كتابة - إيمان البستاني
كلوديوس جيمس ريتش، ينادونه البغداديون ب (ريج) وأحياناً (رج) كما خطّ له نقّاش بغدادي ختماً كتب عليه :(كلاديـس جيمس رج، بلـغ العلى بكماله، كشف الدجى بجماله، حـسنت جميع خصاله، صلوا عليه وآله”!) حين كان يشغل منصب ( المقيم البريطاني ) في بغداد خلال الفترة ١٨٠٨- ١٨٢١ وكان ايضاً مندوباً لشركة الهند الشرقية في بغداد.
هو رجل استثنائي لمؤهلاته الفائقة؛ إداري، رحّالة، مؤلف، رسام ، جامع مخطوطات وقطع أثرية، وذو موهبة فريدة في اكتساب اللغات منذ سن مبكرة. فحين كان في الثامنة أو التاسعة من عمره، ألهمته بعض المخطوطات التي رآها في مكتبة أحد النبلاء في المدينة الإنكليزية (بريستول) إلى تعلم اللغة العربية. وعند بلوغه الخامسة عشرة من عمره، كان قد ألم بعددٍ من اللغات الشرقية الأخرى، يتحدث عشر لغات من بينها العبرية والسريانية والفارسية والتركية .
عند عمر السابعة عشر سنة ١٨٠٤ عُيّن ريتش كاتبًا في شركة الهند الشرقية وسافر إلى مصر، حيث أصبح مساعداً للقنصل العام. أتاحت له هذه الوظيفة الفرصة لإتقان اللغة العربية واستكشاف فلسطين وسوريا. حتى أنه تمكن من دخول المسجد الأموي الكبير في دمشق متنكرًا، ما كان متعذرًا جدًا على زائر غربي آنذاك.
وعلى أثر زواجه من (ماري) ابنة حاكم بومباي السّير (جيمس ماكنتوش) بدايـة عام ١٨٠٨، عُيّن في منصب المقيم البريطاني في بغداد، حيث أثبت ريتش تمكنه من الإدارة. والأهم من ذلك، تمكن في أوقات فراغه من تفحّص المواقع الأثرية القريبة منه، ومن جمع العملات المعدنية والمخطوطات الشرقية وغيرها من التحف. ونتج عن زياراته لآثار بابل في نهاية المطاف نشر مجلدين من المذكرات التي توثق ما شاهده هناك.
في سنة ١٨٢٠، وريثما كان يعاني من وعكة صحية، قرر ريتش السفر إلى كردستان. وقد أثمرت هذه الزيارة عن أهم مؤلفاته (سرد لإقامة في كردستان) حيث شكّل الكتاب أول وصف جغرافي وأثري للمنطقة في القرن التاسع عشر .
و في سنة ١٨٢١ كان ريتش على وشك تولي منصب مهم عرضه عليه حاكم بومباي، عندما أُجبر على نقل المقيمية من بغداد بعد خلاف مع الوالي العثماني. وقام بعدها برحلة إلى شيراز، حيث زار آثار برسبوليس وقبر كورش الكبير. وفي شيراز، أُصيب بمرض الكوليرا. وعلى الرغم من (كل المساعدة والرعاية) التي نالها، إلا أنه توفي في الخامس من أكتوبر ولم يتجاوز (٣٤) عاماً من عمره ودُفن في جهان نما، وهي حديقة ملكية فارسية.
وفي سنة ١٨٢٢ زار قبره (ويليام بروس)، المقيم البريطاني في بوشهر، فوجده (مدمراً تقريباً بسبب الثلوج والأمطار في الشتاء المنصرم). فأوصى بروس بإنشاء ضريح من الرخام بدلاً منه. ويذكر النقش فوق الباب أن الضريح أُنشئ (إعراباً عن الاحترام
والتقدير لمكانة الراحل وإلمامه الواسع بالأدب الشرقي). وقد أعيد دفن رفاته في الكاتدرائية الأرمنية في أصفهان سنة ١٨٢٦.
وبعد خمسة عشر عاماً من وفاته، نشرت زوجته في عام ١٨٣٦ نصّ رحلته إلى كردستان وأضافت إليه خارطة لنينوى، ووصفاً لمنحوتات كان قد جمعها من الخرائب، كما أضافت مقاطع من مذكراتها هي في رحلتها من بغداد إلى السّليمانية في كتاب تحت عنوان (رحلة ريج المقيم البريطاني في العراق عام ١٨٢٠م إلى بغداد - كردستان - إيران) نقلها إلى العربية سيادة اللواء (بهاء الدين النوري) عن الدار العربية للموسوعات، ٢٠٠٨ م.
الكتاب يقع قي ( ٤٣٢) صفحة ومقسم الى أثني عشر فصلاً وستة ملاحق يبدأ ريتش مذكرات رحلته اليومية الى كردستان يوم (١٦) نيسان سنة ١٨٢٠ وينهي سردها في (٣١) من تشرين الأول بتدوين يومي حين تنتهي الرحلة بدخوله الموصل والمرور على بئر في (داملاماجة) يعتقد الأهلون بأن مياهه شفاء لكثير من الأمراض كما يعتقدون بأنها مسكونة من الجان، سبب رحلته كان بهدف سياحي للترفيه عن النفس وهرباً من قدوم صيف بغداد القائض لكن السبب لم يكن مبعث اطمئنان لوالي بغداد العثماني (داود باشا) وظّن أن هكذا تحّرك لا يخلو من دسائس وتجسس تصب ضده لا لمصلحته .
تحركت القافلة فجراً مصطحباً زوجته (ماري) و(آغا ميناس) ضابط دار الأقامة و مستر (به لي نو) الطبيب الألماني الجنسية وسكرتيره الخاص محاطاً بحاشيته البالغة من (٥٠ - ٦٠ شخص) محملين بالمؤن و ( ١٤) خيمة يمتطون الخيول والدواب ماعدا حرمه خصص لها (تختروان) وهي مفردة تعني بيت مثل المحمل والمحفة يحمل على البغال بواسطة أعمدة وهو يكون في الوسط وبعض الأحيان حسب جغرافية المنطقة تجدها تقوم بأمتطاء إحدى خيول زوجها المقتناة بعناية وعندما يتكلم عنهم يسميهم بالخيول البغدادية .
ريتش، ملتصق بالعادات والقيم الشرقية محافظاً عليها لا يشذ عنها احتراماً، من تلك العادات انفصال قافلة الحريم عن قافلة الرجال مسيرة نصف يوم، وتصف زوجة المستر ريتش بكثير من التفكه كيف أن وصيفتها (أم ميناس) البدينة حشروها في إحدى الكجوات وهي عبارة عن قفص يحمل اثنين منها كل بغل على جانبيه في حين الجانب المقابل ( تقي) خادمها المسكين يقبع كعصفور مما اضطروا الى وضع الأحجار معه لتعادل ثقل الجانب الآخر، وكم كانت كثيرة معاناتهم في التحرك وسط الأوحال لغزارة أمطار نيسان .
قصدوا (طوزخورماتو) وكان يومها عدد سكانها (٥) الاف نسمة وأغلبهم من الترك، يطفو النفط الأسود على سطح الماء على شكل فقاقيع ويقوم الناس باستخراج الملح وتصفيته من النفط وبيعه لكردستان تاركين النفط بمقدار جرتين يومياً لاستخدامات القرية اضافة لمنابع الشب والكبريت لمعالجتهم من الجرب هم وأنعامهم كما يأتي ذكر منطقة (بابا كركر) ومدينة (كفري) المسّورة و كيف أن القرويين يدفنون محاصيلهم من الحبوب في آبار قريبة من قراهم حيث تستّر وتسّوى الأرض من فوقها خوفاً من إغارة القرى المجاورة .
عند وصولوهم تلول كفري وسهل البيات استقبلهم رئيس عشيرة البيات وأحسن ضيافتهم وحكى كيف أن منطقة البيات اخذوها عطية من السلطان ولم يدفعوا فيها أي ثمن مقابل أن يخدموا عسكرياً اذا ما احتاجهم باشا بغداد، أما عشيرة البيات الكبرى فموطنها خراسان.
يصف الرحلة إلى السليمانية وكيف أبلغه (محمود باشا) أن يدخل المدينة في التاسعة صباحاً لحسابات تنجيمية فأمتثل ريتش لرغبة والي المدينة وكانت يومها مدينة متواضعة لم يمض على إنشائها سوى ثلاثين عاماً ، نفوسها (١٠)الاف فيها (٥) خانات وجامعين وحمام واحد أنيق شيده إيراني على غرار حمام كرمنشاه الحديث.
يتطرق لوصف مناخ كردستان وهو أمر دأب عليه في تذييل تقريره اليومي بدرجة الحرارة والتوقيت بدقة متناهية دون ذكر وسيلة القياس إلاّ مرة أخيرة قال عنه محرار وكانت قراءاته جميعها بوحدة قياس الفهرنهايت، كما يسهب في إغناء القارئ بشروحات وافية عن المحاصيل الزراعية من حنطة وشعير وقطن وتبغ و كروم ومنتجاتهم التي يترأسها العسل والجوز والمن والبلوط.
تعلق الكرد برؤسائهم شديداً جداً واذا ما نفى باشا بغداد أحدهم لبغداد عقاباً، يلحق به أفراد عشيرته ومستعدين للعيش بتقشف في بغداد تاركين نعيم ممتلكاتهم وهو أهون عليهم من ترك رئيس عشيرتهم وحيداً في بغداد، ومن هنا نشأت كراهية الكرد من النفي لبغداد.
كان آغوات الأكراد يكرمون ريتش وحاشيته ويهيئون لهم مساكن أحيانا تكون تحت مستوى ذوق ريتش لكنه يتقبلها دون امتعاض ويجري تعميم بأوامر صارمة للسكان من التقرب أو مضايقة الضيف ويواظب الآغوات على زيارته صباحاً مساءً أو دعوته إليهم يقتلهم الفضول لمعرفة أحوال الأنكليز كيف يعيشون وكيف ينظمون أمورهم وكيف يبدو جيشهم وما تفاصيل أسلحتهم.
الكرد مهووسون بعراك الحجل، اقاموا نزالات عديدة إكراماً لريتش وكل طير كان له اسم ويرجع الطائر لوحده الى القفص بعد انتهاء العراك وإذا ما خسر الطائر جولته لا يعود مطلقاً للعراك إلاّ بعد زمن .
الكرد مثل الأيرانيون يأكلون الطعام بتؤدة ولا يزدرونه مثل الأتراك، كما يمدون موائدهم على مرتفع من الأرض وبترتيب وأناقة وهناك من يقف خلف المحتفى به وعلية القوم ليسقيهم بالشنينة اللبن الرائب بحموضة يجفل منها الغريب.
والكردي متميز بامتلاكه بنية رياضية يعشقون الرياضة والفروسية والسيف، لكنهم يجهلون أصول الفروسية كما لا يهتمون بالخيل، بينما العرب فرسان مهرة هادئون، والكرد كشافون ماهرون وأكفاء في الحصول على المعلومات عن معسكرات العدو حيث يمتلكون مهارة التسلل، والطريف كيف انتبه ريتش أن الشيخ الكردي يتكلم ويوجه خدمه أثناء الركوع لذا أسمى صلاتهم أسلوبية. كما أنهم لا يلغطون او يتصايحون فيما بينهم عند الكلام كالإيرانيين .
النساء جميلات المحيا لا يتحجبن كثيراً كالعربيات ويختلطن بالرجال في الحقول والأسواق وملابسهن زاهية خاصة اذا ما عقد عرس في الجوار فأنك ستشاهد أجمل منظر في تراصهن وهن يرقصن الدبكة، رقصة الكرد الفلكلورية. تصف (ماري) زوجة ريتش مجتمع النساء الكرديات وكيف يبدو الحزن عليهن لابتلائهن بوباء الجدري الذي يحصد أطفالهن دون علاج يصده، وعندما ذكرت لهم زوجة ريتش بأن لقاحه موجود وستقوم بطلبه من موطنها لينقذ أعمار أطفالهن، فرحن لحظة ورجعن لحزنهن بعدها مرددين الله كريم.
المشروب الذي تردد ذكره في كل الكتاب هو القهوة ولم يأت على ذكر الشاي ابداً، كما تدخين الغلايين سمة تجمع الكرد نساءً و رجالاً والتبغ المحلي الذي تنتجه مناطقهم يمتاز بهدوء طعمه.
ريتش في مذكراته يسهب في تفاصيل العشائر وأفخاذهم ، أزيائهم وصفاتهم العامة، عاداتهم، حيث عرف عنهم بأن الكرد فرحون اجتماعيون لا يحسدون ولا يتشاتمون و الكرد هم الشرقيون الوحيدون الذين يسهرون إلى ساعة متأخرة من اللّيل، و ينهضون في ساعة متأخرة صباحا، و قليل من سادة السليمانية من يأوي إلى فراشه قبل الثانية أو الثالثة بعد منتصف اللّيل ومن يخرج من داره قبل التاسعة أو العاشرة صباحا، و تكون زياراتهم عادة في الليل فإذا خيم الظلام بدأوا يتزاورون في دور بعضهم البعض حيث يستأنسون بالسمر و التدخين و الموسيقى، ذكر عشيرة الجاف رئيسهم كيخسرو بك وكيف يضعون ريش المالك الحزين على عمائهم، كما جاء على ذكر من صادفهم من اليهود والنصارى النسطوريين والأيزيديين وعندما سألوه ماذا يود ان يُهدى أجاب : كتاب الشرفنامة للمؤرخ شرف الدين البدليسي الذي يعتبر أول كتاب عن تاريخ الإمارات الكردية، ووعدوه خيراً.
بعد مدينة السليمانية رحلوا عبر مضيق كويزة و دخلوا إيران من جهة بحيرة ( زه ري بار) و عبروا جبال ( زاغروس) للوصول إلى ( سنه) عاصمة الأكراد الإيرانية، والكرد بطبيعتهم يكرهون الايرانيين ولو استغل ذلك الأتراك لكان لهم أواصر ثقة مع شعب جسور . ثم زاروا المواقع الأثرية في ( شهرزور) رحلة في الجبال المنيعة المنقطعة التي تسكنها عشائر الكلدانيين المسيحيين ومن ثم إقامتهم في قرية العمادية و وصفه لعشيرة البهدينان وهم من أشرف العوائل، لا يقدم أحد على استعمال أنية او غليون أميرهم، ويقضي الأمير يومه في عزلة وعندما يُقدم له الطعام يقوم بتسوية الجزء الذي أكله حتى لا يلاحظ أحد أنه قد أكل، البهدينان انيقون على الطراز الموصلي يعتمرون شالاً وطربوشاً أحمراً، أمّا عند الصيد يرتدي الأمير لباس خشن ليمكنه من الاستلقاء على العشب .
بعدها عبروا ( التون كوبري) وصولاً إلى أربيل وقلعتها حيث استقبلهم قرب المدينة نائب حاكمها على رأس خمسين خيالًا ويمزح ريتش عندما يصفهم حيث يقول :"كاد الغبار يخنقنا قبل ترجلنا من كثرة عددهم و حركة خيولهم "، يستمر في رحلته وصولاً إلى جبل مقلوب و نهر الخابور إلى أن دخلوا الموصل من جهة كرمليس.
لا يغيب على القارئ الحصيف ان للرحلة عذاباتها لتفشي الأوبئة وكثير ما صادف اعتلال صحة القافلة بكاملها، وقد فارق الحياة بعض من رجالاته من شدة مرضهم، و في بعض الصفحات تجد ريتش نفسه يشكو مرضا يمنعه من كتابة يومياته بإسهاب .
الكتاب ممتع في كونه عين ثالثة عن العراق في حقبة يندر أن تجد عنها ما يروي ظمأ القارئ الباحث، وقد أثنى عليه الدكتور (علي الوردي) عالم الاجتماع المعروف رحمه الله، وقد أثرى المترجم ترجمته بجهد زخر بهوامش غنية من إيضاحات وأسماء الامكنة التي تبدلت بفعل الزمن والوصف الجغرافي للمنطقة في وقتنا الحاضر و حسابات المسافات بين القرى ومعاني الاسماء الكردية التي يأتي على ذكرها ريتش، مستمداً خزينه المعرفي من ثقافته الواسعة المنحدرة من أصوله الكردية الكريمة، كل هذا ساهم في إخراج الكتاب بحلة قشيبة.
التعليقات