اطلق عليها إرنست همنغواي لقب "أكثر النساء إثارة على الإطلاق" بينما ألهمت كريستان ديور وبابلو بيكاسو من بين آخرين


تقديم : إيمان البستاني

تحت أضواء المسرح الحارقة، خرجت (جوزفين بيكر) أمام الجمهور عارية تمامًا، ألا من عدد قليل من ريش الفلامنغو. حملها شريكها في الرقص مقلوبة رأسًا على عقب، وكانت ساقاها الطويلتان النحيلتان تتلوى بشكل مغر، أنزلها وبدأت ترقص، الضوء المنسكب على بشرتها ذات اللون البني، بدا جسدها تحته وكأنه يذوب كالشيكولاتة، لبضع لحظات بقي جمهور باريس صامتاً وكأنه مذهول، ثم وقفوا جميعاً كواحد وانفجروا في تصفيق منتشي.
نالت بسهولة لقب "الزهرة السوداء" أطلق عليها (بيكاسو) لقب "نفرتيتي الآن" وصفها المؤلف الأمريكي الشهير (إرنست همنغواي) بأنها "أكثر النساء إثارة على الإطلاق".
كانت بداية مهنة غير عادية، جوزفين بيكر، الفتاة من الحي اليهودي في سانت لويس من ولاية ميسوري الأمريكية، صعدت لتصبح واحدة من أعظم المغنيات على الإطلاق، وأيقونة في عصر الجاز، موهوبة وساحرة، ولكنها أيضًا فاسِقَة.
اليوم، كل ما يتذكره الكثيرون عنها هو أنها رقصت عارية باستثناء توتوها الشهير المصنوع من الموز (المزيف).
قدمت عنها مسرحية، من إخراج فيليدا لو - والدة الممثلة إيما طومسون - لجمهور مسرح لندن تحكي عن قصتها من الفقر إلى الثراء.و طرح فيلم عنها لعبت دورها الفنانة المثيرة للجدل (ريهانا) بينما تحملت ريهانا نصيبها من الفضائح، فإن تناولها للمخدرات واستعراضها الجريء تتضاءل مقارنتها بمآثر جوزفين المذهلة.
على الرغم من أن جوزفين ربما تكون قد تصرفت كأنها (ديفا ) مغنية من الطراز الأول، أنفقت ثروتها بإسراف، وتصرفت بشكل فاضح، و جذبت عشاقها (ذكورًا وإناثًا) بالمئات، إلا أنها كانت أيضًا شجاعة ومبدئية، تجسست لصالح المقاومة الفرنسية وشنت حملات ضد الفصل العنصري في أمريكا.
ولدت عام 1906، والدتها (كاري ) كانت راقصة سابقة، والدها - كما يُعتقد - عازف طبول اسمه (إيدي كارسون) الذي غادر بعد وقت قصير من ولادة شقيق جوزفين الأصغر.
كان لدى كاري طفلان آخران، لكنها كافحت لدفع الإيجار على أجر غسالة ملابسها وانتقلت الأسرة من منزل قذر إلى آخر.
ألقت كاري باللوم على ولادة جوزفين في النهاية المبكرة لمسيرتها في الرقص وكثيرا ما كانت تضربها. قالت جوزفين عن والدتها لقد "كرهتني وتمنيت لو أموت".
ثم، في عام 1917، عندما كانت جوزفين تبلغ من العمر 11 عامًا، اندلعت أعمال شغب عرقية في مسقط رأسها في سانت لويس. غزت حشود من المشاغبين البيض مناطق السود، مما أسفر عن مقتل 100 شخص. شهدت جوزفين إطلاق النار على رأس صديق والدها، وتقطيعهم لامرأة حامل، تركها ذلك مع كره شديد للعنصرية وتصميمها على الهروب من سانت لويس.
في محاولة يائسة لترك حياتها المنزلية البائسة وراءها، تزوجت في حفل غير رسمي في سن الثالثة عشرة من (ويلي ويلز ) وهو رجل يبلغ ضعف عمرها التقت به أثناء عملها كنادلة. بشكل مثير للدهشة، لم تواجه سلطات ميسوري (التي لم تهتم كثيرًا بنوع العلاقات التي تحدث داخل المجتمع الأسود) ولا والدة جوزفين القاسية أي مشكلة في زواجها في مثل هذه السن المبكرة.
لكن الزواج لم يجلب لجوزفين أي سلام، كانوا يتجادلون باستمرار وفي إحدى المرات ضرب ويلي جوزفين على رأسها بزجاجة و غادر ولم يستمر زواجهما اكثر من ثمانية أشهر .
بعد ذلك بفترة وجيزة، شوهدت جوزفين وهي ترقص في الشارع وتم اصطحابها في جوقة فرقة متنقلة (ديكسي ستيببرز ) حيث أخذت المغنية الرئيسية جوزفين تحت جناحها - وفي سريرها - ودربتها على الغناء.
عندما غادرت فرقة (ديكسي ستيببرز ) سانت لويس، ذهبت معهم جوزفين، كانت تتقاضى 10 دولارات في الأسبوع وكان من المتوقع أن تقدم فتيات الكورس خدمات جنسية للداعمين الماليين للبرنامج.
عندما وصل العرض إلى فيلادلفيا، التقت جوزفين رجل طيب اسمه (ويلي بيكر) و كانت لا تزال تبلغ من العمر 15 عامًا، تزوجته - رغم أنها لم تطلق زوجها الأول.
اختيرت أداءً لمسرحية موسيقية سوداء بالكامل وفازت بدور في الجوقة. تركت فيلادلفيا وزوجها وراءها. بدأت في إضافة تحولات كوميدية إلى الرقصات، وألغت المشاهد التي كانت لفتيات أخريات انتقاماً منهن اللواتي أطلقن عليها اسم "القرد".عززت مكانتها كنجمة في العرض من خلال علاقتها الجنسية مع المنتج، قام العرض بجولة في أمريكا وحصل على اشادة كبيرة كانت جوزفين على أعتاب النجومية.
في عام 1925، عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها، رصدها منتج يبحث عن مغنية تقوم بالبطولة في ملهى ليلي أسود بالكامل في باريس، ترددت في مغادرة الولايات المتحدة، وتم إقناع جوزفين بشيك راتب قدره 200 دولار في الأسبوع.
لقد شعرت بالإهانة عندما أخبرها المنتجون، قبل أسابيع قليلة من افتتاح العرض، أنه يتوجب عليها الرقص عارية الصدر، و عندما رفضت، هددت بالعودة إلى أمريكا، أخبرها المنتجون ببساطة أنها لا تستطيع الحصول على تذكرة العودة إلى بلدها حتى تفعل ما طلبوه منها، لم يكن أمام جوزفين خيار سوى الامتثال.
ولكن بعد نجاحها المثير في الليلة الأولى، توافدوا مصممو الأزياء لتصميم ملابسها طمعاً بالشهرة، وتلقت الآلاف من عروض الزواج من المعجبين المحيطين.
على الرغم من أنها كانت تحب باريس ومساواتها العرقية النسبية، إلا أنها كانت وحيدة ومحبّة للوطن، وملأت جناحها بالفندق بالحيوانات: أرنبان وثعبان وببغاء وخنزير يدعى ألبرت.
لم يمض وقت طويل قبل أن تصطادها قاعة الموسيقى الشهيرة (فوليز بيرجير) هناك عرضت أشهر عروضها بملابسها الجريئة (توتو الموز) وقد صممه الكاتب المسرحي والمصمم (جان كوكتو ) من أجل "رقصة الغاب" ويتألف من تنورة من الموز المزيف والتي تم رشها في عروض لاحقة باللون الذهبي و المرصعة بكريستال الماس.
نمت شهرتها، تم بيع دمى "جوزفين" وقصَّت النساء الأنيقات شعرهن بقصة "جوزفين" الأنيقة. أراد الجميع أن يعاشر الزهرة السوداء وكان لديها مئات العلاقات من الرجال والنساء. قال الكاتب البلجيكي (جورج سيمينون )الذي كان يتباهى بامتلاكه 10000 عشيقة في حياته، إنها كانت المرأة الوحيدة في باريس التي يمكن أن تضاهي طاقته الجنسية.
كان العاشق الصقلي (ببيتو دي أباتينو) أحد العشاق الذي أصبح بعد ذلك مديرها وأقنعها بفتح ملهى ليلي خاص بها أسماه (عند جوزفين) حيث غنت ورقصت و غازلت .
صنعت فيلمين ناجحين، لتصبح أول ممثلة سوداء تلعب دور البطولة في السينما السائدة. قامت بجولة في أوروبا لتلقى استحسانًا كبيرًا، متجاهلة استهزاء الفاشيين والعنصريين، وحتى قنابل الأمونيا التي ألقيت عليها على المسرح.
على الرغم من أنها تعيش مع بابيتو، فقد صاحبت عشاقًا آخرين، أمير سويدي، ومهراجا هندي يمطرها بالجواهر، وراقص وسيم وممثلة أمريكية.
كانت تتجول في باريس تقود فهدًا مروضًا يرتدي طوقًا من الماس واشترت قصراً كبيرًا في الضواحي كان مليئا ًبالقرود الأليفة، لكنها لم تنس أبدًا فقر طفولتها، كانت تدفع في كثير من الأحيان فواتير جيرانها الأفقر وتتبرع بسخاء للأعمال الخيرية.
بعد وفاة ببيتو في عام 1937، تزوجت من الصناعي الفرنسي (جان ليون) ساء الزواج عندما حاول تشكيلها لتصبح ربة منزل مطيعة.
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، تم تجنيد جوزفين من قبل المخابرات الفرنسية لجمع المعلومات في الحفلات و كانت معادية بشدة للنازية، حتى أنها قادت طائرة تقل إمدادات الصليب الأحمر إلى بلجيكا.
في عام 1940، عندما غزاها الألمان، غادرت باريس إلى قصرها في دوردوني، حيث أخفت فيه بشجاعة مقاتلي المقاومة، عندما جاء الجنود الألمان لتفتيش المنزل، أغرتهم بحيلها على المغادرة - وساعدت على إخراج الهاربين من فرنسا في خطر شخصي كبير.
قامت بجولة في إسبانيا والبرتغال المحايدة، و قامت بتهريب رسائل للمقاومة مكتوبة بالحبر غير المرئي في ملابسها الداخلية بتحدي : "من يجرؤ على البحث عن جوزفين بيكر؟"
كما أحيت حفلات موسيقية مجانية لقوات الحلفاء في شمال إفريقيا، حيث تحدت الصحاري المليئة بالألغام الأرضية وتحملت ظروفًا قاسية دون شكوى.
عادت إلى باريس في عام 1944 بأستقبال البطلة، وحصلت على ميداليات عديدة، أنفصلت عن (جان ليون) وتزوجت من قائد فرقتها (جو بويون)عام 1947.
قبل وقت طويل من أن تبدأ الممثلة (أنجلينا جولي) في جمع الأيتام، كانت جوزفين تحلم بإنشاء "قبيلة قوس قزح" من الأطفال من جميع الألوان للعيش في مجتمع مثالي في قصرها، تبنت 11 فتى وفتاتين من كوريا واليابان وكولومبيا وإسرائيل وأفريقيا وفنزويلا وفرنسا.
كانت مصممة على منحهم الطفولة السعيدة التي حُرمت منها، لكنها كانت غير متسقة، تمطرهم بالهدايا ثم توبخهم بشدة، تربيتهم تركت إلى حد كبير للمربيات.
في عام 1951 قامت بجولة في أمريكا، بعد أن قاتلت ضد النازية، شعرت بالذهول لأن العنصرية لا تزال سائدة في البلاد. تحدثت ضد الفصل العنصري، دون أن تردعها تهديدات (كو كلوكس كلان ) ورفضت تقديم عروضها في أماكن لم تسمح للسود، مما أجبر الكثيرين على تخفيف قواعدهم، لقد كان انتصارًا كبيرًا للحقوق المدنية.
في أغسطس 1963 - كانت بجانب (مارتن لوثر كينغ) في مسيرة واشنطن عندما قال لأمريكا: "لدي حلم". ألقت خطابًا أيضًا، مرتدية زي الجيش الفرنسي الحر والميداليات.
على الرغم من أرباحها الهائلة، كانت جوزفين ميؤوس منها بالاحتفاظ بأموالها وبدأت ثروتها في النفاد.
في عام 1968 ، انفصلت تمامًا، وانهار زواجها من (جو بويون) فقدت قصرها بسبب الديون غير المسددة وانتقلت إلى شقة عرضت عليها الأميرة (غريس كيلي) في روكبرون بالقرب من موناكو مؤلفة من غرفتي نوم لتقيم فيها مع جميع أطفالها في سنواتها اللاحقة.
عادت جوزفين إلى خشبة المسرح في أولمبيا في باريس عام 1968 ، وفي بلغراد قاعة كارنيجي عام 1973، وفي عرض (رويال فارايتي بيرفورمانس) في بالاديوم لندن وفي حفل (غالا دو سيرك) في باريس عام 1974.
وفي 8 أبريل 1975، لعبت جوزفين دور البطولة في مسرحية استعراضية في بوبينو في باريس بمناسبة مرور 50 عامًا على بدء عروضها ، كانت المسرحية الأخيرة ممولة بشكل خاص من قبل الأمير (رينييه) والأميرة (غريس )و (جاكلين كينيدي أوناسيس) كان الطلب عالياً ليلتها على الكراسي القابلة للطي التي يجب إضافتها لاستيعاب المتفرجين. ضم جمهور ليلة الافتتاح (صوفيا لورين) (ميك جاغر) (شيرلي باسي) (ديانا روس) و( ليزا مينيلي) .
بعد أربعة أيام، تم العثور على الزهرة السوداء راقدة بهدوء في سريرها محاطة بالصحف المحشوة بتعليقات تشيد بأدائها المتوهج. كانت في غيبوبة بعد إصابتها بنزيف في المخ، تم نقلها إلى مستشفى ، حيث توفيت عن عمر يناهز 68 عامًا في 12 أبريل 1975.
حصلت على جنازة كاثوليكية رومانية كاملة أقيمت في( ليجليز دي لا مادلين) المرأة الأمريكية المولد الوحيدة التي حصلت على مرتبة الشرف العسكرية الفرنسية الكاملة في جنازتها، كانت جنازة جوزفين بيكر مناسبة لموكب ضخم لتدفن في مقبرة في موناكو .