اصدر "هيثم فتح الله عزيزة" (1955) كتابا عن المصور الفوتوغرافي العراقي "مراد الداغستاني" (1917 – 1982)، بعنوان: "مراد الداغستاني بين الفن البصري والتشكيل الفوتوغرافي". وقد صدر في 2020 عن "مطابع الاديب" في عمان/ الاردن، وبـ 226 صفحة من القطع الكبير. وبهذا الكتاب وبمحتواه الغني من نماذج متعددة ومتنوعة المضامين من ارشيف المصور الموصلي الراحل، يستحضر "هيثم فتح الله" أَهْلِيّة وكفاءة "مراد الداغستاني" وشخصيته كمصور مميز ومؤثر في المشهد الفوتوغرافي العراقي. لقد سعى "هيثم عزيزة" المثقف العراقي صاحب مطابع الاديب (وهو، ايضا، احد المصوريين العراقيين المعروفين)، بهذا العمل الاشادة بالمصور الراحل والتذكير بمنجزه التصويري كقيمة فنية، جديرة بالاهتمام والدرس، وضرورة التعاطي معه ومع ارثه التصويري كاحد الفنانيين العراقيين الذين اضافوا الكثير الى الفن العراقي وساهموا في تنويع اجناسه الابداعية. وهذا الاصدار الذي تبناه شخصياً الفنان الفوتوغرافي "هيثم عزيزة" وحققه في صيغة طباعية وجمالية عاليتين وعلى حسابه الخاص، يستدعي الى الذاكرة غياب دور المؤسسات الثقافية العراقية وخصوصا دور وزارة الثقافة وتقاعسها بالنهوض بواجبها "الشرعي" والوظيفي في مهام الاعتناء برموز الفن العراقي ونشر نتاجهم الفني في اوساط عريضة داخل البلاد وخارجه. كأن الجهات الثقافية الرسمية بمثل هذا التغاضي غير المفهوم تزيح "عبئا ثقيلا" عن "كاهلها" وتنقله الى آخرين؛ كأنها تتنصل من أداء واجبها المناط بها، من دون سبب مقنع، كأن اصدار ونشر نتاجات المثقفين العراقيين <رجساً> من عمل الشيطان يتعبن تجنبه وتفاديه! (وبالمناسبة، فثمة "أُناس" يتواجدون، حالياً، في المشهد الثقافي المحلي العراقي يؤمنون يان بعض الفنون، وربما حتى "كلـها؟أ" هي من رجس الشيطان!). والا فكيف يمكن ان يفسر المرء هذا الاهمال وهذا الامتناع من قبل الجهات الرسمية (الثقافية تحديداً) للقيام بادنى متطلبات الانشطة المعرفية المتواضعة وتكريس حضورها وديمومتها في الخطاب الثقافي وفي اوساط اجتماعية متنوعة؟! لكن ذلك...قصة آخرى!
واضح من اصطفاء عنوان الكتاب، بان المؤلف يتوق ان يكون اهتمامه في منجز مراد الداغستاني منصبا على ناحيتين اساستين: رؤية منتجه التصويري من وجه نظر فنية بصرية، والناحية الاخرى قابلية ارتقاء هذا المنتج الى مصاف الاعمال التشكيلية. فالمصور/ الفنان يتطلع دائما ان لا يحصر نفسه في حدود عمله المهني، حتى وان كان ذلك العمل متقنا وكفوءاً وانما يسعى وراء الخروج بعيدا عن محدداته واشتراطاته، منتجا لنا، نحن متابعيه ومحبي أعماله، "شغلا" فنياً لافتاً ومدهشا في آن! وعن هذة النقطة تحديدا، يكتب "هيثم عزيزة" في كتابه ما يلي" ..كان مراد يبحث داخل الغرفة المظلمة عن بدائل للصورة الفوتوغرافية العادية؛ فكان حينها يبدل المواد الكيمياوية لغسل الافلام او الصور لكي يزيد من التباين اللوني للصورة، او اعطائها مسحة لون بني (Sepia color) بدل الاسود والابيض. كما كان يستخدم تقنية دمج الفلم السالب مع الفيلم الموجب الذي يحصل عليه من التلامس المباشر بين الفلمين ومن ثم يحذف بعض الأجزاء ليدمجه مع بعض (Sandwich Film)، ليحصل على صورة فنية مغايرة للاصل، هي بالتونات اقرب الى اللوحة الفنية منها الى الصورة الفوتوغرافية المباشرة " (صفحة 34). وكإيماءة تحية واحترام الى اسلوب مراد الداغستاني هذا، فقد ذهب مؤلف الكتاب: المصور "هيثم عزيزة" الى انتاج عمل شبيه بذلك الاسلوب المحبب الى قلب الفنان الداغستاني، وهو عمل "نسخة" جديدة من ذلك البورتريه الشخصي للفنان والمعروف على نطاق واسع، ".. من خلال دمج الفلم السالب مع الموجب، ولكن باستخدام تقنيات البرمجة الحديثة المستخدمة في معالجة الصور وليس العمل في اجواء الغرفة المظلمة، كما كان يعمل مراد"، كما يشير مؤلف الكتاب الى ذلك في صفحة 34 -35. وقد نشر المؤلف تلك الصورة المشغولة بتلك الطريقة "الداغستانية" في كتابه.
يتعقب "هيثم عزيزة" في كتابه المهم عن المصور الداغستاني، اشكالية "التأثر والتأثير" في المنتج التصويري لهذا الفنان الرائد. ويرى في هذة الثيمة، احدى الموضوعات الممتعة والمفيدة التى باستطاعتها ان تثري منتج اي فنان، وتكسبه اتقانا،ً مثلما تمنحه جدارة مهنية. واذكر من خلال العديد من مطالعاتي عن فن التصوير الفوتوغرافي (والذي امارسه شخصيا)، بان كبار المصوريين كانوا دوما يحثون قرائهم بضرورة "تكرار" لقطات المصوريين المحترفين المميزة، لجهة الاستفادة منها في تكريس مهارات المصور الناشئ وغير الناشئ ايضاً. ينقل مؤلف الكتاب عن فؤاد شاكر المصور العراقي الراحل بانه سئل الداغستاني في لقائه معه سنة 1975عن المصوريين الفوتوغرافيين الذين تأثر بهم وباسلوبهم التصويري، فاجاب الداغستاني بانه "يوسف كارش" المصور الارمني الذي هاجر من تركيا الى كندا ليبدع بتصوير كبار رجال السياسة وفناني عصره (صفحة 26). كما يسرد هيثم عزيزة واقع كثيرة عن تأثر الفوتوغرافيين العراقيين بعضهم على البعض الآخر، فيكتب "..من خلال دراستي لصور الفنان الراحل ناظم رمزي ومقارنتها باعمال مراد الداغستاني وجدت بعض الصور التقطها الاثنان بنفس الرؤية ونفس الروحية ونفس الموضوع تقريباً، فصورة ظل الدراجة التى صورها مراد في الموصل وصورة ظل الدراجة التى صورها رمزي في فرنسا عام 1965 تعطي نفس الفكرة والرؤية التسجيلية" (صفحة 46). كما يورد مؤلف الكتاب عدة نماذج تصويرية آخرى لمختلف المصوريين العراقيين ويرى مقدار تأثرهم بمنتج مراد الداغستاني، فيعقد مقارنات ما بين نتاج لطيف العاني وفؤاد شاكر والمصور كوفاديس ونور الدين حسين وهادي النجار وكذلك سامي النصراوي وغيرهم مع نتاج مراد الداغستاني وتعلم الاخرون منه كمعلم بارز في مجال اختصاصه.
في الكتاب ثمة اشارات عديدة الى اساليب مراد الداغستاني التصويرية ومقارباته الفنية في انتاج الصورة الفوتوغرافية بدءا من فنية اللوحات التصويرية لمشاهد "النهر" المغرم بتصويره مراد، مرورا بلوحاته المتضمنة ثيمة "الحياة الجامدة" وانتهاء بصوره الشخصية البورتريتيه المعبرة والرائعة التى اجاد مراد بها أيما إجادة! انه كتاب جدير ان يطلع عليه اولا المهتمين بالصورة الفوتوغرافية ومحبي الفن العراقي والثقافة عموما. واذ نود ان نعرب عن امتنانا الكبير وامتنان كثر من القراء للهدية المميزة والممتعة التى اهداها "هيثم عزيزة" الى محبي ومتابعي فن مراد الداغستاني وعشاق التصوير الفوتوغرافي عموما، فاننا نود ان نسجل بعض ملاحظاتنا السريعة عن الكتاب. لم اجد، شخصياً، مبررا كما لم اكن تعاطفا كبيرا لاسلوب تأليف الكتاب وعرض محتواه بالطريقة المختارة. اذ اعتمد المؤلف على تبيان رؤاه وذكر مضامين كتابه على سرد "مستمر" من دون ان يراعي "تفصيل" الكتاب وتقسيمه الى فصول او اقسام ذات عناوين محددة تشي بمحتوى مضمون النص الآتي للقارئ. انه اسلوب اراه سجاليا ومرهقا للقارئ الذي يود ان يتوقف عند نقاط تهمه وعن كيفيه تعاطي مراد الداغستاني لها. كما لم يتضمن الكتاب "صفحة" المحتويات، التى تعطي القارئ لمحة اولية عن الكتاب. وكان بالامكان تسجيل "سيرة ذاتية" لمراد الداغستاني والتعريف به كاحد الاهداف المرجوة من تأليف هذا الكتاب، ان وجود السيرة الذاتية في كتاب مكرس لاحد الفنانين العراقين ، اجده امرا نافعا وحتى ضروريا زيادة في التعريف بقيمة الفنان وبانجازه عبر السنين. ومثما وجدت مسوغا ضروريا لتسجيل سيرة ذاتية المؤلف في الكتاب، وددت ان تكون سيرة الفنان مراد حاضرة بين ثنايا صفحات هذا الكتاب المهم. على ان هذة الملاحظات لا يمكنها باي حال من الاحوال تقلل من قيمة الكتاب المهم والمميز، والمطبوع طباعة فاخرة، تليق بمنجز مراد الداغستاني الرصين. لقد استطاع "هيثم عزيزة" من خلال استعادة منجز مراد الداغستاني التصويري اللافت ان يستحضر قيمة الفنان الداغستاني ومكانته في الفن العراقي.
معمار وأكاديمي

الصور
1-غلاف الكتاب
2-"حياة جامدة" تصوير مراد الداغستاني.
3-بورتريه مراد الداغستاني وبمداخلة فنية خاصة من مؤلف الكتاب
4-"منارة الحدباء في جامع النوري"، تصوير: مراد الداغستاني
5-"رعاة في اطراف مدينة الموصل"، تصوير: مراد الداغستاني.