كتابة : إيمان البستاني

تبدو حياة (فوجيتا )وكأنها فيلم للمخرج الامريكي (ويس اندرسون ) لغرابتها، وصل الفنان المغترب إلى باريس من اليابان في عشرينيات القرن الماضي، مع قصة شعر تشبع الوعاء و معطف بأزرار، و شارب هتلري مع نظارات صغيرة وشغف فضولي للقطط، كل هذه الهيئة والطباع جعلته غريب الأطوار او ما يسمى ( كريم دي لا كريم ) لبوهيمي مونبارناسي متفرد، استقر في باريس عام 1913 و كان يومها عمره ( 27 ) عامًا وأصبح الرسام الياباني الوحيد ذي الأهمية الدولية في ذلك الوقت، و استحق ان يكون الرجل الذي أبهر الباريسيين في واحدة من أكثر مدن العالم حيوية
تسوغوهارو (بمعنى وريث السلام) هو ابن الجنرال (تسوغوأكيرا فوجيتا )الطبيب في الجيش الإمبراطوري الياباني، لدى تسوغوهارو شقيق واحد أكبر سناً وشقيقتان ترعيانه وكان جو عائلته مثقفًا ومنفتحاً على الأفكار الغربية
سجّل في دورات تعليم اللغة الفرنسية أثناء دراسته الابتدائية، ودرس الرسم على النمط الغربي في مدرسة الفنون الجميلة بطوكيو ، تخرج منها في 1910 وكان يؤرقه حلم الذهاب إلى باريس . في عام 1913 أبحر إلى مرسيليا ووصل صباحا إلى باريس في حي مونبارناس في السادس من أغسطس ، بعد ان وعد عائلته بالعودة لليابان بعد مدة اقصاها ثلاث سنوات، لكنه مكث فيها طيلة حياته، كان قد تزوج بخطيبته معلمة مدرسة البنات (توميكو توكيتا ) بعام واحد قبل سفره، لم تدم الزيجة طويلا حيث انفصلا بالطلاق عام 1916
قد كان لغزا مثيرا بالنسبة للفرنسيين ، حيث جمع بين معرفته بالرسم الياباني التقليدي والانطباعية الفرنسية ليخلق أسلوبًا بسيطًا ولكنه كان غريب الأطوار، اقام في استوديو مونبارناس الخاص به في شارع ديلامبر رقم ( 5 ) حيث لا يزال المبنى قائماً حتى اليوم بين محل جزارة وبائع للاحذية
غيّر فوجيتا تهجئة اسمه ليبدو أكثر فرنسية قليلاً، وانضم إلى كل العظماء امثال بيكاسو و موديلياني و ماتيس وما إلى ذلك - بعد أسبوع واحد فقط من وصوله، التقى بيكاسو واستحوذت عليه روح الحياة الباريسية بأهواء جديدة
حصل على لقب (فوفو) ( تلاعب بكلمة فو التي تعني المجنون بالفرنسية) وأصبح موضع حسد من أقرانه عندما حقق نجاحًا كافيًا لتحمل تكاليف تركيب الماء الساخن في شقته، مع التنعم بالحمام البخاري الذي أغرى معظم عارضات الأزياء للإقامة معه في الاستوديو الخاص به - حتى أنه كان قادرًا على انتزاع ( اليس برين) الشهيرة ب(كيكي دي مونبارناس ) العارضة والممثلة والمغنية في النوادي الباريسية الفاتنة من (مان راي) الفنان الامريكي المعاصر الذي قضى معظم حياته في باريس يعمل كمصور للأزياء
في مارس 1917 في مقهى (دو لا روتوند) التقى فوجيتا بشابة اسمها (فرناندي باري) في البداية تجاهلت تمامًا جهوده لإشراكها في محادثة معه ، ومع ذلك، في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، ظهر فوجيتا امام سكن فرناندي مع صدار أزرق (مشد ) صنعه بين عشية وضحاها مفتونًا بها، عرضت عليه فرناندي كوباً من الشاي، تزوجا بعدها ب 13 يومًا
في غضون بضع سنوات ، خاصة بعد معرضه في عام 1918 ، حقق شهرة كبيرة كرسام للنساء والقطط الجميلة بأسلوب أصيل للغاية. إنه أحد فناني مونبارناس القلائل الذين كسبوا قدرًا كبيرًا من المال في سنواته الأولى. بحلول عام 1925، حصل فوجيتا على وسام ليوبولد البلجيكي ومنحته الحكومة الفرنسية وسام جوقة الشرف
قال عنه الصحفي (سي بي ليدل ) في عام 2006 : "أحد أسباب نجاح فوجيتا في باريس هو تأكيده على جنسيته وانتمائه لبلده اليابان، شخصيًا و فنيًا " كانت رسوماته لموديله( كيكي) حالة مزج باريسي مع المزاج التقليدي الذي يمتاز به الخط الياباني من حيث الألوان الحليبية المناسبة للبشرة الباهتة، بيعت اللوحة بمبلغ ضخم قدره 8000 فرنك في حينها، وتجاوزت المليون دولار اليوم
في عام 1918 ، تم تنظيم رحلة إلى جنوب فرنسا من قبل الشاعر البولندي (ليوبولد زبوروفسكي )الذي كان لديه فكرة أن أصدقائه الفنانين يمكنهم بيع اللوحات هناك للسياح الأثرياء. ذهب فوجيتا وزوجته إلى جانب سوتين وموديلياني وعشيقته (جين هيبوتيرن). ومع ذلك ، لم تكن الرحلة ناجحة حتى نفدت أموالهم، وصادر مالك العقار، متجاهلاً عروض القطع الفنية، جميع أمتعتهم بدلاً من الدفع
في عام 1921 ، انخرط مع (لوسي بادول) بعلاقة جديدة وكان يدعوها يوكي أو "زهرة الثلج . فوجيتا لم يغفر علاقة (فرناندي ) مع ابن عمه (كوياناجي )الرسام. في عام 1925، انفصلا وأصبحت (لوسي بادول) فيما بعد زوجة فوجيتا الثالثة، وانتهت هذه العلاقة عندما أصبحت عشيقة ثم زوجة الشاعر السريالي (روبرت ديسنوس)
تنقل قلبه بين النساء، لكن شغفه كان بلا منازع لإصدقائه القطط، شغف شاركه مع صديقه الشاعر الفرنسي والكاتب (جان كوكتو ) الذي اعتاد الذهاب معه إلى عروض القطط التي أصبحت موضوعات لبعض أعماله الأكثر قيمة، وأصبح كتابه "كتاب القطط" وهو عبارة عن مجموعة من رسومات قطط على ألواح محفورة عام 1930 من أفضل 500 كتاب تم بيعها من حيث التكلفة والأكثر ندرة
بعد انفصال زواجه الثالث، ورحلته إلى البرازيل في عام 1931 (بصحبة حبيبته الجديدة ، مادي) سافر فوجيتا ورسم في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، وأقام معارض ناجحة للغاية على طول الطريق.
في بوينس آيرس بالأرجنتين، حضر معرضه 60 ألف شخص، واصطف أكثر من 10 آلاف شخص للحصول على توقيعه.
في عام 1932 ساهم بعمل في Pax Mundi ، وهو كتاب كبير أصدرته عصبة الأمم يدعو إلى سلام عالمي طويل الأمد. ومع ذلك، بحلول عام 1933، تم الترحيب به مرة أخرى في اليابان حيث مكث وأصبح مروجا ًبارزًا للدعاية العسكرية خلال الحرب
عاد فوجيتا إلى فرنسا بعد الحرب، و في عام 1955 أصبح مواطنًا فرنسيًا، وبعد ذلك تخلى عن جنسيته اليابانية
عند عودته إلى فرنسا ، اعتنق فوجيتا الكاثوليكية. تم تعميده في كاتدرائية ريمس في 14 أكتوبر 1959، ينعكس هذا في آخر أعماله الرئيسية، وهو في الثمانين من عمره، تصميمه وزخرفته كنيسة فوجيتا في حدائق منزله في ريمس، فرنسا، والتي أكملها في عام 1966 قبل وقت قصير من وفاته
توفي فوجيتا بسبب السرطان في 29 يناير 1968 ، في زيورخ، سويسرا وتم دفنه في فرنسا. في عام 2003، أعيد دفن نعشه تحت الحجر في الوضع الذي كان يقصده في الأصل عند بناء الكنيسة.
يرى بعض الصحفيين الفنيين مثل (ليدل) أن هاجس فوجيتا بالقطط هو انعكاس لشعور عميق بالغربة. بنهاية مسيرته، كان الفنان قد أذهل في عشرينات القرن الماضي حشد صاخب من الباريسيين في عقر دارهم، ومع ذلك لم يكن يعتبر تمامًا كرجل فرنسي أصلي. في الوقت نفسه، كان يُنظر إليه أيضًا على أنه غربي جدًا في وطنه في اليابان .
مهما كان سبب الانبهار ، فقد "وقف على قدميه كأجنبي في فرنسا" ، مع تكريم جذوره أثناء تنقله في "الشوارع الخلفية لعالم الفن الباريسي" بطريقة لا يمكن أن يتباهى بها سوى القليل.
إذا كنت في باريس ، فهناك معرض مؤقت لأعماله في متحف مايول. وبينما كنا نود أن يقدم المخرج الأمريكي (ويس اندرسون) فيلما عن حياة فوجيتا، إلا ان مخرجا اخر (كوهي أوكوري ) ياباني الأصل قدم سيرة ذاتية مذهلة بصريًا في عام 2015 بتعمق تحكي عودة الفنان إلى اليابان في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات