" في طبعتها الأولى التي صدرت عن مؤسسة المنشورات الثقافية بتونس.
أحداث الرواية تتخذ من قرية الدلجمون مسرحا لها، وشخصياتها من عامة سكان القرية البسطاء الفقراء، وبطلا الرواية هما الأب "فتوح" وابنه "حامد" والصراع بينهما علي النفوذ الرمزي والسلطة الذكورية، الذي يصل إلى دروته حين ينافس حامد أباه في منطقة نفوذه الجنسي باختراق علاقته بالبائعة، فينتقم منه الأب، بفضح علاقته مع البائعة أمام الناس في القرية الصغيرة. مستعينا بالسكان، لإقصاء ابنه وطرده من دائرة نفوذه.
تستعرض الرواية تاريخ الأب والابن وحياتهما في القرية، وتفاعلهما فيما بينهما، ومع غيرهما، ثم ترصد تحول فتوح إلى رمز من رموز الصوفية الغيبية، بعد اختفائه في ظروف غامضة، فينشئ له حامد مقاما، يزوره الناس، ومولدا سنويا، وذلك ما يستغرق من الرواية نصفها.
مسيرة فتوح في عالم التصوف التي يحكيها الرواة، تتقاطع أيضا مع مشاهد الهامش والهشاشة، ولا تخلو أيضا من رصد لواقع الحياة الاجتماعية التي يعيشها المهمشون في مصر الغارقة في الفقر والعجز والمرض والممنوعات والبطالة وكل أشكال الانحراف والتناقض والظلم والقهر.
هذه المشاهد والأحداث والسير التي تطفح بها الرواية، يجعلها ترتب في خانة ما يطلق عليه "كتابة الهامش". إلا آن الرواية لا تتطرق لطبقة مهمشة، أو فئة اجتماعية معينة، ولكنها تغوص في عالم المهمشين الذين تكتنفهم قرية "الدلجمون" التي تضم فئات من جماعات مهمشة متنوعة، ومظاهر التهميش تتجلى بشكل خاص في الوضعيات الاجتماعية لبعض الفئات، كالنساء والعبيد والأطفال والغجر، فهم أكثر الفئات هشاشة وتأثرا بها.
الهامش العرقي
يتمثل في العبيد والغجر، وقد وردت الإشارة البسيطة إلى العبيد في الفصل الأول من الرواية، من خلال "رباب" الذي اختطفه تجار الرقيق صغيرا، وباعوه، فنشأ في كنف مالكه عبد المجيد يخدمه ويرعى مصالحه ويدافع عنه، وكان يتعرض للإهانة والاحتقار من طرف (أحرار البلدة حين تحرشوا به، وعيرّوه: أنه عبد أسود، وليس له أبٌ) (ص20).
والغجر أيضا، رصد الروائي المواقف المتحاملة ضدهم والتي تعكسها الصورة النمطية عنهم، إلى أنهم كسالى ولصوص وسكان خيام في هامش المدن "الخلاء". وتصف بناتهم بأنهن غاويات جنس، لحمهن رخيص، فقيرات، يكابدن من أجل العيش، ويدفعن ثمن ذلك من جسدهن، ويتعرضن للاغتصاب في الحقول (171-172). وبذلك تبرز الرواية مدى العنف الرمزي والفعلي الذي يتعرض له الغجر، ومدى التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي يعانونه.
الهامش الجنسي
نظرة المجتمع المحافظ إلى المرأة تديم هشاشتها، وتعيد إنتاج التخلف، فالمرأة في هذه المجتمعات هي مجرد متاع للزوج، مهمتها إنجاب الأبناء ورعايتهم، وخدمة الزوج ورعاية المنزل. هذه النظرة التي تختزل التقاليد الاجتماعية المتخلفة التي تعيش المرأة في كنفها، لا تستطيع التحرر منها، لأنها تقاليد متوارثة وراسخة، لذلك لا ينظر بتقدير إلى الزوجة التي تنجب البنات، وتكون عرضة للتطليق والتضييق. بخلاف التي تنجب الذكور. ذلك ما تلخصه الرواية في هذه الفقرة: (وقفتْ "ستوتة" شامخة، وانحنتْ على"زكية" المركونة على الفرن، ورفعتْ جلبابها المبلول بسوائل مختلطة الألوان، ورأتْ بعضاً من الغيب المفرح لها ("ولد يا ستوتة. ولد يرفع رأسي، قوائم بيتنا التي تتوارثه الحريم من خمسين عاماً أو يزيد. ولد يصلّى لنا، ويذكرنا الناس به" ونسيتْ نفسها في الغائب الحاضر، وفى ذِكرها الدائم. . خلودها، وفى تعديل كفّة الميراث (الولد يقش) وسألتْ نفسها عن سرّ كرهها للبنات) (35). و(كيف أن "ستوتة" استلمتْ هدية البطن الأولى، وكيف أرادتْ تطليقها من"فتوح"، وتذكرتْ يوم سبوع البنت، واستعادتْ مشهد "ستوتة"، وهى تحاول أن تخنق ابنتها. ساعتها، صرختْ صرخة أخرى) (54).
إن المرأة على الرغم من ثقلها الاجتماعي والسكاني لم تحض بالتقدير اللازم لدورها ووظائفها، واستفادتها من حقوقها ومن عملية التنمية البشرية، بقيت ناقصة، نتيجة تجدر بعض التقاليد والأفكار داخل المجتمع، ومن أسوأ الأفكار التي تعانيها مجتمعاتنا المتخلفة، تلك التي تشيء المرأة، وتعاملها كأداة جنسية، بدون الأخذ عين الاعتبار شخصيتها ولا كرامتها، ويتم اختزال وجودها في الطواعية العمياء لسيادة الرحل الاستعبادية، تقول زوجة العسال لمحاورها: (أنا ملك جوزي) (98)
الفقر عنوان الهشاشة
إن الفشل في بناء تنمية عادلة، يبقي شريحة واسعة من المواطنين تعاني التهميش والإقصاء. والرواية مفعمة بما يدل على فقر القرية وأهاليها، فكل ما فيها ينطق بالفقر، صوره الروائي بتفاصيل دقيقة، مسلطا عليه الضوء ليبدو وبشكل جلي للقارئ. فالجهل والفقر؛ وهما عاملان كفيلان بوضع الناس في دائرة التهميش.
فعفش العروس تافه ويقف شهادة قوية على الفقر (35)، والجوع الذي يعانيه الناس(101)، فالطعام قليل، وأقصى ما يشتهونه أرغفة وغموس(70)، أما فتة العدس فهي نوع من الترف (185). والبطالة متفشية، والعمل فيه سخرة واستغلال(45)، وهدر للكرامة، والوسخ، والجهل والمرض (57).
الاستغلال الاقتصادي للطفولة الهشة
هذا الفقر المتفشي، يفرز ظاهرة اجتماعية اقتصادية خطيرة، وهي ظاهرة تشغيل الأطفال واستغلالهم الاقتصادي، التي تؤدي إلى حرمانهم من الاستمتاع بطفولتهم وتعرقل نموهم السليم.
فالطفل حامد، يدفع مكرها إلى العمل في مزارع القطن لمقاومة دودة القطن (70)، فيحرم من الاستمتاع بعطلته، ولأجل التهرب من ذلك، يستعطف أمه للتريث يومين أو أكثر، أو يتمارض لاستدرار عطفها ورعايتها وتركه ينعم بالراحة.
إلا أن ذلك قد لا يتحقق دوما، فهناك من ينصحها بترك العمل في مزارع القطن واستبداله ببيع الدندرمة في عربة يد متجولة، وهو على الأقل يوفر فرصة للأطفال للاستمتاع بطعم الدندرمة وبريع عملية البيع، ويتيح لهم فرصة الحصول على "أرغفة وغموس" (ص70)
الفقر من أكبر العوامل المحبطة للطفولة، والنشأة في ظل هذه الظروف لا تخلو من تأثيرات سيئة على الناشئ، من زاويتين اثنتين زاوية اقتصادية وزاوية تنشيئية:
فالفقر يحرمه من الحياة السوية التي يتمناها مثل غيره من الأطفال (يخصني الصيف وحدي، أمرح وألعب كيفما أشاء، وأظلّ هكذا مدة، حتى تفيض جوارحي بصيف الأكابر. . نوادي، شواطئ، مصروف، هدايا، ملابس. أحاول أن أمرح؛ فلا أجد مرتعاً إلا طين ترعة الباجورية، ويشاركني في العوم زملاء أعزاء. . البط والديدان ومخلفات البهائم وما نفق منها)(70).
الهشاشة وعنف التنشئة
ومن الزاورية التنشيئية، فإن التربية الوالدية التي يتلقاها في المنزل المتأثرة بالظروف الاقتصادية للوالدين لن تكون سوية أيضا، فهي مطبوعة بالشدة والعنف والتبخيس والتحقير، يقول الراوي على لسان حامد: (يناديني؛ فأعطيه كتابي. يقلّب الورق، كأنما يبحث عن صورة لامرأة: شفت ... فيشتمني أمام "ياسر" (يرحمك الله. لن أستطيع فيما بعد أن أرفع رأسي أمامه؛ فالأخ سلاب)، وينهى حديثه معي: مخك زنخ...فألمّ كتبي مزمجراً وفى عيني دمعة، وفى فمي شتائمه، ولكنى لا أقوى على ردها، وأضع شكايتي أمام "زكية" لعل وعسى) (68).
فالتبخيس كظاهرة اجتماعية، قد تطبع العلاقات الصراعية في المجتمع، خصوصا علاقات الاستغلال والسيطرة، ولكنها تشتد خطورتها حين تتسرب إلى المنزل، فتؤثر في العلاقات التربوية بين الوالد والأبن، وليفرض الوالد سيطرته على ابنه، وليبرر عنفه التربوي يبدأ بتبخيسه وتحقيره، والحط من قيمته.
وبالرغم من أن حامد لا يشعر بوجود أبيه فتوح شعورا مباشرا، فهو يعيشه كقوة كبيرة في حياته، كطرف صراع قوي، (فوجّه كل اتهاماته لي، وبعنف. وأنا-واقف- أنظره شذراً. غافلني، وانقض يضربني، ويسبني. ربما أرعبته نظرتي. لم أستجب لضربه وتهوره. نظرتي أكثر حدة، ورغبتي أكيدة في أن أرفع ذراعي، وألطمه كما لطمني. شُل ذراعي، ولم يبد حراكاً. لستُ أعرف ذلك. جريتُ من أمامه. وكان الباب مغلقاً؛ فصعدتُ درجات السلم قافزاً، منكفئاً، وألقيتُ بنفسي في الشارع الخلفي. وظلّتْ هرولتي معي حتى ابتعدتُ) (65).
علاقات صدامية، تتأسس على العنف الوالدي، تثير رغبة عارمة في عنف مقابل، أو تنمي مشاعر القلق المدمرة للشخصية، وكبت المشاعر المؤلمة والرغبات اللاشعورية المحرمة.
هذه التنشئة هي التي يمكن على ضوئها تفسير العنف المتفشي في الهامش وبين الفئات الأكثر هشاشة بشكل مقلق. وانتشار الجريمة، وقد مثله الروائي في شخصية "شكامة" برأسه المسلوت وحواجبه الساقطة شعرها، متباهياً بقراعته، وكان يبحث عن بعض الرجال، حتى اجتمع له عشرون رجلاً. كلهم على شاكلته. ما جعله مسموع الكلمة، مهاب الطلعة، حتى ذاع أمره، وانتشر، ولم يقدر أن يبوح الرجال والنساء بأن "شكامه" هو شيخ (المنصر) الحرامية (26).
فالعنف المادي هو الأداة التي يتوسل بها المهمشون لحل مشاكلهم (192)، حتى أضحى سلوكا يوميا متفشيا ومقبولا اجتماعيا، فاللغة عنيفة أبن حرام (94) ابن كلب (192)، وتدور الدائرة على فتوح نفسه، فيتعرض لعنف الأطفال حين يخرج هائما على وجهه، فيقذفونه بالطوب.
الزبير مهداد [email protected]