(1)

كلما نظرَ صوبَ ذلك الزمن
الذي غدا كهلاً وندّاً للأطفال والأحلام
قال: ما هو نوع التحية
التي يمكن أن يلقيها الثائرُ القديمُ على ثورتِه؟
إنه وهنٌ الآن وثمة عطرٌ يتموَّج من عينه العميقة ويصعد
لكن السماء تبدو نحيلةً أيضا
وبالكاد تحاول أن تمسكَ يدُها شيئًا منه
هل يقول السلام عليكِ
أيتها الإشراقة الملفوفة بغبار الشهود الميتين؟
لكنَّ السلام يريد فمًا يردُّ عليه السلام

يقول في نفسهِ: لا تنصت
حتى وإن كانت تحيتُك مردّها كلمةُ "مجنون"
تهمس بها المرأةُ المَرحةُ وهي تلبط الآن في بطن الثورة.
يقول في نفسه: لا تلقِ التحيةَ
حتى وإن ظننتَ جيشًا من الأفواه سيغرقك بموج التحايا
...
هذا هو الصوت اليابس
في اللوحة المرمية في غرفة غريبة
يقطنها رجلٌ غريبٌ كان ثائرًا غريبًا
لكنه فجأة رأى نفسَه
في حشدِ ثائرين غرباء
يفكرون بنوع التحية التي سيلقونها على ثورتِهم
بعد أن يصبح زمنُهم كهلاً وندّاً للأطفال والأحلام
..

(2)
يعرفُ أنه ليس أمامه
سوى هذه الفكرة التي سطعت مرةً ومرتين
لكنه أغلق نافذةَ البحرِ دونها
وكنس كلَّ ذلك الضوء المتبقي
ورمى به من الأعلى في فم العالم.
اليوم يعيد التفكيرَ في فكرتِهِ
يعيد لها أرضَها وماءها بسلام مهيمن
أن يقسِّم حياتَه إلى أغنيتين مفرغتين
من الموسيقى والحزن والحلم 
وعلى مهل يأخذ الأغنية الواحدة
ويقسمها إلى رنينين مختلفين، منطفئ ومخطئ،
ويأخذ الأغنية الثانية ويقسمها إلى عملتين معدنيتين
لهما قوميتان مختلفتان وعقيدتان مختلفتان
ثم يقول وهو يرمي بضوء روحهِ
من حبل العالم إلى فم النهاية العميق:
يا لهذا العدم كم التهم من المادة والشيء
حتى صار شيئًا
له اسمٌ وله جسدٌ أدمنَ الطعامَ والشراب
..

(3)
من العين في الأرض المرتفعة حيث ينبع العراك
حيث تولد الصرخاتُ تحت العشبِ الحار
حيث كلُّ سمكة تريد ماءها
حيث يفقسُ البيتُ قربَ البيت
وتخرج الأحلام مشوهةً تتلاطم
...
فصولٌ حادةٌ تكنس على مدارِ الوقت
الرحمةَ والأوكسجين
سنواتٌ طوال لها أمعاء تتنفس بإحراج
ورأسٌ يدلِّكه الخوفُ وتصفر الكبرياءُ حول رقبته
نزل من هناك
يتدحرج مع كلماتِه وفراشات الدهشة
يتدحرج أكثر

ويرتفع قلبُه في الهواء المطبوخ بالسحب والملوحة
بين الممرات العميقة المسقفة بالرخام والشعارات
كان يمضي ويحني رأسه للعواطف
والدكاكين ومتاحف الأقمشة
ليرى الضحكَ الذي يخرج من الأصابع
ورداتِ الندمِ العشوائي في عيون السكارى
التراثَ المحنطَ في العربات
وهي تجرُّ الحياةَ بثومها وبصلها وبقولِها
بين الحارات والروايات واليتامى المغرمين بالأمل
إستغرق في الشوارع والمعابد
في الحانات والكتب والمهرجانات والتعب
وها هو،
حياته تنظر من عينٍ في أرض مرتفعة
ينبع منها العراك
...

(4)
لا الطعنات الحارة
التي سدّدتها إلى خاصرة غربتِهِ
وردةُ الشعر (المحترمة)
ولا وابل المناقير وهي تطحن بصَيصَه بغنائها الأسود
ولا العهود التي أراق دمَها
أمامَ دهشتهِ فمُ الحنان الرطب
ولا سرير الأحلام الضيّق
الذي نزلَ من عليائه
وهو ينـزف سنينَ رغبته كلها بيضاء غير منقوصة
ولا العين الجامحة التي أشاعته في الدكاكين بلا ضمير
كل ذلك لم يحي نسيانه الميت
ويعيده الى بيت أهلهِ
***