بقلم: إبراهيم أزروال

لا يقف المؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري (1835-1897م (من حركة الأمير عبد القادر الجزائري(1808-1883م) موقف المؤرخ المتجرد عن كل القبليات والبعيد، زمانا و وجدانا و فكرا، عن الحدث الموصوف، بل يقف من هذه الحركة موقف المؤرخ الملتزم بمنظور وتقدير سياسي واختيار فكري-فكراني محدد.
والواقع أنه يصعب الاكتفاء، بمنظور المؤرخ المتجرد عن المسبقات الفكرية والسياسية، في قراءة مسارات الأمير عبد القادر ولا سيما في سياقات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الموسومة،مغربيا ومغاربيا ، بانبثاق وعي نهضوي قلق وإشكالي و باشتداد الضغوط الأوروبية على المغرب. تشتبك في هذه المسارات المعقدة وفي مسارات الناصري المؤرخ، معطيات التاريخ وخفايا الأرشيف، ومنعرجات السياسية واختلاف المقاربات المعتمدة في قراءة السجلات المعيارية وفي تأويل مفاهيم وآليات السياسة الشرعية وتقييم السياسات المتبعة في التفاعل ومواجهة القوى الأوروبية.

تقييم الناصري لتجربة الأمير عبد القادر :
لم يكتف المؤرخ الناصري في "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى " باستعراض مسار الأمير عبد القادر السياسي والحربي بعد سحب الجيش المغربي من تلمسان إثر احتداد المجابهات مع الكرغلية والزمالة والدوائر والقبائل الرافضة للبيعة وتجاوزات الودايا والعبيد، بل نقد تجربته ومواقفه السياسية، وأشار إلى مواطن الاعتلال في عمله الميداني.
فرغم براعة الأمير الحربية و إحرازه انتصارات هامة في واقعات ومنازلات حربية متعددة( وقعة المقطع مثلا) ،فإنه لم يتمكن من إيقاف توسع القوات الفرنسية، ولم يحرر الفضاءات المحتلة ولم يؤثر عمقيا في صياغة المعادلة الميدانية .يشير الناصري هنا ، إلى حدود حرب الكمائن ،وصعوبة تغيير مجرى الحرب في غياب التكافؤ بين جيش عصري خاضع لتنظيمات حديثة وقوات قبلية –عرفانية تقليدية .
(إلا أن ضرر الحاج عبد القادر للفرنسيس كان مقصورا على قتل النفوس واستيلاب الأموال، وأما الفرنمسيس فكان ضرره بالمسلمين عائدا على تملك بلادهم و تنقصها من أطرافها. ودام ذلك مدة من ست عشرة سنة.) -1-

نصائح الأمير عبد القادر :
نوه الناصري بنصائح الأمير عبد القادر للخليفة سيدي محمد بن عبد الرحمن(1810-1873م)،وتحذيره من اعتماد الأساليب التنظيمية أو القتالية المعتاد في مواجهة القوات الفرنسية المسلحة تسليحا حديثا والمعتمدة على تقنيات قتالية عصرية.
(..قال الحاج عبد القادر :إن هذه الفرش والأثاث والستارة التي جئتم بها حتى وضعتموها بباب جيش العدو ليس من الرأي في شيء ،ومهما نسيتم فلا تنسوا أن لا تلاقوا العدو إلا و أنتم متحملون منكمشون بحيث لا يبقى لكم خباء مضروب على الأرض وإلا فإن العدو متى رأى الأخبية مضروبة لم ينته دون الوصول إليها ولو أفنى عليها عساكره ،وبين كيف كان هو يقاتله.) 2-
كما أشار إلى تجاهل نصائحه، "لانفساد البواطن" ولاستحكام العوائد القديمة وعدم التمرس بأساليب القتال الحديثة.
(وكان هذا الكلام منه صوابا إلا أنه لم ينجع في القوم لانفساد البواطن ولا حول ولا قوة إلا بالله ،وربما انتهره بعض حاشية الخليفة على التفصح بمحضره والإشارة عليه قبل استيشاره ..) 3-
لقد استحسن الناصري موقف الأمير عبد القادر ونصيحته، وأشار إلى مواضع الاعتلال في الجيش.والواقع أن النخب الثقافية المخزنية تداولت وتجادلت طويلا قبل معركة ايسلي(1844م) وبعدها حول حرب الكر والفر وقتال الزحف وتنظيم الجيش دون أن تنتهي إلى بلورة تصورات عقلانية أو مقاربات تاريخية للشأن العسكري.
وقد ذكر في معرض حديثه عن وقعة تطوان(1859-1860م) ، ما شاب إدارة الجيش من اختلال في واقعة جيان(1818م) ووقعة زاوية الشرادي في عهد المولى سليمان(1760-1822م) ، وتلمسان وايسلي(1844م) في عهد المولى عبد الرحمن بن هشام.
(ولما شهدوا مع الخليفة سيدي محمد بن عبد الرحمن وقعة إيسلي جاءوا بها شنعاء غريبة في القبح،ولولا أنه قام بنفسه ليلة الحاج عبد القادر[الجزائري ] ومنع الناس من الركوب لربما عادوا إلى فعلهم ،وأحسن ما كانت حالهم في هذا الحرب فإنهم قاوموا العدو ، وفرقوا صفوفه غير مرة ،لكنهم أتوا من عدم الضبط الذي هو كضبطه فعدم ملاقاتهم للعدو في الكيفية القتالية هو الذي أضر بهم و أوجب لعدوهم الظهور عليهم ...)4-
لا يتردد الناصري، رغم قناعاته الفكرية وموقعه الوظيفي –السياسي، من نقد مواطن الاعتلال واستصواب واستحسان ما يقبل الاستصواب والاستحسان.

تحولات الأمير:
لقد كان الأمير مثابرا على مصاولة ومجاهدة القوة الفرنسية الاستعمارية، قبل أن يحيد عن نهجه وينخرط في معامع السياسية حسب الناصري .و هكذا يميز الناصري بين القائد المثابر على الجهاد ومصاولة المستعمر ،والسياسي الباحث عن مجد سياسي شخصي .من البين إذن ،أن الناصري ينوه بجهاد الأمير عبد القادر في طوره الأول ،ويدين سياسته المفضية إلى الفتنة والتمزق والتناهب في طوره الثاني . إذ فيما يرسخ جهاده تحت راية الشرعية القائمة ،الشرعية السياسية وتماسك الصفوف ،فإن توقه إلى التسيد يفضي إلى الفتنة واختلال المعايير القيمية والسياسية.
(وبالجملة فلقد كان الحاج عبد القادر هذا في أول أمره على ما ينبغي من المثابرة على الجهاد والدرء في نحر العدو،لولا أنه انعكس حاله في آخر الأمر ،وخلصت الأرض للفرنسيس ، والله غالب على أمره.) 5-
ويرجع الناصري تراجع عبد الأمير القادر،إلى فساد النية واستفساد جند ورعية السلطان .
(وكان الحاج عبد القادر لا زال جائلا في تلك الناحية ومعه نحو خمسمائة فارس ممن كان قد بقي معه من أهل المغرب الأوسط لأن حاله كان قد أخذ في التراجع والانحطاط ،ولم تبق له هنالك كبير فائدة بل انقلب نفعه ضررا وحزمه خورا بفساد نيته،واستفساده لجند السلطان ورعيته.) 6-
وقد أورد الناصري نص كتاب السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام بعد الانتصار على عبد القادر الجزائري.وهو نص ذو حمولة سياسية نقدية حادة، يتهم فيه صاحبه الأمير صراحة، بإثارة الفتنة والجسارة والعناد والتضليل واستبطان المكر والخداع والاستبداد و التشوف إلى الإمارة.
لقد انتقل الأمير عبد القادر-حسب نقاده- من الجهاد الموجه إلى مغالبة ومصارعة المستعمر إلى السياسة المفضية بالضرورة إلى خلخلة البنى السياسية وتوهين التوافقات و التوازنات السياسية القائمة آنذاك.
( وبعد ،فإن الفاسد الفتان وخليفة الشيطان ،أبعد في الجسارة ،وامتطى مطي الخسارة ،واستوسع سبيل العناد ،واستضل سبيل الرشاد ،وقال من أشد منه قوة ،وسولت له نفسه الأمارة الإتصاف بالإمارة ،وأراد شق عصا الإسلام وصدع مهج الأنام ،فأعلن بكل قبيح واستشكل كل صريح ،واستبطن المكر والخداع ،وفاق فيه عابدي ود وسواع ،وشاع في طرف الإيالة ضرره ،وساء مخبره ،وهو في خلال ذلك يظهر مظاهر يستهوي بها أهل الجهالة ،والعماية والضلالة ،فأيسناه من رشده ،وعرفنا مضمر قصده ..)7-
وقد كتب المولى عبد الرحمن بن هشام إلى مشايخ بني يزناسن وأهل أنكاد ،منددا بتدابير الأمير ومناوراته وسعيه العملي إلى نقض صلح شرعي والافتئات على الإمام كما جاء في " تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر و أخبار الجزائر" لمحمد باشا ابن الأمير عبد القادر .
وكما لم يتمكن الأمير عبد القادر من إدارة العلائق بالمخزن بما يحقق القصد، فإنه لم يتمكن من تطويق الاختلافات الداخلية والحيلولة بين الزمالة والدوائر وبين موالاة ونصرة الفرنسيين. واعتبر الناصري تولية المصطفى بن إسماعيل السبب الأكبر في توسع وتحكم الفرنسيين ببلاد المغرب الأوسط.
(ثم إن الزمالة والدوائر لجوا في موالاة الفرنسيس ،وأحكموا أمرهم معه ،وولوا عليهم رجلا منهم يقال له المصطفى بن إسماعيل كان هو السبب الأكبر في تملك الفرنسيس بلاد المغرب الأوسط ،وجل الحروب التي كانت تكون بين المسلمين والنصارى في تلك المدة على يده إلى أن قتل ....)8-
فأيا كانت قيمة المهارة الحربية ،فإنها لا تلغي ضرورة التوافق السياسي وتحقيق التواهب ،مهما اختلفت الآراء والتوجهات والمقاصد.

الناصري وعرفانية الأمير عبد القادر :
لا يركز الناصري على الخلفية العرفانية والصوفية للأمير عبد القادر ولحركته ولنجاحه النسبي في البداية ؛ولذلك فهو يلح على كفاءته القيادية والحربية ،ومهارته في إدارة المنازلات والاشتباكات الحربية وحروب الكمائن دون أن يشير إلى دور الفكر والتطلعات والتنظيمات الصوفية-العرفانية في صقل الوجدان الفردي والجمعي و صياغة القرار وبناء التحالفات بالمغرب الأوسط آنذاك.
(وكان له[يقصد الفقيه المرابط محيي الدين المختاري] يومئذ عدة أولاد،ليس الحاج عبد القادر أكبرهم ،ولا أعلمهم ،ولا أصلحهم ،وإنما كان فيه مضاء وإقدام ،فاستعفوه بشرط أن يكون نظره منسحبا عليه ،ومشيرا بما تدعو الضرورة إليه .) 9-
وهكذا، ففيما يشير إلى قدراته الحربية، فإنه يغفل كفاءاته المعرفية وتطلعاته وتكوينه العرفاني وانتماءه الصوفي إلى القادرية.و من الثابت أن الأمير استفاد من هذا الانتماء في الاستنفار والتعبئة والتحالف واستجلاب الموارد.
**
احتكم الناصري في تقييمه لمسار وتجربة الأمير عبد القادر الجزائري،إلى نظيمة فكرية شرعانية وإلى موجهات معيارية مشتركة بين مؤرخي القرن التاسع عشر (أبو القاسم الزياني ،محمد بن أحمد أكنسوس ومحمد المشرفي وعلي السوسي ...).ومن المعلوم أن الكتابة التاريخية المغربية التقليدية ،تحتكم إلى محددات السياسة الشرعية في النظر والتوصيف والتقييم وإلى مواضعات السياسة الوقتية في التقدير والحكم.
ومن الجدير بالذكر أن الناصري أكد التزامه بالوقائع وابتعد عن التعصب في تقييمه النقدي السلبي لحركة الأمير ونتائج جهوده الحربية –السياسية.
(واعلم أنه قد يقف بعض المنتقدين على ما حكيناه من أخبار هذا الرجل فينسبنا إلى تعصب وسوء أدب،والجواب أنا ما حكينا إلا الواقع ..) 10-
لا ينفي تأكيد التجرد والنزاهة ،الانحيازات اللاشعورية والشعورية ،والتأكيدات الراجعة إلى مقتضى النظيمة ،فكرا ومنهجا وإلى مقتضى التدبير السياسي موقفا وتقييما وترجيحا.

الهوامش :
1- أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا-لأخبار دول المغرب الأقصى ،تحقيق وتعليق :أحمد الناصري،منشورات وزارة الثقافة والاتصال ،2001، الجزء 8،ص.54-55.
2-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 60.
3-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 61.
4-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 112.
5-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 55.
6-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 60.
7-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 73.
8-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 53.
9-أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 51.
10- أحمد بن خالد الناصري ،كتاب الاستقصا ، الجزء 8،ص. 72.

أكادير –المغرب