الى "ارنست اميل هرتسفيلد"

يقتضي الحديث عن عمارة "قبة الصليبية" (862 م.) في سامراء بالعراق، المبنى الذي يُعّد، وفق كثر من الدارسين، <اول> مبنى شيد ليكون نموذجا معماريا لـ "ضريح" في العمارة الاسلامية، يقتضي هذا الحديث الغور عميقاً في تبيان معاني هذا النوع من الابنية والتعرف على مرجعياتها التصميمية والمعنوية، هي التى اغنت بحضورها اللافت "تابولوجية" Typology منتج العمارة الاسلامية، عبر شواهد مبنية وقائمة، عُدت، وتعد الآن من روائع العمارة الاسلامية، وبالتالي من روائع نماذج العمارة العالمية ايضاً. نحن نتحدث، بالطبع، عن الصيغ الرمزية لشواهد القبور، الرموز المتجسدة عبر المداخلة المعمارية المتكئة احيانا على خواص العمل النحتي. ومع ان وجود امكنة دفن الموتي او ما يعرف بالمقبرة/ "الروضة" او "الجبانة" هو حدث تخطيطي شائع، بل ملازم في الكثير من الاحيان لمخططات المدن الاسلامية، فان نوعية ذلك الحدث، تحديداً، هو الذي يضفي على تلك المدن سمة مميزة، أكسبها، بالتالي، خصوصيتها. وفي هذا الصدد، يذكرنا واحد من اهم الدارسين للعمارة الاسلامية البريطاني "روبرت هيلينبراند" (1941) Robert Hillenbrand ، بان "... لا يمكن لاي زائر يقظ للعالم الاسلامي ان لا يتفاجأ بالعدد الهائل من الاضرحة في المدن الاسلامية وفي ريفها على حد سواء. فدور تلك المنشاءات في البيئة المبنية لا يضاهي، كما انه لايقاس في اهميته وحضوره مقارنة في مخططات المدن الغربية، حيث تكون التماثيل فيها (اي في مقابر المدن الغربية) بمثابة اشارات ترمز لتذكارات الموتي في الغالب الاعم. ويزعم البعض ارجاع اصول هذا التعارض المرئي بين الحالتين (بين تقاليد ثقافة المدينتيّن) الى باب النفور الاسلامي المعروف من توظيف النصب او التماثيل. لكن القول بان المسلمين اقاموا قبورهم بهذه الكثرة لانهم لم يلجوا الى تماثيل او نصب هو امر يبدو سجاليا وقد يكون مخالفا للصواب. ذلك ان المقامات والاضرحة الاسلامية النموذجية كانت دائما تحمل في طياتها بعدا اجتماعيا ودينياً. ومثل هذة الابعاد قد يفسر اسباب استمرارية شعبية مباني الاضرحة في العالم الاسلامي" ( R. Hillenbrand. Islamic Architecture, Edinburgh, 1994. p.253). وفي كتابه المهم والثري <الكوفة: نشأة المدينة العربية الاسلامية"، يشيرالمؤرخ التونسي "هشام جعيط" (1935) الى دور <الجبانات> ووجودها في مخطط المدن الاسلامية، ويكتب عن تواجه الجامع والجبانة ".. فالجامع هو المكان الاول المحدد في الخطة، والذي ينبغي ان يحتل منها المركز الهندسي. كما ان الجبانة قامت بدور المركز لتجميع القبيلة، فكانت النقطة الحساسة، والساحة العمومية، وقلب الخطة النابض". ويذكر ملاحظة اجدها جد ذكية، اذ يقول ".. كانت الجبانة ثمرة للعفوية الخلاقة في عالم القبائل، لان السلطة لم تتدخل في إقامتها، فكان عليها أن تنجو منطقياً من تأثير الحضارات المحلية المحيطة، وخلافا لذلك فهي ترجع الى نسبها العربي" (هشام جعيط، الكوفة، بيروت، ط. 4 ، 2015، ص. 297).

وفي مكان آخر من الكتاب اياه، يوضح <جعيّط> ".. وعلى هذا تتمثل الوظيفة الاولى للجبانات في القيام بدور المقابر القبلية، كما كان الامر في مقابر البصرة....لقد أقيمت هذه المقابر وسط الخطط القبلية معبرة بذلك في أعمق دخيلتها، بفعل الدفن وأزليته، عن الضمير الجماعي للقبيلة ومن انتسب اليها. وبدون الدخول في البحث في انثروبولوجيات الموت، الذي نزعم انه يكتسي أهمية قصوى، ففي الإمكان ان نفترض أن الجبانات بقيت مدة طويلة بدون انصاب وأحجار على القبور. وقد اوصى بعضهم مثل شُرّح ببناء لحد داخلي، لكن عدم ذكر اسم المدفون في الخارج هي القاعدة المعمول بها في اكثر الأحوال. علماً ان اليمن عرف قديما أنصاباً كانت تحمل كتابات منقوشة (المساند). ولا شك ان المثال البدوي عاد متفوقاً في هذا المجال، بعد ان اضفى عليها الاسم طابعه القدسي: كان مثال التستر والزهد وعدم الاكتراث بالقبر بوصفه علامة مرئية. ولم تكن اللامبالاة تتجه الى الميت الذي يتضرع الشاعر العربي الى السماء يستعطفها، راثياً إياه، طالباً منها ان تجود عليه بمائها المنعش. كما أنها لم تتجه غلى الموت في حد ذاته وقد كان مبعث الفزع والالم في القرن الهجري الأول، كما ورد باقوال ابن سعد، ومنطلق مشاعر أخرى طبعاَ". (المصدر السابق، ص. 305 – 306).

وبهذا الاقتباس النصي (الذي نعترف بانه جاء طويلاً نوعا ما)، فقد سعينا عبره التأكيد على ناحيتين، احداهما، تتمثل في دور وأهمية الجبانة وقبورها في التقاليد البنائية الاسلامية وجذورها الممتدة الى ما قبل ظهور الاسلام، وخصوصا الممارسات المماثلة التى كانت شائعة في اليمن، والناحية الآخرى، الاستدلال على وجود "مفارقة ظاهرية" (او ما يعرف بـ Paradox) طبعت خصوصية هذا النشاط العمراني بطابع خاص. فمن جهة ندرك ثمة إعْلاَءُ مقصود لمكانة هذا الحدث التخطيطي والرفع من شأنه في الممارسة الحضرية، ومن جهة آخرى، ثمة توق شديد، يكافئ تلك الرغبة ينشد الى نوع من تغاضٍ واغفال ذلك الوجود، والتعاطي معه بكونه امراً لم يكن. وفي النتيجة فان هذه الحالة التى دعوناها بـ "المفارقة الظاهرية"، اسست لتقاليد مفادها الشعور بالانتساب المكاني وتبني صلات وثيقة معه، من جهة ، ومن جهة آخرى محاولة إهمال وحتى هجر تلك "البقعة"، والانغمار في امور حياتية يومية بعيدا عن ذكرى الموت والهلع منه ومحوه من الذاكرة قدر المستطاع!

ونود التشديد ابتداءً باننا ليس في نيتنا، ونحن في صدد الحديث عن هذه الموضوعة المعمارية، ان ندخل في سجال فقهي حولها. فهذا لا يقع ضمن اهداف هذة الدراسة ولم يكن قطعا من غاياتها. نحن بصدد "عمل" معماري، نراه كما سوف نسعى الى تثبيته من خلال هذه الدراسة، بكونه عملا تصميميا غير مسبوق، وكان رائدا في ثيمته، وهو لهذا جدير بالاهتمام والدرس، كجزء من تلك المنظومة التجديدية ومفرداتها الريادية الاصيلة والعديدة التى منحتها سامراء للعمارة الاسلامية، وارتبط حضورها الاول في وجود تلك المدينة الاستثنائية.

لا يمكن الحديث عن عمارة قبة الصليبية بمعزل عن ذكر طبيعة "المناخ" الابداعي الذي وسم مدينة سامراء طيلة فترتها القصيرة التى تقدر بحوالي نصف قرن تقريباً. كما لا يمكن التغاضي عن تأثيرات حواضر اسلامية كبرى في تكريس ذلك المناخ التجديدي ولاسيما تاثيرات بغداد بكون سامراء الوارثة الشرعية لمختلف النجاحات العمرانية والمعمارية للعاصمة العباسية الاولى. واذ اتينا على مجمل النشاط العمراني السامرائي المحموم والمتنوع والرائد في الكثير من جوانبه، فسنجد نماذج تصميمية تجاوزت بلغتها المعمارية ونوعية تكويناتها التصميمية الكثير من امثالها في مناطق جغرافية متنوعة. لنتذكر "مسجد المتوكل

الكبير" (848 -852)، ومقياسه ومقاساته الضخمة، مع مئذنته "الملوية" ذات الشكل الفريد والمؤثر؛ او لنسترجع ظهور الخزف الزجاجي الملون كجزء من مفردات "الانترير" الداخلي للاحياز المترفة في قصور ودارات سامراء العديدة؛ او لنستحضر من بين النجاحات التصميمية، تنويعات اشكال الزخرفة الحائطية وكذلك رسومات جداريات سامراء وثيماتها المميزة والجريئة، ناهيك عن ذكر الممارسات التخطيطية ذات الابعاد الشاسعة وعناصرها البنائية التى اقترنت بها الفعالية العمرانية السامرائية. ثمة ، اذن، نشاط معماري دؤوب ومتعدد ومتنوع وينطوي على مقاييس مختلفة، كان، وقتها، من ضمن الممارسات العادية للفعالية المعمارية اليومية في سامراء فضلا على الخبرة والمهارة العميقتين التين اكتسبهما العمل البنائي ومنظوماته الانشائية جراء عمليات الاعمار الواسعة واشغال التنفيذ التى أُجريت وقتذاك . وفي اعتقادنا، من ان عدم استحضار تلك الاجواء الابداعية، او محاولة اغفال معرفة مناخات العمل التصميمي حينذاك، سيشكل نقيصة معرفية، قد تقف حائلا امام تحقيق قراءة موضوعية وتحليلية للحدث المعماري الذي نحن بصدده وهو ظهورعمارة "قبة الصليبية".

عندما قتل الخليفة " محمد المنتصر بالله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد" (837 – 862 م. <222 -248 هـ.>)، وكان بعمر حوالي 25 سنة وحكم لفترة قصيرة لم تتجاوز ستة اشهر، ارادت امه وكانت مسيحية (رومية)، ان يظهر قبره بخلاف ما هو متعارف عنه باضفاء نوعا من "سرية" على مكان القبر، كما درجت في العادة مراسيم دفن الخلفاء العباسيين. ويذكر المؤرخ العباسي "ابو الحسن المسعودي" (896 – 957 م.) من ان "المنتصر هو أول خليفة من بنى العباس فيما قيل عرف قبره، وبذلك أن امه طلبت إظهار قبره.." (شريف يوسف، تاريخ فن العمارة العراقية في مختلف العصور، بغداد، 1982، ص.355). وكانت تلك العادة تقتضي جهد الامكان التمويه عن مكان الدفن، حتى لاتتكرر أعمال "نبش" قبورهم، مثلما جرى من اخراج جثث وحفر وتهديم لقبور خلفاء واعضاء البيت الاموي اثناء الانتفاضة التى قامت ضد الامويين وافضت، كما هو معلوم، الى انتقال الحكم الى البيت العباسي. ووفقا للمؤرخ "ابو جعفر الطبري" (839 -923 م.)، فان ".. المنصور لما توفي حفر له مائة قبر، ودفن في كلها لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه، ثم قال، وهكذا قبور خلفاء ولد العباس لا يعرف لأحدهم قبر". (المصدر السابق، ص. 356).

يقع مبنى "قبة الصليبية" شمال غرب سامراء الحالية بحوالي 16 كم، وهو مشيد بالجهة الغربية من نهر دجلة. ووفقا للكثير من المصادر والمراجع التى تناولت هذا الاثر المعماري مثل دائرة الاثار العراقية، وكتبات احمد سوسه وشريف يوسف بالاضافة الى دارسيه الاجانب امثال ارنست هيرزفيلد وارشيبالد كريزويل وطبعا اليستر نورثيدج وغيرهم، فان موقع "قبة الصليبية" يبعد بحوالي 1.5 كم جنوب قصر المعشوق <"العاشق"> (877 – 882 م.) ويتشكل المبنى الواقع باعلى تلة ترابية اصطناعية، من شكل ثماني بطول قطر 16 مترا، وثمة شكل ثماني داخلي آخر، اصغر منه يفصله عن الاول برواق يبلغ عرضه 2.6 متر مغطى بقبو نصف اسطواني، يرتكز على عقود في نهايته، وفي كل ضلع من اضلاعه الثمانية الخارجية توجد فتحة معقودة. وشكل العقد من النوع المدبب ذي المركزين الذي شاع لفترة في سامراء. وللمثمن الداخلي اربعو مداخل تقع على محور الجهات الاصلية الاربعة. اما وسط البناء فثمة قاعة مربعة ابعادها 6.3 × 6.3 مترا. وكل باب يكتنفه من الداخل حنية نصف دائرية من كل من الجهتين، ومنطقة الانتقال للقاعة هذة من المربع الى المثمن تكون بواسطة الطاقات الركنية المنفردة Squinches. وهي تؤكد التغطية العلوية للقاعة بالقبة التى سقطت منذ زمن طويل. ويرجح ان مقطع القبة، كان على شكل عقد مدبب. تم ترميم قبة

الصليبية من قبل دائرة الاثار العراقية في السبعينات بضمنها اعادة بناء القبة. واجريت اعمال حفر حول اطراف موقع المبنى، وكشفت تلك الاعمال عن هيكل لبناء مثمن بطول قطر يبلغ حوالي 31 مترا مع غرف موقعة على محيط هذا المثمن، ما يشير بشكل واضح الى تدعيم وسند منصة مفتوحة. كما توجد اربع مراقي (جمع مرقاة Ramp) مكشوفة بمقاسات 7.5 × 12.5 مترا، تصل ما بين المنسوب الارضي واعلى التلة.

عندما نقب "ارنست اميل هرتسفيلد" (1879– 1948) Ernst Herzfeld، المستشرق الالماني في موقع قبة الصليبية، اثناء عمله التنقيبي الهام جدا والرائد والعلمي الذي جرى لاول مرة في موقع سامراء ما بين 1911 – 1913،هو الذي زار سابقاً الموقع مع زميله المستشرق الالماني "فردريك ساره" (1865 -1945) Friedrich Sarre سنة 1905، قام باعداد مخططات للقبة ورسم مخططا مفصلا لها، بابعاد بدت على نحو دقيق، استقاها موقعياً، مع رسم مقطع افتراضي لما كان عليه المبنى قبل انهيار اجزاء كثيرة من جدرانه وقبته. وقد ارتئ بان المبنى الذي يدرسه ما هو الا "ضريح" للخليفة المنتصر المتوفي في سنة 248 هـ. 862 م. (الذي ارودنا اسمه قبل قليل في هذة الدراسة)، استنادا الى ما ذكره "المسعودي"، والى ما افصحت به "ام الخليفة" التى رغبت ان "يظهر" قبر ابنها المغدور. وبالتالي فان "قبة الصليبية" يعد اول نموذج لضريح في العمارة الاسلامية، وهو حدث هام اضافة بكونه رائدا وغير مسبوق، فانه كثير الاهمية لتأسيسه "نوع" Type من الابنية التى ستكون امثلتها التصميمية المتواجدة في نواحي وامكنة العالم الاسلامي، (والمعتمدة على النموذج السامرائي الرائد)، ستكون، لاحقاً، من كنوز العمارة الاسلامية.

معمار وأكاديمي

الصور:

1- منظر جوي لاطلال مدينة سامراء العباسية (836 -892).

2- قبة الصليبية (862 م) (صورة قبل الترميم تعود الى سنة 1911).

3- قبة الصليبية (862 م): مسقط ومقطع (من عمل ارنست هرتسفيلد.)

4- قبة الصليبية (862 م)، مجسم افتراضي للمبنى.

5- قبة الصليبية (862 م)، بعد الترميم (سبعينات القرن الماضي)