كتابة - إيمان البستاني

في الغايات يأخذنا (يحيى الشيخ) بلا كلام إلى عوالم محرّم دخولها إلا ّعلى العارفين، طلاسم العالم القديم، ثقافات شعوب فيها السومري والفارسي والفرعوني والأفريقي كلها نُفذت بهندسة فن و دراسة تناسقية لأظهارها على الشكل الذي خرج به الكتاب، تحفة منجز ، يهدينا نحن أصحابه وتلامذته كتاب (الغايات) وكل نسخة منه موقّعة ومرقّمة بخط صانعه دليل ندرة إصدار يهبنا إياه، فقط (500) نسخة كان نصيبي منها كتاب حمل تسلسل (151) مع إهداء له طعم احتفال تخّرج بشهادة جامعية

الغايات، كتاب أسود لماع له مهابة، فاخر الطبعة تصميمه كان من تحت يمين مؤسسة (إنانا) لتكنولوجيا المعلومات المعروف عنها بالإبداع، وخطوط الغلاف للفنان العراقي المغترب صاحب الحرف العربي وقيمته الجمالية والرمزية في الفنون التشكيلية (جودت حسيب)، في مفتتحه مقال للشاعر والمترجم الليبي المعروف (عاشور الطويبي) بعنوان (غايات يحيى الشيخ) ومقال ثاني للناقد التشكيلي العراقي المقتدر (سهيل سامي نادر) وهو يروي لنا حكاية (الغايات) و كيف أوقظ (يحيى الشيخ) تعاويذ و طلاسم العالم القديم

بات الكتاب رفيقي بعد ان وصل جافاَ معافى في يوم مطير مونتريالي لا سابق له، أعلمني قلبي بموعد وصوله، كان يومي احتفالياً، قلّبته بلهفة لأقرأ الأهداء، هو كتاب لا تنفع معه قراءة واحدة ولا تصفّح بل ملازمة كظل، كثيراً ما يفاجئني في امكنة كنت قد تركته ونسيت ان اعيده لرفوف مكتبتي رغماَ انها ليست من طبائعي، تارة أجده فوق حقيبتي اليدوية تحت المنضدة او فوق سرير ابني و مرة واحدة كان فوق كيس الرز، كل صفحة من ال 266 صفحة بالحجم الكبير هي كنز من طلاسم رسمها يحيى كفنان وكتبها كساحر وحمّلها بأسرار ككاهن، خاف على إرثه من الزوال، فأخذ يرسم و يضيف من ذاكرته الكبريتية على مدى ثلاث سنين شمسية، طلاسم ليلية يبدأ بها الكتاب، كُتبت بالأبيض كأنه جصّ بناء على ورق أسود تذوب أحيانا نهايات بعض كلماته، تستنتج غاية الطلسم بعد أن تشقلبه أو تدور معه لتقرأ كلماته و أحيانا تغلب في فك أسراره...ستنتصر ان كنت ترجو نصراً على الأعداء و تحمي دارك من ضيف اسمه الشر إن نقشته على طاسة و دفنتها عند العتبة او أن تذوّبه بماء وتشربه شفاء من حمى أو مرض، أو لتزويج أي امرأة برتبة عانس، أو لحبل عاقر نشف رحمها علاجها درزن قنافذ تُرسم على وسادتها، طلاسم يحيى الشيخ بهيئة حيوانات خرافية كأنها (مشخشو) رمز الألهة مردوخ المرسوم على بوابة عشتار أو أحيانا طيور نصفها ريش والمتبقي منمش تلتقط بمناقيرها عظم آدمي او أسماك بجسم صاروخي أو تجده يكثر من العقارب ولا يغيب الثور بقرنيه من المشهد أو اشكال آدمية كأنها عيدان خشب، تعرف جنسها من عضوها التناسلي، طلاسم لتذليل صعاب حياتنا الأرضية، لسعد العرسان، لجري المال، لفك أسر المحبوس، لعقد الألسنة، لإخضاع الحبيب المتجبر أو لجلبه على الفور شاء أم أبى


النصف الثاني من الكتاب، غايات نهارية وفيها طلاسم تم تنفيذها بحبر أحمر كأنه من ماء زعفران يشتد لونه في مكان ويبهت في مكان آخر من الورقة والتي اختارها جميعا بيضاء مصفرة و أحيانا يلوث قلم الزعفران بقعته فيبدو وكأنه طلسم شاخ من طول السنين، طلاسم يحيى الشيخ إرث عتيق وظفه بفنه المتفرد فقام برسم الأشكال و كتابة النصوص لبعض منها في حين هناك صفحات احتوت رسوم فقط تشد انتباه المتلقي لأنفاسها القديمة وغاياتها العتيقة ينفع أن تجبله بالطين لأنه موروث مقدس جاء على ذكره كثيراَ في كتبه السابقة، في (سيرة الرماد) حين كانوا ثلاث صبية مع ساحر عندما تاهو في صحراء (نقرة السلمان) السجن الذي استضاف نصف العراقيين، وهو نفسه الكتاب الذي خبأه تحت ركام الحطب قرب تنور والدته حين جاء على ذكره في كتابه (الشوق) في رحلة جبل حمرين و كيف أقسم ان يستنسخه وبدأه بجملة ( ليس أنا في المرآة. أنا ابن أمي الطاهرة – اسمي واسم أمي وأمها خارج الزمان والمكان يحملني زيوا على جناحيه الناريين،......)

تتجلى براعة اتقان يحيى الشيخ في اظهار الرسوم التي وظف أشكالها و شخوصها السحرية بدلالات و رموز بدت كأنها قادمة من عوالم ليليث الموغلة في الزمن، رونق الخط و غموض التشكيل مع الحفاظ على لغة الطلسم القديمة وأسماء خدّامه و بخوره و توزيعه للأرقام الفلكية و ربطها بأعضاء الجسم جعلت من الكتاب منجزاً بصرياً له تصنيف تراث و معتقدات شعوب قديمة

يتكرر ذكر اسم نهر الفرات في الطلاسم وجاء اسم النيل مرة وهو ابن دجلة وهو الذي ارتمس بمائه عند جرف قرية (اللطلاطة) حيث اعتاد نهر دجلة أن يغازلها و يتلطلط على جرفها إحدى قرى قضاء (قلعة صالح) في محافظة ميسان العراقية يفصلهما بستان قيل إن الناس تخافه ليلاً، هناك وُلِدَ وهناك منحه أهله اسم نبيهم، يحيى الشيخ، الفنان المختلف جداً عما هو سائد، بيئته الأولى كانت معلمه الأول يحبُ ان يكون نفسه، لقد كان دوماً أميناً لنفسه ويكره ألاّ يكون كما هو حقاً، وحباه الله بالفن متعدد (الأناوات) ; رسام، شاعر، أستاذ جامعي، سيري، نحات، قاص… شخصيات يتنقل بينها ولا يرتوي من شخصية واحدة، يؤمن بأنه من الظلم ان تكون ثمّة حياة واحدة، عندما شد رحال غربته بعيداً عن حياةٍ لم تعد قائمة لم يقوَ على قطع حبله السرّي بوطنه و بقت جذوره ملتاعة تُسقى من دجلتها رغم سكنه نوردية الكرة الأرضية.