شخصيات كثيرة تتصارع للخروج والوقوف أمامي، كل لها حكايتها منها المؤلمة ومنا المضحكة ومنها المبهمة والتي تجعلني حائرة كيف أتعامل معها، وفي نهاية النهار أعيدها للصندوق القابع في ذهني كي استعيد راحتي لكنني اجد نفسي بأنني أعيش مع هذه الشخوص المتصارعة كما اكن في فصل دراسي تتزاحم فيه الطلبة من الجنسين في طرح نفوسهم على منضدة النقاش، ماذا سأناقش؟!!! فكرت ملياً في إطلاق سراحهم جميعا لعلي استريح.
تسالت يمكنني إطلاق سراح هذه الشخوص التي تقبع في الأعماق والتي تتصارع من اجل الخروج على مسرح الحياة وطرح تجربتها الخاصة، اما للشهرة او لتقديم خبرتها للاستفادة منها.
حيرتني احد الشخوص المبهمة القابعة في ذهني ،حاولت عدم التقرب منها لكنها بقيت تلح علي بان أدعها تحكي لي قصتها، وكنت أتوقع كشئ طبيعي انها قصة تتعلق بالحب والعائلة والغيرة الى أخرهِ لكنها سحبتني بقوة اليها وقالت هل تعرفين كم ابلغ من العمر؟
العمر سيدتي عندي لا يهم والمهم هو كيف نتعامل معه ، قالت وكيف يتم التعامل مع التجربة التي ترفض ان تموت ، ترفض ان تعلن الانسحاب رغم مرور الزمن الطويل عليها!!! قلت لها إذن انها قصة حب، بل قالت احسبيها كما تشائين ، لكنني احسبها العمر كله من حلوهِ ومرهِ ، من مطابقته لما تزعمين او بعكسه، الذكي هو من يعرف كيفية التعامل مع الحدث لكنني حسب اعتقادي بأنني فشلت ، لكن فشلي صامت، دفنته بالأعماق وتبنته إنسانه غاضبة قابعة في أعماقي تدفعني منذ زمن بعيد لأعمل شيئا لكنني كنت اخرسها، اعرف انني ظلمتها ولكن واقعي بل واقعنا يحتمُ علينا التستر خلف اثوابٍ اشتراها لنا الغير ، واختار الوانها الغير، ووضع مقاسها الغير وعلينا لبسها، لقد احترقت جميع السبل لإيجاد منفذ اخرج منه، وانتفضت بعصبية لم أعهدها منها
قبل " أنكي تتهربين من الصراحة"، صرخت بها ، والآن جاء دوري بإعلان الاحتجاج لكنني لم املك الرد، إعلنها بصراحة تعبتُ من الجدال ، احس بأنني محبوسة داخل الثوب الذي اختاره لي الغير وهذا اصعب ما مررتُ به
لحظتها

رايتها من شباك نافذتي تسير بخطى رتيبة كعادتها كل يوم، كم انا فضولية، كم انا حشرية كما يسمي البعض الفضول، ليست من عادتي ان أتدخل بشؤن الاخرين، انها اكثر الانتقادات التي كان توجه لي ، زوجي ينتقدني دوماً لرفضي التدخل ، انا احب الابتعاد عن المشاكل منذ صغري ، ولكنني هذه المرة اود معرفة هذه السيدة التي تمر من تحت نافذتي بنفس الوقت وبنفس الخطى المحسوبة، اريد ان اعرف الى اين تذهب كل يوم وبنفس الوقت؟ من هي؟ انا واثقة ان هناك قصة وراءها . انتظرتها في اليوم التالي وأسرعت الخطى لأتناول سلالم بيتي واركض نحو الباب لانتظرها تمر من امام بيتي ، وقفت عند الباب لدقائق وإذا بها تمر من امامي، امراءة في منتصف الستينات من عمرها تلبس بلوزة رمادية وبنطلون اسود وتحمل في يدها حقيبة نسائية سوداء اللون تعود الى فترة الخمسينات من الزمن الماضي، مرت من امامي كشبح مصفرة الوجه تجر خطاها ببطئ، اغلقت الباب خلفي ومشيت اتبع خطواتها، سارت وانا أسير لا اعرف اين ذاهبة لكن فضولي دفعني الى تتبعها وبقينا نمشي حتى وصلت الى موقف باص عام وجلست على المقعد ، شبكت يديها محتضنة حقيبة يدها ، جلستُ الى جانبها أردت ان اعرف الى اين ستذهب وأي باص ستأخذ!!! مرت العديد من الباصات بأرقام مختلفة ولكنها لم تستقل اي واحدة منها، التفتت نحوي وبابتسامة شاحبة سألتني " هل تنتظرين أحداً مثلي؟ " ، نظرت الى وجهها بكل دهشة وسألتها وهل تنتظرين احداً؟ سكتت وأشاحت بوجهها الى الجهة الثانية وبالتفاتةٍ سريعة أدارت رأسها باتجاهي ولكنها لم تنظر الى وجهي ، لقد كان نظرها بعيداً كأنها تبحث عن شي أم تنتظرُ شخصاً تاخر عليها. عادت فسألتني هل تنتظرين أحداً وعدكي بالمجئ ولم يأتي؟ كذبت عليها وقلت نعم وسألتها هل تنتظرين أحداً وتأخر عليكي؟ قالت والالم على وجهها نعم، انني انتظره كما وعدني باننا سنلتقي في موقف الباص لكنه لم يأتي وقلت ربما يأتي غداً وغداً وغداً وكم من غدٍ انتظرته لكنه لم يأتي، انا واثقة انه سياتي الى مكان لقيانا ، كنا نتواعد على ان نلتقي هنا ومنها ننطلق ، كنا نقضي اجمل الأوقات بالمشي والجلوس على ضفاف النهر، كان يغني لي ويضحكني، وفي يومٍ قال لي ساتاخرُ غداً عن موعدنا بعض الوقت لوجود مشاغل اريد ان أتخلص منها، وكالعادة ودعني، وجئت غداً لكنه لم يأتي، لم استطع ان اسأل عنه تلفونياً لانه لا يوجد في وقتنا جوالات او محمول كما تسموه الان. سألتها وكم مرَّ عليكي من الوقت وانتي تنتظريه وتعتقدين بانه سياتي؟ قالت خمس وأربعون سنة ، لقد ضاعت السنين من بين أصابعي وملئ الشيب راسي وخرجت على المعاش ولن أتوقف في اي يوم عن المجئ هنا وانتظاره لانني اعلم بانه سياتي. سادني صمت رهيب وبقيت ابحث عن كلمات أداوي بها فضولي لكنني عجزت، وبعد دقائق اخرجت من حقيبتها ورقة صفراء وقالت لي " أقرئي، انها رسائله التي يقول لي بانه يحبني فكيف لي ان اصدق بانه لن يأتي؟ " اختنقت وأردت البكاء لكنني احترمت الصمت والحيرة اللذان سادا المكان، لا أدري كم بقيتُ انتظرُ معها لعله يصل لمن تنتظره، نهضت وودعتني بابتسامة حيرى وقالت انا واثقة بانه سياتي غداً ومشت لكنني لم اتبعها لان مفاصل ساقي ابت ان تتحرك وعليه بقيت جامدة على مقعد محطة الانتظار خشوعاً واحتراماً لسنوات ضاعت من حياة انسانة ضاعت مع السنين